الصليب

الانتهاكات القانونيّة في محاكمة المسيح

لا أحد يتمنى أن تثبت مقولة أن «تاريخ العالم هو تاريخ المظالم»! فالعدالةُ قانونٌ إلهي ومطلبٌ إنساني. قال الرب لموسى: «قُضَاةً وَعُرَفَاءَ تَجْعَلُ لَكَ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِكَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ حَسَبَ أَسْبَاطِكَ، فَيَقْضُونَ لِلشَّعْبِ قَضَاءً عَادِلًا. 19لاَ تُحَرِّفِ الْقَضَاءَ، وَلاَ تَنْظُرْ إلى الْوُجُوهِ، وَلاَ تَأْخُذْ رَشْوَةً لأَنَّ الرَّشْوَةَ تُعْمِي أَعْيُنَ الْحُكَمَاءِ وَتُعَوِّجُ كَلاَمَ الصِّدِّيقِينَ. 20الْعَدْلَ الْعَدْلَ تَتَّبعُ، لِكَيْ تَحْيَا وَتَمْتَلِكَ الأَرْضَ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ» (تثنيّة 16: 18-20).

 ولا شك أن المرء يتوق إلى انتصار العدالة وانتشارها وتمتع كل بشرٍ بها، لكن الواضح أن «ليس كل ما يتمناه المرء يدركه»، فالتاريخُ الإنساني كله ملطَّخ بالمظالم وملوَّث بالجور! إن قاعات المحاكم وأروقة القضاء كانت ولا زالت ميدانًا للتناحر والصراع بين الخير والشر، بين العدالة والظلم، لكن ما أكثر ما انتصر الشر وما أقل ما تحققّت العدالة!

وحتى المسيح نفسه لم يسلم من ظلم البشر، بل لعل إرساليته كانت تجسيدًا وتحقيقًا لمعاناة العبد المتألم الذي «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء 7:53).

ولقد كانت أحداث القبض على المسيح ومحاكماته الكثيرة (ست محاكمات؛ ثلاثٌ منها محاكمات دينيّة والثلاث الآُخر سياسيّة) نموذجًا واضحًا لقصة الصراع بين الخير والشر، بين العدالة والظلم، ويؤسفني القول إن الشر والظلم قد انتصر حتى إن «رئيس الحياة» حوكم وأُدين ونُفّذ فيه حكم الإعدام ظلمًا!

ظهرت أولى الانتهاكات القانونيّة مع تدبير زعماء الدين اليهودي لمؤامرة القبض على المسيح. كان من المفترض أن الشهود هم من يقيمون الدعوى الجنائيّة على المتهم، على أن يكونوا شاهديْن أو ثلاثة شهود على الأقل، ولم تكن إقامة الدعوى الجنائيّة مسؤوليّة جهات التحقيق أو المحاكمة. لكن بالأسف هذا ما نراه في حوادث المحاكمة كلها؛ كان كل من القاضي وممثِّل الادعاء بل والجلاد الذي نفَّذ الحكم هم جميعًا «ذات الجهة»؛ إنهم رؤساء الدين اليهودي « (لوقا 22: 5، 6، 53)

ثم تمثَّل الانتهاك الثاني لمبادئ العدالة في «حفلة التعذيب» والمعاملة المهينة القاسيّة التي عُومل بها يسوع بمجرد القبض عليه في بستان جسثيماني. هذه المعاملة غير الآدميّة انتهكت مبدأ قانوني بديهي هو «المتهم برئ حتى تثبت إدانته. كتب البشير لوقا «وَالرِّجَالُ الَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، 64وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟» وَأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً كَانُوا يَقُولُونَ عَلَيْهِ مُجَدِّفِينَ.» (22: 63- 65). ويشعر القارئ أنه بحاجة إلى خيالٍ متسع لكي يتصوّر ما هي تلك الـ «َأَشْيَاءَ أُخَرَ كَثِيرَةً» التي قاساها يسوع في البستان على أيدي جلاّديه من الجنود الذين أتوْا للقبض عليه!

ربما يحاج البعض بأن هذا المبدأ القانوني لم يكن معروفًا في زمن المسيح، لكن الرسول بولس رفض أن يُجلَد مطالبًا بتطبيق هذا المبدأ، وكان ذلك بعد حادثة صلب المسيح بحوالي عقديْن أو ثلاثة عقود من الزمان. (أعمال 22: 25)

المحاكمة الليليّة

لقد بدأت محاكمة المسيح الدينيّة فور اقتياده من البستان إلى بيت حنّان أولًا، ثم من لدن حنّان إلى قيافا (متى 26 :57). ولقد تمّت تلك «الترحيلات» المهينة بعد منتصف الليل بساعتيْن تقريبًا. لقد منعت الشريعة الموسويّة المحاكمات الليليّة ونهى أيضًا التلمود عنها. هل سمع أحدُنا عن وجود محكمة في أي نظام قانوني تبدأ فعالياتُها بعد منتصف الليل؟! قال بوعز لراعوث: «بِيتِي اللَّيْلَةَ، وَيَكُونُ فِي الصَّبَاحِ أَنَّهُ إِنْ قَضَى لَكِ حَقَّ الْوَلِيِّ فَحَسَنًا. لِيَقْضِ. وَإِنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَقْضِيَ لَكِ حَقَّ الْوَلِيِّ، فَأَنَا أَقْضِي لَكِ.» (راعوث 3: 13)

إذًا، لم يكن الزمان مناسبًا للمحاكمة، فهل كان المكان مناسبًا؟ أبدًا؛ فلقد كان العرف القضائي أن تُجرى المحاكمات بقاعة «الجازيت»؛ إحدى قاعات مبني السنهدرين، وبحضور نِصاب قانوني معيَّن من القضاة، وأن يؤخذ تصويت القضاة بالأغلبيّة مبتدءًا بالأصغر سنًا، وكان يُمنَع على المحكمة إصدار حكمها في نفس الجلسة (أي أن الحكم لابد أن يصدر في يوم آخر غير يوم المحاكمة لإعطاء الفرصة الكاملة للقضاة من أجل التروى والتفكير وتقييم الأمور تقييمًا صحيحًا) خاصة لو كان الحكم على المتهم بالموت!

الشهادة الزور

لقد طلب رؤوساء الكهنة والكتبة شهادةَ زورٍ على يسوع لكي يقتلوه. «وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ وَالْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ» (متى 26: 59 مع مرقس 14: 55). إن هذا التصرف يمثِّل كسرًا لمبدأ «وجوب عدم تدخل المحكمة في إيجاد أو خلق دليل ضد المتهم. إن المهمة الأساسيّة للمحكمة هي فحص الأدلة المقدَّمة لها، لا أن تخلق هي الأدلة أو أن تبحث عنها بنفسها! رغم ذلك، فإن شهادة الزور لم تأتِ منسجمة مع بعضها البعض! «لأَنَّ كَثِيرِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ زُورًا، وَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَاتُهُمْ.» (مرقس 14: 56، 59). ورغم أن شهادة الزور محرَّمة تحريمًا كاملًا ومطلقًا بنصوص قاطعة الدلالة في العهد القديم، إلا أن رؤساء الدين اليهودي لم يتورعوا عن كسر الوصيّة الواضحة في سبيل تحقيق مبتغاهم الآثم. قال الرب لموسى: «لاَ يَقُومُ شَاهِدٌ وَاحِدٌ عَلَى إِنْسَانٍ فِي ذَنْبٍ مَّا أَوْ خَطِيّة مَّا مِنْ جَمِيعِ الْخَطَايَا الَّتِي يُخْطِئُ بِهَا. عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ عَلَى فَمِ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَقُومُ الأَمْرُ. إِذَا قَامَ شَاهِدُ زُورٍ عَلَى إِنْسَانٍ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِ بِزَيْغٍ، يَقِفُ الرَّجُلاَنِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا الْخُصُومَةُ أَمَامَ الرَّبِّ، أَمَامَ الْكَهَنَةِ وَالْقُضَاةِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ.» (تثنيّة 19: 15-17) وجاء الوحي على لسان الحكيم: «هذِهِ السِّتَّةُ يُبْغِضُهَا الرَّبُّ، وَسَبْعَةٌ هِيَ مَكْرُهَةُ نَفْسِهِ: عُيُونٌ مُتَعَالِيّة، لِسَانٌ كَاذِبٌ، أَيْدٍ سَافِكَةٌ دَمًا بَرِيئًا، قَلْبٌ يُنْشِئُ أَفْكَارًا رَدِيئَةً، أَرْجُلٌ سَرِيعَةُ الْجَرَيَانِ إلى السُّوءِ، شَاهِدُ زُورٍ يَفُوهُ بِالأَكَاذِيبِ، وَزَارِعُ خُصُومَاتٍ بَيْنَ إِخْوَةٍ.» (أمثال 6: 16-19)

 وكان يتعيّن على المحكمة، في حال اختلاف شهادة الشهود، أن تُطلق المتهم فورًا، إذ أن المبدأ القانوني في القضايا الجنائيّة الكبيرة «أن يُفسَّر الشك في صالح المتهم.» لكن ذلك لم يحدث مع المسيح!

كانت شريعة موسى قد أقرت مبدًا قانونيًا لا زال راسخًا حتى اليوم في أنظمة قضائيّة عديدة، قديمة وحديثة (ومنها النظام القضائي المصري الحالي). هذا المبدأ هو: «قد تصل عقوبة الشهادة الزور إلى الإعدام.» وقد ورد في سفر التثنيّة: «فَإِنْ فَحَصَ الْقُضَاةُ جَيِّدًا، وَإِذَا الشَّاهِدُ شَاهِدٌ كَاذِبٌ، قَدْ شَهِدَ بِالْكَذِبِ عَلَى أَخِيهِ، فَافْعَلُوا بِهِ كَمَا نَوَى أَنْ يَفْعَلَ بِأَخِيهِ. فَتَنْزِعُونَ الشَّرَّ مِنْ وَسْطِكُمْ. وَيَسْمَعُ الْبَاقُونَ فَيَخَافُونَ، وَلاَ يَعُودُونَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذلِكَ الأَمْرِ الْخَبِيثِ فِي وَسَطِكَ. لاَ تُشْفِقْ عَيْنُكَ. نَفْسٌ بِنَفْسٍ. عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ. يَدٌ بِيَدٍ. رِجْلٌ بِرِجْل.»(تثنيّة 19: 18- 21)

ويبدو أن الفساد القضائي والقانوني كان قد وصل إلى غايته ومنتهاه في عصر المسيح. فقد اتفق البشيرون على أن رؤساء الدين الذين رتَّبوا للمحاكمة والصلب قد استحضروا «شهود زور» وليس مجرد أشخاص عاديين «ليشهدوا بالزور» على المسيح. ولعل في ذلك تلميحٌ إلى حرفة «الشهادة الزور» التي انتشرت في ذلك الزمن الردئ الذي عاش فيه سيدُنا.

عدم حياديّة رئيس المحكمة

  1. إن فشل الشهود الزور في تقديم شهادة زور «صحيحة» أي «مقبولة وغير متضاربة» دفع رئيس الكهنة إلى الإقدام على خطوات أخرى للإيقاع بالمسيح! « فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ:«أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟». إن نظرة عميقة تكشف لنا عدمَ براءة سؤال رئيس الكهنة. إن سؤاله «غير محايد»؛ فإن امتنع المسيح عن الإجابة عُدَّ ذلك استهانة باسم الله الذي اُستُحلِف به. وإن أجاب يسوع على سؤاله كان في خطر إعطاء دليلَ إدانة ضد نفسه في كل الحالات؛ فإن أجاب ب «لا» صار يسوع «كاذبًا» وسقطت هيبته ومكانتُه في نفوس تابعيه. أما إن أجاب بنعم عدَّه المحلفون مجدِّفًا! وجاءت إجابةُ يسوع: «فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ».
  2. عند هذه النقطة، وفي حركة مسرحيّة استعراضيّة. «مَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ:«مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إلى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟» (مرقس 14: 63) ثم سأل الحضور «فَالْجَمِيعُ حَكَمُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَوْجِبُ الْمَوْتِ.» (مرقس 14: 64)، فطالما أن «رئيس المحكمة قد مزَّق ثيابه بسبب «تجديف» المتهم، فهل يجرؤ أحد من صغار المحلِّفين على إغضاب رئيسه بالإقدام على تبرئة المتهم؟!
  3. لا يذكر البشيرون أنه قد تمَّ تدوين أو حتى عرض أيّة حيثيّات لحكم الإعدام. فبمجرد أن حكموا عليه أنه مستوجب الموت، يقول البشير مرقس: «65فَابْتَدَأَ قَوْمٌ يَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُغَطُّونَ وَجْهَهُ وَيَلْكُمُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ:«تَنَبَّأْ». وَكَانَ الْخُدَّامُ يَلْطِمُونَهُ» (14: 65).
  4. بات من الواضح، إذًا، أنهم أصدروا الحكم أولًا ثم بحثوا عن تهمة «تناسب أو تلائم» هذا الحكم! يتضح لنا ذلك متى قرأنا تصريحًا سابقًا لقيافا، كان هذا التصريح بمثابة إعلان عن نيّة مبيّتة وصار بمثابة نبوة عن حتميّة الإيقاع بالمسيح وصلبه. «فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ:«أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا!». (يوحنا 11: 49، 50)
  5. إن سر عداء رؤوساء الدين، خاصة الصدوقيين الذين اُختير منهم رؤساء الكهنة، ليسوع، لم يكن بالحقيقة أمرًا دينيًّا، بل بالحري كان سببُه تلك المرات التي تجرّأ فيها يسوع على «تطهير»الهيكل من الباعة، معلنًا أن الهيكل هو «بيتي» وأن تجّار الدين قد حوّلوه إلى «مغارة لصوص»، مهدِّدا بذلك رؤساءَ الكهنة في أعز ما يملكون؛ في لقمة عيشهم الحلوة التي جنوْها من الأرباح الوفيرة لبيع حيوانات الذبائح وتغيير العملات!

المحاكمة أمام بيلاطس

أمام بيلاطس تحوّلت تهمةُ المسيح من تهمةٍ دينيّة؛ عدم احترام الناموس، وكسر وصيّة السبت، ومحاولة «نقض الهيكل»، والتجديف الديني بمحاولة الادعاء أنه ابن الله وابن الإنسان في آن (دانيآل 9)، تحوّلت تلك التهمة الدينيّة إلى تهمة سياسيّة: «1فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إلى بِيلاَطُسَ، 2وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيّة لِقَيْصَرَ، قائلًا: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». (لوقا 23: 1 مع متى 27: 1)

ولقد كان ادعاؤهم هذا باطلًا بل مفضوحًا، فقد أورد البشير لوقا تعليمَ يسوع عن دفع الجزيّة. «فَرَاقَبُوهُ وَأَرْسَلُوا جَوَاسِيسَ يَتَرَاءَوْنَ أَنَّهُمْ أَبْرَارٌ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ، حَتَّى يُسَلِّمُوهُ إلى حُكْمِ الْوَالِي وَسُلْطَانِهِ. فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «يَامُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ بِالاسْتِقَامَةِ تَتَكَلَّمُ وَتُعَلِّمُ، وَلاَ تَقْبَلُ الْوُجُوهَ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعْطِيَ جِزْيّة لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» فَشَعَرَ بِمَكْرِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ:«لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ أَرُونِي دِينَارًا. لِمَنِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» فَأَجَابُوا وَقَالوُا:«لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ:«أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ للهِ». فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُمْسِكُوهُ بِكَلِمَةٍ قُدَّامَ الشَّعْبِ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَوَابِهِ وَسَكَتُوا.» (لوقا 20: 20 -26)

ولأن هيرودس كان سياسيًّا بارعًا وداهيّة في الذكاء وأمور الحكم لم تنطلِ عليه ادعاءاتهم، ف «عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا.» (متى 27: 15 مع مرقس 15: 10) وبسؤال «المتهم» عرف أنه «جليلي» فأراد التخلص من الأمر بجملته، فأرسلهم إلى هيرودس الذي كان حاكمًا على الجليل في ذلك الوقت.

يسوع أمام هيرودس الملك

«وَأَمَّا هِيرُودُسُ فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ فَرِحَ جِدًّا، لأَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مِنْ زَمَانٍ طَوِيل أَنْ يَرَاهُ، لِسَمَاعِهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَتَرَجَّى أَنْ يَرَي آيّة تُصْنَعُ مِنْهُ» (لوقا 23: 8). كأن المسيح – أقول بكل وقار- مجرد ساحر أو عرّاف أو بهلوان لا هدف له إلا تقديم نوعٍ من الترفيه أو التسليّة الرخيصة! «وَسَأَلَهُ بِكَلاَمٍ كَثِيرٍ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ.» (آيّة 9). لم يُجبْ يسوع سؤالًا لذلك الملك الخليع الماجن، سفاّك الدماء، قاتل يوحنا المعمدان؛ ابن خالة المسيح وأفضل المولودين من النساء. وفي ذلك الموقف الرهيب كان» رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ بِاشْتِدَادٍ» (10) «فَاحْتَقَرَهُ هِيرُودُسُ مَعَ عَسْكَرِهِ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَلْبَسَهُ لِبَاسًا لاَمِعًا، وَرَدَّهُ إلى بِيلاَطُسَ» (11). كان هيرودس نموذجًا للبشر المتقلِّبين الهوائيين الذين إما أن يظهروا ولعًا خاطئًا بالمسيح، أو أنهم يحتقروه بشكل مبتذل ورخيص! «فَصَارَ بِيلاَطُسُ وَهِيرُودُسُ صَدِيقَيْنِ مَعَ بَعْضِهِمَا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّهُمَا كَانَا مِنْ قَبْلُ فِي عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا» (12). ويالها من فائدة لا معنى لها لتلك المقابلة التاريخيّة التي أجراها هيرودس مع يسوع الملك والمخلص!!

يسوع أمام بيلاطس ثانيّة

لقد أجرى بيلاطس عدة محاولات لإطلاق سراح يسوع باءت كلها بالفشل!

  • فأولًا، أراد أن يتنصل من المسؤوليّة بإلقائها على غيره، وأقصد إرساله يسوع إلى هيرودس الملك، كما سبق إيضاحه (لوقا 23: 6 -12)
  • وثانيًا، أراد أن يطلق يسوع لسبب خاطئ؛ ليس تحقيقًا للعدالة بل كمنحة أو كهديّة للشعب «وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَادًا فِي الْعِيدِ أَنْ يُطْلِقَ لِلْجَمْعِ أَسِيرًا وَاحِدًا» (متى 27: 15 مع مرقس 15: 6 و لوقا 23: 17)، لكن رؤساء الكهنة هيّجوا الشعب لطلب إطلاق باراباس دون المسيح، وكان باراباس «لِصًا» قد قُبض عليه في «فتنة وقتل»!
  • أما ثالثاُ، أراد أن يمسك العصا من المنتصف، فيجلد يسوع إرضاءً لرغبة شريرة آثمة لدى رؤوساء الكهنة، من ثَمَ يُطلق يسوع فيتجنب إصدار قرار بإعدام شخص برئ! لكن إصرار الشعب على صلبه، مدفوعين بتحريض رؤسائهم، أحبط تلك المحاولة لإطلاق يسوع. لقد كان جلد يسوع مجرد تسويّة رخيصة أو موائمة سياسيّة، بهدف شفاء غليل اليهود في يسوع أو ربما لإثارة شفقتهم. «فَدَعَا بِيلاَطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ، وَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ. وَلاَ هِيرُودُسُ أَيْضًا، لأَنِّي أَرْسَلْتُكُمْ إِلَيْهِ. وَهَا لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ». إن إعلان بيلاطس هذا قد خلا من كل منطق قانوني ومن كل مبدأ للعدالة مهما كان نوعها! فبدلًا من القول»لا شئ يستحق الموت صُنع منه، لذا وجب إطلاقه فورًا» قال بيلاطس «لاَ شَيْءَ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ صُنِعَ مِنْهُ. فَأَنَا أُؤَدِّبُهُ وَأُطْلِقُهُ!» ياللخزي وياللعار!!
  • رابعًا، وفي حركة مسرحيّة ثانيّة، غير حركة تمزيق رئيس الكهنة لثيابه، «لَمَّا رَأَى بِيلاَطُسُ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قائلًا: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!». (متى 27: 24). فهل أعفاه ذلك من المسؤوليّة إذ «أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ.» (متى 27: 26)؟ أبدًا

لقد كان صراخ الغوغاء بمثابة تهديد مبطَن لبيلاطس الذي كان سِجِلُه مع الشعب اليهودي حافلًا بالخلافات والمشاكل. (لوقا 13: 1)، ولقد صارت رغبتُهم في صلب يسوع ابتزازًا رخيصًا لبث الخوف في نفس الوالي الذي كان سعيُه الأخير، بل حرصُه الأكبر، هو الابتعاد عن إثارة مشاكل جديدة مع اليهود للحفاظ على كرسيه أطول فترة ممكنة!

إن تلك المحاكمة الصوريّة التي جرت للمسيح صارت إحدى أكبر الأمثلة الفجة على تشويه العدالة وانتصار الظلم على العدل في ساحات المحاكم البشريّة. ولقد سعى المسيح، في هدوء، أن يوضِّح رفضه لتلك المحاكمة الليليّة الجائرة التي تناقض الشريعة المكتوبة والتقليد المتوارث (التلمود). ظهر ذلك بوضوح في قول البشير: «أَجَابَهُ يَسُوعُ:«أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيّة. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا». (يوحنا 18: 20، 21) وكانت تلك الكلمات أيضًا بمثابة احتجاج مهذَّب لعدم طلب سماع شهود «النفي» الذين توجب استدعاؤهم طبقًا للأعراف القضائيّة السائدة، لكن نيّة قتل المسيح كانت قد تملَّكت على قلوبهم وعقولهم حتى خبا صوت العدالة واختفي الحق متواريًا عن هذا المشهد القاتم!

لا أستطيع أن أختم حديثي إليك، أيها القارئ العزيز، دون أن أقول إن قيامة المسيح كانت بمثابة «نقضًا» من الآب السماوي للحكم البشري الجائر الذي أصدره البشر بخصوص يسوع، فلئن كانت عدالة الأرض قابلة للانحراف أو الاعوجاج لكن «اللهَ هُوَ الْقَاضِي. هذَا يَضَعُهُ وَهذَا يَرْفَعُهُ» (مزمور 75: 7). إنه «مَهُوبٌ أَنْتَ. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ حَالَ غَضَبِكَ؟ مِنَ السَّمَاءِ أَسْمَعْتَ حُكْمًا. الأَرْضُ فَزِعَتْ وَسَكَتَتْ عِنْدَ قِيَامِ اللهِ لِلْقَضَاءِ، لِتَخْلِيصِ كُلِّ وُدَعَاءِ الأَرْضِ.» (مزمور 76: 7 -9). لقد أقام الآبُ يسوعَ إظهارًا لبره وبراءته، وتأكيدًا على أن عدالة السماء لا يمكن أن تُخطئ البتة.

القس أشرف شوق بشاي

* تخرج في كليّة الإعلام جامعة القاهرة في 1994م، ثم تخرَّج في كليّة اللاهوت الإنجيليّة عام 1998م، وفي كليّة الحقوق جامعة القاهرة في 2005م،
* خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة في المعادي لمدة 12 سنة.
* حصل على ماجستير في تاريخ الكنيسة في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة 2012م، ثم ماجستير الدراسات الكتابية من بنسلفانيا عام ٢٠١٥م،
* يدرس الأن الدكتوراه في فيرجينيا بالولايات المتحدة.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى