القيامة

القيامة استنارة

ينحصر هذا العالم في فعلَيْن: الميلاد والموت. ويُحكم ببُعدَيْن: الزمان والمكان.. لكن القيامة فِعل ثالث فوق الميلاد والموت، وخارج حدود الزمان والمكان.. لذلك فالقيامة تخرج من نطاق المنطق العقلي، ومع ذلك فهي حجر الزاوية في الإيمان المسيحي. لقد كانت الكنيسة الأولى تعيش بالفعل حالة يقين الإيمان بالقيامة،

ليس فقط كمبدأ إيماني أو عقيدة لاهوتية، لكنها كانت تعيش في حالة قوة القيامة كحقيقة مُعاشة. وقصة تلميذي عمواس من أكثر القصص المُشوِّقة المُتعلِّقة بالقيامة، وهي الأكثر جاذبية وإثارة.. إنها قصة ظهور المسيح بعد قيامته لاثنين من تلاميذه كانا مِن قرية عمواس، وكان اسم أحدهما كليوباس. وقد انفرد لوقا بتسجيل هذه القصة حتى ظنَّ البعض أنه كان هو التلميذ الثاني.

وفي كلّ عيد قيامة مجيد نتأمَّل في جانب مِن الجوانب التعليمية والروحية حول هذا الموضوع الهام، الذي ننهل منه في كل مرَّة دون أن ينضب. وقد تعلّمنا عن القيامة أنها: حقيقة، فائدة، فرح، شهادة، حياة، أكيدة، مُصالحة، ونُصرة. واليوم من خلال قصة تلميذي عمواس نتعلَّم أن القيامة استنارة.

وتدور أحداث القصة بعد غروب شمس يوم الأحد الذي قام فيه المسيح، بعد أن عاد بطرس ويوحنا حاملين بُشرى القبر المفتوح لبقية التلاميذ في العلية، وقبل أن أتت مريم المجدلية أيضاً حاملة رسالة المسيح الحي المُقام. وكان التلميذان يتحدَّثان وهما عابسَيْن عن آخر الأخبار: آلام وموت المسيح.. كلام النسوة.. القبر الفارغ… الخ. وبسبب غيابهما عن محضر التلاميذ فقدا مغزى أهمّ حدث في التاريخ، لأنهما ركَّزا على المشاكل والأحلام الضائعة، لدرجة أنهما لم يعرفا هذا الغريب الذي كان يمشي معهما، وكان هو يسوع نفسه. لقد فكَّرا بطريقة خاطئة وناقصة عن يسوع، لأنهما كانا بعيدَيْن عن شركة المؤمنين في علية أورشليم، فلم يستطيعا رؤية يسوع المُقام من الأموات. وكذلك نحن طالما كنَّا بعيدين عن هذه الشركة.

والقبر المفتوح كان أحد وأهمّ براهين قيامة المسيح، لكننا في هذه الرواية سنرى أيضاً الحوار المفتوح والقلب المفتوح والكتب المفتوحة والأعين المفتوحة المُستنيرة. وفي هذه القصة نرى:

(1) الحوار المفتوح:

لقد فتح يسوع الحوار معهما حيث كانا أشبه بفتيلةٍ مُدخِّنةٍ، فأراد يسوع أنْ يُشعلها ويُضرمها. فسألهما سؤال الطبيب للمريض ليُعالج مرضه، وسؤال الصديق الذي يُشارك صديقه في آلامه “ما هذا الكلام.. وأنتما عابسَيْن؟”. فكان جواب أحدهما: يبدو أنك الزائر الوحيد في أورشليم الذي لم يعرف بالأحداث الجارية في المدينة: ما حدث ليسوع الناصري، الظُّلمة، والزلزلة… فعاد يسوع يسألهما “وما هي هذه الأحداث؟”، فكان سؤاله هذا بمثابة المفتاح الذي فتح قلبيهما وبصيرتهما.

(2) القلب المفتوح:

فَتْح الحوار يفتح القلب، لذلك انفتح قلبيهما وتدفَّق الكلام منهما كالسيل لهذا الغريب الذي رافقهما، فقدَّما لربِّ الإنجيل إنجيلاً جديداً خاصاُ به لكنه ناقص على قدر نقص معرفتهما. كانت معلوماتهما عن المسيح أنه: الناصري.. إنسان نبي.. مقتدر في الأقوال والأفعال.. مُتمتِّع برضا الله والناس. لكنهما لم يعرفا أنه هو المسيح ابن الله. وبسبب هذا النقص الخطير في المعرفة ضاعت أحلامهما وانتهت آمالهما، وظهر هذا في قولهما “كنَّا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل”. لم يكُن المسيح هو السبب في خيبة الأمل هذه، بل سوء فهمهما لمعنى الفداء، وطبيعة شخصية المسيا كان هو السبب. لقد كانا ينظران إلى الفداء نظرة سياسية قومية عالمية.

لقد علِما أنَّ القبر كان فارغاً، لكنهما لم يفهما أنَّ المسيح قام من الأموات. لقد سمعا شهادة النسوة وأدلتهنَّ لكنهما لم يقبلا هذه الشهادة. لذلك ملأ الحزن واليأس قلبيهما. وبرغم نبوات الكتاب المقدس عن ذلك الحدث، إلا أنهما لم يؤمِنا. لقد أُمسِكَت أعيُنهما، وتطلَّب الأمر بالنسبة لهما وجود المسيح الحيّ المُقام في وسطهما. أما بالنسبة للكثيرين اليوم، الذين يختبرون مِثل هذا الحزن واليأس، فهم في حاجة لوجود مؤمنين أحياء بينهم، يقومون بدور المسيح الذي عالج مأساة هؤلاء الذين فتحوا قلوبهم له، بأنْ فتح أمامهما الكتب، فانفتحت أعينهما واستنارت.

(3) الكتب المفتوحة:

فَتْح الحوار يفتح القلب، وعندما تنفتح القلوب يظهر ما فيها من نقص، لذلك فتح يسوع الكتب لكي يعالج هذا النقص. وبدأ الحجاب الذي كان يستتر به يرقُّ تدريجياً، ويكشف عن ذلك المُعلِّم العظيم الذي له كلّ السلطان أن يوبِّخ ويعلِّم.. لقد جلب كلامهما تأنيباً وتعنيفاً حاداً من المسيح “أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلَّم به الأنبياء”. لقد وبَّخهما لأنهما لم يستعملا العقل في تفسير وإدراك نبوَّات الكتاب في شأن المسيح، وتبعا رأي العامة دون انتباه. كما وبَّخهما لأنهما لم يعرفا إلا بعضاً ممَّا تكلَّم به الأنبياء عن المسيح وليس “جميع” ما قاله الأنبياء عنه. لقد قبِلا فقط ما كان يشير إلى نُصرة المسيح وأمجاده، وأهْملا ما كان يشير إلى آلامه واتضاعه استعداداً لتلك الأمجاد. إنَّ جذور مُشكلتهما تكمُن في إيمانهما بجُزء فقط مِمَّا تكلَّم به الأنبياء وليس “جميع”. لذلك بيَّن لهما المسيح أنَّ هذه الآلام لم تكُن مجرَّد احتمال، تكون أو لا تكون بحسب الظروف والأحوال، بل كانت أمراً حتمياً. فالمسيح ينبغي أن يتألَّم، لكن آلامه ليست هي نهاية المطاف لأن هناك قيامة ونُصرة وأمجاداً. ثمَّ ابتدأ يسوع يقدِّم لهما أروع وأدقّ وأفضل درس كتاب. وابتدأ من أسفار موسى الخمسة مروراً بجميع أسفار الأنبياء والمزامير، يشرح لهما الأمور المتعلِّقة به فيها. إنه هو الخيط الذي يربط جميع هذه الأسفار، فهو موضوعها الأساسي.

بعد أن أوضح التلميذان حيرتهما ليسوع، أجابهما بالعودة إلى الأسفار المقدسة لإدراك ما فيها بوعي. إننا عندما نرتبك ونتحيَّر ونحزن ونيأس أمام المشاكل والمسائل، علينا أن نتَّجِه إلى كلمة الله فنجد فيها عوناً وتشجيعاً وشفاءً ونوراً. وإنْ كنَّا لا نفهم ما يقصده الكتاب المقدس، أو نفهم بعضه بطريقة خاطئة أو ناقصة كما حدث مع هذين التلميذين، فلنتَّجِه إلى مؤمنين آخرين أكثر معرفة وفهماً روحياً لكلمات وأسفار كلمة الله.

(4) الأعين المفتوحة:

إنَّفَتْح الحوار يفتح القلب، وفَتْح القلب يفتح الكتب، وفَتْح الكتب يفتح الأعيُن. عندما انفتح باب الحوار انفتحت القلوب وانفتحت الكتب المقدَّسة، فاستنارت الأذهان والتهبت القلوب. لقد تأثَّرا بدرس الكتاب الذي قدَّمه يسوع، فألزماه بالدخول إلى بيتهما، فدخل ومكث واتكأ ليأكل معهما. وعندما بدأ في تناوُل الطعام حدث شيء ما حرَّك مشاعرهما، أو لعلَّهما شاهدا في يديه آثار المسامير لأول مرَّة. وفي الحال عرفاه. لقد “انفتحت أعينهما” عندما رُفِع البُرقع الذي كان يمنعهما من معرفة أن يسوع هو المسيح الرب. واستطاعا تفسير ما حدث معهما خلال هذه الرحلة الشيِّقة، وتذكَّرا كيف كان قلبيهما ملتهباً فيهما عندما سمعاه يفسِّر الكتاب، وعرفا أن معرفة يسوع قد أثارت فيهما أعمق المشاعر. ويقول تقليد قديم إنَّ يسوع اعتاد أن يقول لتلاميذه: مَن كان قريباً منِّي فهو قريب من نار التطهير.

إننا عندما نسمع تفسير الكتاب سوف نكتشف معانيه السامية الغنية التي كانت محجوبة عنَّا بسبب جهلنا وضعفنا وتعصُّبنا، فهل نختبر مِثل هذه المشاعر الحارَّة، فتنفتح أعيننا وتلتهِب مشاعرنا عندما نسمع تفسير الكلمة؟ لقد حدث ذلك مع تلميذي عمواس عندما فتح يسوع الحوار معهما فانفتحت قلوبهما وكشفا ما فيها من مشاكل ومخاوف ومتاعب، ففتح لهما الكتب فانفتحت أعينهما والتهبت مشاعرهما. فقاما حالاً بإخبار بقية التلاميذ والرسل، وتحدَّثوا معاً بفيضٍ عن أخبار القيامة وظهورات الربّ الحيّ المُقام. هذا ما يعمله الرب المُقام معنا، وهذا ما يجب أن نعمله أيضاً.

(5) الأبواب المفتوحة:

الذي تنفتح عيونه وقلبه، يعود ويفتح الحوار مع الآخرين ليفتحوا قلوبهم ويفتحوا كتبهم فيستنيروا وينالوا البركات الروحية. يُخبرنا يوحنا (19:20) أنَّ التلاميذ كانوا مجتمعين في العلية، ولسبب الخوف من اليهود أغلقوا الأبواب، لكن يسوع دخل والأبواب مغلَّقة وتركها مفتوحة وجعلها مفتوحة دائماً.. ومع أنهم كانوا يخبرون للتوّ تلميذي عمواس أن الرب بالحقيقة قام، وكانوا يسمعون منهم الخبر نفسه مع برهان جديد، إلا أنهم خافوا عندما رأوه فيوسطهم وحياهم بتحيته المعهودة “سلام لكم”. لقد ظنُّوه خيالاً لأنهم كانوا في حالة خوف مِن اليهود وكانت الأبواب مُغلَّقة، لكن عندما دخل الربُّ المُقام وفتح الأبواب ووهبهم سلامه وبرهن لهم قيامته، فتح عيونهم ليروه بحواسهم الطبيعية، وفتح أذهانهم المُغلقة أيضاً فاستناروا، ودعاهم ليخرجوا إلى العالم.

(6) الأذهان المفتوحة:

إن الآية (44) هي خلاصة الكثير ممَّا قاله يسوع، حتى ظنَّ البعض أنَّ لوقا قدجمع في هذه الآية مضمون ما علَّمه يسوع لتلاميذه في الأربعين يوماً الت يكان يظهر لهم فيها قبل صعوده. وكما قدَّم أروع درس كتاب لتلميذي عمواس، قدَّم أيضاً درساً آخر للتلاميذ جميعهم، متّبعاً الأسلوب نفسه. ولا بُدأنه فسَّر لهم النبوات المتعلِّقة به، ومعنى الطقوس والرموز، وهكذا انفتحت أذهانهم “حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب”.

إنَّفتح الأذهان هو النتيجة الطبيعية لفتح الكتب، لقد حدث مع التلاميذ كما حدثت ماماً مع تلميذي عمواس إذ انفتحت أعينهما. لقد استنارت عقولهم بفعل روحه القدوس، فأدركوا المعاني الروحية لما كُتب في العهد القديم، تلك التي كانت مُخفاة عن أذهانهم التي طمستها العقلية اليهودية الضيقة. وهذه الاستنارة الذهنية الروحية كانت عربوناً للاستنارة الأعظم والأكمل التي نالوها في يوم الخمسين. لقد فتح يسوع الأبواب وتركها مفتوحة، وفتح أذهانهم أيضاً وتركها مفتوحة، وهكذا ظلَّت مفتوحة.

(7) الأفواه المفتوحة: “التطبيق”

إنَّ التعبير الإنجيلي عن قيام يسوع ورسله بالوعظ والتعليم “ففتح فاه وعلَّمهم”. فهذه مسؤولية الذين انفتحت عيونهم وأذهانهم، أن يكرزوا بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الناس، وهذا ما يفعله من يريد أن يفوز ببركات قوة قيامة المسيح. لقد اختار المسيح هذه الجماعة وفتح ذهنهم، وفتح أمامهم أبواب الكرازة لجميع الناس، لأنهم أصبحوا شهود عيان لموته وقيامته وصعوده. وسفر أعمال الرسل هو سفر الأفواه المفتوحة، لقد انفتحت أمامهم أبواب الكرازة لليهود والأمم، كما انفتحت أبواب السماء لتقبل ابن الله في نهاية هذه الزيارة الملكية القصيرة لهذه الأرض.

لقد فتح باب الحوار، فانفتحت القلوب، وفتح الأسفار فانفتحت العيون واستنارت الأذهان.. لقد دخل والأبواب مغلَّقة ففتحها، وفتح الكتب فانفتحت الأذهان. والأذهان متى انفتحت تنفتح لها أبواب الشهادة والكرازة.

إذاً فالقيامة استنارة، ولا مكان في القيامة للأبواب المُغلَّقة أو الأذهان المُغلَّقة أو القلوب المُغلَّقة أو الجيوب المُغلَّقة. لأنَّ المسيح المُقام فتح الأبواب والأذهان والقلوب والعيون. دعونا نفتح أعيننا على الرب المُقام ليفتح قلوبنا وأذهاننا حتى نختبر المعني الحقيقي لهذه المقولة: القيامة استنارة.

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى