فاعلية القيامة

الدارس والمتأمل المدقق لحالة التلاميذ قبل وبعد أحداث الصليب والقيامة يرى التغيير الواضح وضوح الشمس في حياتهم، فقد تغيروا إلى مائة وثمانين درجة كما يُقال، لاسيما بعد الصعود وحلول الروح القدس.
نلاحظ هذا في الأمور الآتية
أولاً: المنافسة على المكانة الأولى والمراكز القيادية
لقد تغير عند التلاميذ معنى وهدف وجودهم في الحياة، كانت بين التلاميذ منافسة شديدة وحادة على الزعامة والمكانة الأولى، فترسم ريشة الوحي المقدس التلاميذ قبل القيامة في لو22: 24 “وكانت بينهم أيضاً مشاجرة من منهم يظن أنه يكون أكبر”.، وكانت هناك صراعات عنيفة على المناصب، والدليل على ذلك أنه في يوم من الأيام تقدمت إليه أم ابني زبدي مع ابنيها، وسجدت وطلبت منه شيئاً، فقال لها : ماذا تريدين ؟، قالت له : قل أن يجلس ابناي هذان واحد عن يمينك والآخر عن اليسار في ملكوتك…. ولما سمع العشرة اغتاظوا من الأخوين…. فدعاهم يسوع وقال لهم…. فلا يكون هكذا فيكم، بل من أراد أن يكون عظيماً فليكن لكم خادماً، ومن أراد أن يكون فيكم أولاً فليكن لكم عبداً، كما أن ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مت20: 20-27).
لقد ظن التلاميذ كما يظن عدد كبير من الناس اليوم أن الإنسان العظيم هو من يتربع على قمة الهرم، ولكن الرب يسوع يقلب الهرم، ويعلمنا أن الإنسان العظيم هو الذي يقف عند السفح، وهو الذي يحمل من هم عند القمة، العظيم هو الذي يخدم الآخرين.
هذا ما رأيناه في التلاميذ وقيادات الكنيسة بعد القيامة والصعود، انطلقوا إلى الخدمة والتبشير، وسجل الوحي في أع8: 4 “الذين تشتتوا جالوا مبشرين بالكلمة، وقيل عنهم “هؤلاء الذين فتنوا المسكونة “(أع17: 6)، عرفوا أن العظمة ليست في التنافس والزعامة والمكانة الأولى، بل العظمة في الخدمة.
نعم! أن ما يعطي الإنسان قيمة ليس كم يملك من المناصب، ولكم كم يعطي، وكم يخدم. القيمة الحقيقية للإنسان القضية التي ربط نفسه بها ويعيش لأجلها.
ثانياً: التناقض بين الأقوال والأعمال
كان التلاميذ قبل الصليب والقيامة يعيشون حياة فيها تناقض بين الأقوال والأعمال، بين القيم والمبادئ التي ينادون بها من ناحية وبين الممارسات الفعلية في الحياة اليومية من ناحية أخرى، فعلى سبيل المثال يسجل لنا الوحي في إنجيل متى ص26: 31-35 بعد ما رسم الرب يسوع للتلاميذ فريضة العشاء الرباني قال للتلاميذ : “كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية… فأجاب بطرس وقال له وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً، قال له يسوع الحق أقول لك إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات، قال له بطرس ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك.
وهنا نجد بطرس بنغمة كلها حماس وغيرة يعلن أنه لا يمكن أن يشك في يسوع، ومن أسف جاء تصريحه مشوبا بلهجة فيها نوع من الكبرياء والتعالي إذ يقول “وإن شك فيك الجميـــع فأنا لا أشك”. وما هي إلا ساعات، ونجد التناقض الصارخ بين أقواله وأفعاله، بين تصريحاته وتصرفاته، ففي نفس الإصحاح مت26: 69-75 يسجل أن بطرس كان جالساً خارجاً في الدار، فجاءت إليه جارية قائلة وأنت كنت مع يسوع الجليلي، فأنكر قدام الجميع قائلاً لست أدري ما تقولين، ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك وهذا كان مع يسوع الناصري، فأنكر أيضاً بقسم إني لست أعرف الرجل. وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس حقاً أنت أيضاً منهم فإن لغتك تظهرك. فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل. وللوقت صاح الديك. فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. فخرج إلى خارج وبكى بكاءً مراً.
لكن بعد القيامة، نجد التلاميذ لاسيما بعد حلول الروح القدس وقد تغيروا تماماً، ونرى تمسكهم بالقيم والمبادئ حتى الموت. ففي يوم الخمسين ووسط الجماهير الغفيرة وقف بطرس يقول: “أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال، يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مسلماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمةٍ صلبتموه وقتلتموه، الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت إذ لم يكن ممكناً أن يُمسك منه”(اع2: 22-24)…. وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس (اع2: 41).
كما يسجل الوحي في أع ص 3 معجزة شفاء الرجل الأعرج من بطن أمه عند باب الهيكل، وقد استخدم الله بطرس مع يوحنا في هذه المعجزة، فنسمع بطرس يقول للأعرج.. ليس لي فضة ولا ذهب ولكن الذي لي فإياه أعطيك باسم يسوع الناصري قم وامش، وأمسكه بيده اليمنى وأقامه.
ووسط الجماهير التي توافدت لتشاهد المعجزة قال بطرس: أيها الرجال الإسرائيليون ما بالكم تتعجبون من هذا، ولماذا تشخصون إلينا كأننا بقوتنا أو تقوانا قد جعلنا هذا يمشي، إن إله إبراهيم وإسحق ويعقوب إله آبائنا مجد فتاه يسوع الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه…وقتلتموه، الذي أقامه الله من الأموات ونحن شهود لذلك.
وفي أع ص4 نجد أنه تم إلقاء القبض على بطرس ويوحنا، وتم وضعهما في حبس، فكثيرون من الذين سمعوا الكلمة آمنوا وصار عدد الرجال نحو خمسة آلاف، وفي الغد عند محاكمتهما نسمع بطرس يؤكد نفس أقواله ويقول إن كنا نُفحص اليوم عن إحسان إلى إنسان سقيم بماذا شفي هذا، فليكن معلوما عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم، الذي أقامه الله من الأموات. بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً، هذا هو الحجر الذي احتقرتموه أيها البناءون الذي صار رأس الزاوية، وليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص.
ولما أوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يعلما باسم يسوع، فأجابهم بطرس ويوحنا: لأننا نحن لا يمكننا أن نتكلم بما رأينا وسمعنا.
وفي أع ص5: 12، 14 نقرأ أن آيات وعجائب كثيرة جرت على أيدي الرسل، وكان مؤمنون ينضمون للرب أكثر، جماهير من رجال ونساء.
فقام رئيس الكهنة وجماعة من الصدوقين وألقوا أيديهم على الرسل ووضعوهم في حبس العامة، ولكن ملاك الرب في الليل فتح أبواب السجن وأخرجهم وقال: اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة، وقد كان، ولما سألهم رئيس الكهنة قائلاً: أما أوصيناكم وصية أن لا تعلموا بهذا الاسم، فأجاب بطرس والرسل وقالوا ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس. (أع5: 29)
نعم! من الواضح أن بطرس ظل يخدم ويخدم متمسكاً بمبادئ وتعاليم يسوع المسيح التي يُنادى بها، حتى أن التاريخ يسجل أنه مات مصلوباً، وساعة صلبه قال: إنه شرف لا أستحقه أن أموت مصلوباً مثل سيدي، ولكني أرجو أن أصلب وقدماي إلى أعلى ورأسي إلى أسفل، لأني من أن أكون كسيدي !!، ونظر إلى روما وهو يقول: عما قريب تتحولين أيتها الهياكل الوثنية المتعالية إلى معابد للمسيح، وقال للجماهير المحتشدة: إن أولادكم سيكونون خداماً للمسيح، وها نحن نموت يا روما من أجل أن تخلص ويسيطر عليك روح المسيح!!… ولسوف يجئ قياصرة وأباطرة ويذهبون، ولكن مملكة المسيح ستظل راسخة وشامخة على مدى الأجيال.
ثالثاً: النظرة التي تغيرت للأموال والممتلكات
قبل القيامة كان المال يسيطر على تفكير كثيرين من التلاميذ، ووصل الحال إلى درجة التضحية بالمبادئ أحياناً بل الاستيلاء على المال لمنافع شخصية.
هذا ما نراه بكل وضوح في الصورة التي رسمتها ريشة الوحي للرب يسوع وهو في بيت سمعان الأبرص حيث تقدمت إليه امرأة معها قارورة طيب كثير الثمن، فسكبته على رأسه وهو متكئ، فلما رأى تلاميذه ذلك اغتاظوا قائلين: لماذا هذا الإتلاف؟ لأنه كان يمكن أن يباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء، فعلم يسوع وقال لهم: لماذا تزعجون المرأة فإنها عملت بي عملاً حسناً…. الحق أقول لكم حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضاً بما فعلته هذه تذكاراً لها (مت26: 6-13).
وبلغت محبة المال حتى وصلت لبيع الصداقة والأصدقاء بأبخس الأثمان، فمكتوب عن يهوذا الاسخريوطي أنه باع السيد بثلاثين من الفضة، واأسفاه.. أيباع سيدي بهذا الثمن البخس؟… نعم قد يُباع وربما بأقل…
الجدير بالذكر أن المتأمل في الشريعة الموسوية يجدها تنص على أنه إذا نطح ثور رجلاً أو امرأة ابناً أو ابنة، ومات من نطحه الثور، فإن الثور يُرجم، وصاحبه أيضاً يُقتل، أو يدفع أي مبلغ من المال يوضع عليه من أصحاب الميت كفدية، ولكن إذا نطح الثور عبداً أو أمةً، فكان يتم رجم الثور، أما الفدية فكانت تحدد بثلاثين من الفضة (خر21: 28-32).
آه… لقد قدر يهوذا بالاتفاق مع رؤساء الكهنة السيدة بهذا التقييم المهين، وأي مصير أبشع من الذي وصل إليه يهوذا.. لقد كان خيراً لهذا الرجل لو لم يولد، فالثمن الذي أخذه تحول إلى نار في يده، فطرحه في الهيكل، ومضى وخنق نفسه (مت27). وهكذا كل من يبيع المسيح بمال أو بمتعة وقتية.
لكن بعد القيامة نقرأ عن التلاميذ والذين آمنوا كانوا معاً، وكان عندهم كل شئ مشتركاً، والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكل واحد احتياج (اع2: 44، 45).
ونقرأ أيضاً “وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول أن شيئا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً، وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم. إذ لم يكن فيهم أحد محتاجاً، لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات، ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع على كل أحد كما يكون له احتياج (اع4: 32-35).
نعم! لقد أضحى فكر وسلوك التلاميذ بعد القيامة مختلف اختلافاً واضحاً عما كان عليه قبل القيامة. وهكذا كل من يختبر قيامة المسيح في حياته ستتغير حياته تغييراً واضحاً، ويلمس الناس حياته الحلوة التي في المسيح يسوع.