القيامة

سؤال ما بعد القيامة؟

لقد انفرد يوحنا بتدوين أحداث هذا الأصحاح كنهاية مناسِبة لإنجيله، رغم ما يبدو أنَّ (20: 31-32) نهايته. حيث دوَّن مُعجزة ما بعد القيامة، ليس فقط كبرهان قوي على صحَّة قيامة المسيح، بل كأساس لخدمة الكنيسة والمؤمنين التي ستمتدّ في العالم، حيث سيختبرون: الفشل، ثم النجاح، ثم الشِّبع. كما انفرد أيضاً بتدوين حوار بين المسيح وبطرس بعد القيامة،

الذي تميَّز بفنّ استخدام الألفاظ، التي لا تظهر بوضوح في الترجمة العربية. ذلك الحوار الذي لا بُد ترك انطباعات لا يُمكن أن تُمحى من نفسية بطرس. يشدِّد يوحنا على سؤال المسيح لبطرس “أتحبني؟” ثلاث مرَّات، ومع كل إجابة لبطرس كانت هناك مهمَّة يُكلَّف بها.

أما زمان ومكان هذا الحوار فهو على قدر كبير من الأهمية. أما الزَّمان فهو بعد قيامة المسيح، وبعد مُعجزة الإنجاح والإشباع. حيث كان بطرس، آنذاك، في أشدّ الحاجة للتشجيع، خاصةً بعد أنْ أخطأ وأنكر المسيح ثلاث مرَّات. فكان في شديد الحاجة لغفران يسوع وتأكيده. فعلى شاطئ هذه البُحَيْرة تقلَّد بطرس مهام وظيفته لأول مرَّة قبل ثلاث سنوات، حين قال له يسوع: “مِن الآن تكون تصطاد الناس”. وها هو الآن يستردّ مهام وظيفته الرسولية، ليس كفرد، بل كنموذج لبقية الرسل والكنيسة. فإنَّه على مقربة من جمرٍ مُتَّقد أنكر معلِّمه أمام جارية، وبجانب جمرٍ مُتَّقدٍ أيضاً نال الضمان والغفران.

أما المكان فهو بحر طبرية، وما أكثر الأحداث التي جرت على هذه البُحيرة: فعلى مائها وقف المسيح في قارب يعلِّم الجموع.. وعلى ضفافها أشبع الآلاف بقليل من الخُبز والسمك.. وإلى رياحها أصدر أمره بأن تسكُن.. وعلى صفحة مائها سار بقدميه، وجعل بطرس أيضاً يسير.. ومن مائها اصطاد التلاميذ السمك الكثير، يوم أن دعاهم في بدء خدمته ليتبعوه.. ومن مائها أيضاً اصطاد التلاميذ السمك الكبير في ذلك اليوم.. وعلى شاطئها تسلَّم بطرس مهام وظيفته كصيَّاد للناس، ثمَّ استردَّ وظيفته كراعٍ لقطيع المسيح. فبُحيرة طبرية/ بحر الجليل، مكان مُزدحم بالذكريات الرائعة التي حُفِرت في السجلّ المقدس.

أشواك الورد

في قصيدة لشكسبير قال: للورد أشواكٌ وللينابيع الفضيَّة طينٌ، والآفات الكريهة تتواجد في أحلى البراعم، وكلُّ البشر يرتكبون الأخطاء. لقد كانت لبطرس أخطاؤه بالتأكيد، وكانت الأشواك بين ورد بُستانه. فرغم أن طبيعته كان ينقصها الهدوء والدفء، إلا أنَّ تحت مظهره القاسي هناك قلب مُلتهِب مُحِبٌ صادق. فإنَّ أسوأ آفات القلب البشري هو البرود، ورغم كلّ ما يمكن أنْ نراه مِن أخطاء بطرس، فقد كان قلبه مُلتهِباً دائماً، حتى أنَّه كان يُعبِّر عمَّا في قلبه في الوقت الذي كان يجب عليه أنْ يصمُت. فلم يكن بحاجة إلا للمزيد من القُدرة على التحكُّم، الأمر الذي تعلَّمه شيئاً فشيئاً تحت إرشاد وتوجيهات معلِّمه. وها هو هنا يتعرَّض لمزيد من عملية الغربلة. كان يسوع أميناً ورقيقاً في استجوابه لبطرس، وكان بطرس واضحاً ودقيقاً في أجوبته، مُعلناً حُبَّه القوي المُلتهِب. في هذا الحوار نرى ثلاثيات: ثلاثة أسئلة، وثلاثة إجابات، وثلاث مُهمَّات:

الثلاثية الأولى

وجَّه المسيح سؤاله لبطرس من دون بقية التلاميذ، لأنَّ بطرس هو الذي ادَّعى قبلاً بأنه مُختلِف عنهم، حين قال: “وإنْ شكَّ فيك الجميع فأنالا أشكّ”. وفي سؤال المسيح: “يا سمعان بن يونا، أتحبُّني أكثر من هؤلاء؟” نلاحظ:

  • لقد خاطبه في المرَّات الثلاث باسمه القديم (سمعان بن يونا)، وينا تعني: حفنة رمال. فكأنَّه أراد أنْ يقلِّب له صفحات الماضي، ويذكِّره بأنَّ إنكاره إياه جعله لا يستحق لقب (بطرس) الذي يعني: الصخرة القوية.
  • لقد سأله ثلاث مرَّات “أتحبني؟”. وهناك كلمتان في اللغة اليونانية تُترجمان في العربية (محبة): الأولى [أغابي] وتعني المحبة في أجمل وأكمل وأقوى مظاهرها ودرجاتها. الثانية [فيليه] وتعني المحبة في مظاهرها العادية الطبيعية، فهي مجرَّد الاحترام ومودَّة الأصدقاء. ففي سؤالي المسيح الأول والثاني استخدم الكلمة الأولى، بينما استخدم بطرس في إجابتَيْه الكلمة الثانية. فكان سؤال المسيح عن المحبة القوية الباذِلة المُضحية، وكان جواب بطرس عن محبة عادية، هي مجرَّد مودَّة وصداقة.
  • في سؤاله الأول فقط أضاف “أكثر من هؤلاء”. وقد تكون الإشارة إلى السفينة والشبكة وأدوات الصيد. وقد تكون الإشارة إلى بقية التلاميذ. فكأنه سأله: هل تحبني أكثر من محبتك لهذه الماديات؟ هل تحبني أكثر من محبتك لمهنتك/ الصيد؟ أو: هل تحبني أكثر ممَّا يحبني هؤلاء؟ هل تحبني أكثر من يوحنا الذي لم يفارقني عند الصليب، الذي عُرف بأنَّه التلميذ الذي كان يسوع يحبّه؟ لقد كان السؤال في أيٍّ من المعنيَيْن تحدياً كبيراً لبطرس، وكانت الإجابة الصادقة الأمينة تحتاج إلى قرار حازم وواضح، فهذه نقطة تحوُّل عظيمة في حياة بطرس.

فجاءت إجابته: “نعم يا ربّ، أنت تعلم أنِّي أحبّك”، ورغم ما فيها من إحساس بالضَّعف، إلا أنَّها كانت أمينة. فلم يدَّع، كما فعل من قبل، أنَّه أفضل مِن زملائه حُباً لسيِّده. لقد قال للجارية: لست أعلم عمَّا تتحدَّثين. لكنه يقول للمسيح هنا: أنتَ تعلم يا رَبّ مقدار ودرجة محبتي لك. فحتى لو كانت أعمالي تبيِّن أنِّي أحبّك، لكنك أنتَ تعرف حقيقة ما في قلبي نحوك. لذلك استخدم الكلمة الثانية [فيليه]، ولم يدَّعِ أنَّ محبته للمسيح قد وصَلَت إلى مستوى التضحية والبَذْل.

قَبِل المسيح جواب بطرس الأمين الصادق، وأعطاه فُرصة جديدة يُبرهن بها على صدق هذه المحبة، وذلك بتكليف جديد: لو كنتَ تُحبني فعلاً، ارعَ خرافي. وما أعجب ما عمل المسيح! إنه لا يكتفي بالغفران لبطرس، بل يشرِّفه بأن يأتمنه على قطيعه. هنا ينتقل بطرس من مهنة الصيد إلى مهنة الرعاية. فالصيد هو عملية إنقاذ النفوس من مخاطر ومهالك هذا العالم. لكن الرعاية هي عملية إطعام النفوس التي أُنْقِذَت وتدريبها وتقويتها. وبينما نصطاد السمك لنأكله، فإننا نرعى الخراف ونُنقذها من الذئاب ونُطعمها ونهتمّ بها. إنها نقلة كبيرة في خدمة بطرس. ويجب أن نلاحظ قوله “خرافي”، فالخراف هي للمسيح وليس لبطرس.

الثلاثية الثانية:

عاد المسيح ووجَّه السؤال نفسه لبطرس: “يا سمعان بن يونا، أتحبُّني؟”. وقد جاوب بطرس الإجابة نفسها: “نعم يا ربّ، أنت تعلم أنِّي أحبّك”، وقد زال منه كل أثر للزهو والاعتداد بالذات، واضعاً كل ثقته في المسيح العارف بكل شيء. أما تكليف المسيح فقد جاء بكلمة أخرى: “ارعَ غنمي”. إنَّ الهدف من تكرار السؤال هو أنْ يمتحن بطرس نفسه ويفكِّر جيداً، وفيه أيضاً تأكيد على أهمية السؤال. فكأنَّه سأله: هل أنتَ متأكِّد يا بطرس مِن محبتك لي؟ أما التغيير الذي حدث في التكليف فتظهَر أهميته لنا عندما نعرف أنَّ الخراف هي الحملان الصغيرة التي تبقى في الحظيرة، أما الغنم فهي الخراف الكبيرة التي تخرج وترعى في الحقول. فكأنَّه قالله: ارعَ خرافي الصغيرة التي لا تقوى على مواجهة صعوبات الحقول حتى تكبُر، وارعَ غنمي الكبيرة حتى تنمو وتنضُج وتُعطي إنتاجاً وفيراً. ارعَ الكبار والصغار، الأقوياء والضعفاء. كُن مُستعداً أن تبذل نفسك عن الرعية التي ائتمنتُك عليها، ولاتكُن كالأجير الذي ينتظر الأجرة، وليست الخراف له. إنها مسؤولية كلّ خادم للمسيح، أنْ يرعى رعية المسيح.

الثلاثية الثالثة:

عاد المسيح ثالثة وسأل بطرس السؤال نفسه، مُستخدمًا الكلمة الثانية [فيليه]. ولعلَّ الثالثة ذكَّرت بطرس بإنكاره المسيح ثلاث مرَّات. فحزن إذْ شعر بأنَّ المسيح يشُكّ في محبته له. لذلك استخدم في إجابته كلمة (تعلم) وتعني المعرفة الإلهية الخارقة للطبيعة، وكلمة (تعرف) وتعني المعرفة الاختبارية الفاحصة. فكأنَّه قال ليسوع: أنت تعلم وتعرف كلّ شيء، حتى أسرار قلبي التي لا أعرفها أنا. فلساني الذي أنكرك لا يستحقّ الإقرار بمحبك. وأنت تعرف سقوطي المُفاجئ بسبب قوة الظروف وضغطها عليَّ. وتعرف أنَّ هذه ليست طبيعتي. فانظُر إلى داخلي واختبرني، ستجد أنِّي مُخلِص في محبتي لكَ، ومُستعِد أنْ أقوم بهذه المهمَّة كدليل عملي على صِدق محبتي.

فكم مرَّة يمكن أنْ يسألنا المسيح عن محبتنا له؟ لقد أعطى بطرس فرصة جديدة لكي يبرهن محبته، ولكي يمحو العار الذي لصق به بسبب إنكاره إياه. إنَّ غيره يذكر الخطأ ولا يغفر. وإذا غفر لا ينسى، وإذا نسي فلا يمكن أن يأتمن من خانه وأنكره. لكن المسيح يغفر ولا يذكُر، بل ويعود ثانية ليأتمن ذاك الذي أخطأ وأنكره. فلن يُجيب أحدٌ على سؤاله بالقول: لا أحبّك. بل الجميع سوف يتسابقون مُندفعين إلى إعلان محبتهم للمسيح. إلا أنه ينتظر بيان تلك المحبة بعمل رعاية لرعيته، صغاراً وكباراً.

فلم يكن سؤاله بعد القيامة: هل اقتنعت وآمنت بقيامتي؟ ولا: لماذا ضعفت وأنكرتني رغم كلّ تحذيراتي لك، لماذا لم تفهم؟ لكن سؤاله كان ومازال لكلِّ واحد منَّا: أتحبُّني؟ أتحبني أكثر مِن عملك؟ لديك فُرصة لتعبِّر عن صدق إجابتك. قد لا تكون لدينا موهبة يوحنا في روعة الكتابة عن المسيح، وقد لا تكون لنا حماسة بولس في خدمة المسيح الكرازية، لكننا نستطيع أنْ نرعى خراف المسيح، ونُطعمهم بالكلمة الإلهية الحيَّة.

القس أمير إسحق

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة ١٩٨٢م، وقد خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في كلٍ من إسنا والعضايمة ١٩٨٤-١٩٩١م، ثم الكنيسة الإنجيليّة في الجيزة والوراق ١٩٩١-١٩٩٦م،
* بعدها أصبح راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في اللاذقية-سورية ١٩٩٦-٢٠٠٥م،
* وأخيرًا خدم راعيًّا للكنيسة الإنجيليّة المشيخيّة في صور وعلما الشعب-لبنان ٢٠٠٥-٢٠٢٠م،
* خلال تلك الفترة اُختير رئيسًا لمجلس الإعلام والنشر-سنودس سوريا ولبنان ولمدة ٢٠ سنة،
* ثم مسؤولًا عن مركز مرثا روي للعبادة ٢٠٢٠-٢٠٢٣م في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى