المدونةمقالات متنوعة

المنيا هل كشفت سر المسيح؟

طالعتنا جريدة الجمهورية في عددها الأسبوعي الصادر يوم الخميس 13 أبريل 2006م، بمقال للكاتب الصحفي محسن محمد، وتحت عنوان “المنيا تكشف سر السيد المسيح!”، وتناول فيه اكتشاف 13 مخطوطة من أوراق البردي مكتوبة باللغة القبطية القديمة، وذلك في صحراء المنيا سنة 1978م، واعتبر أن هذه المخطوطات سوف تغير تاريخ المسيحية كله، وكان قد أُعلن عن هذا الاكتشاف في مؤتمر صحفي بمقر الجمعية الجغرافية بواشنطن يوم 6 أبريل من هذا الشهر، أما عن محتوى هذه المخطوطات والتي يرى الكاتب أنها ستغير تاريخ المسيحية كله، فإنها تتضمن أحاديث للسيد المسيح يخاطب فيها تلميذه يهوذا الإسخريوطي، ويطلب منه أن يبيعه ويسلمه للرومان، حتى تتحقق الرسالة السماوية، وتتحرر روح المسيح الحقيقية، وبهذا العمل لا يكون يهوذا الإسخريوطي خائناً لسيده، كما عرف التاريخ المسيحي، بل طائعاً لسيده، لا لطمعٍ مادي أو خبثٍ شخصي، بل مشاركاً في تحقيق إرادة الله.

ويعتقد الكاتب أنه بناء على هذا الاكتشاف سوف يُغير الفاتيكان تفكيره من نحو يهوذا، لا بل أن هذه الاكتشافات سوف تُدمر ألفي سنة من تاريخ المسيحية ومعتقداتها.

ولتوضيح الحقائق وليس دفاعاً عن ألفي سنة من تاريخ المسيحية، أذكر بعض الأمور التالية:

  1. تحمل هذه الرقائق في ذاتها سبب عدم أخذها بعين الاعتبار لما جاء فيها، فبحسب الاكتشاف نعرف أن لغة هذه المخطوطات هي اللغة القبطية القديمة، ومن المعروف أن لغة المسيح كانت اللغة الآرامية، وليست القبطية، لا القديمة ولا الحديثة، ثم أن الكتاب المقدس العهد الجديد لم يُسجل باللغة القبطية بل باللغة اليونانية، وعليه تكون هذه الرقائق كُتبت متأخرة عن زمن تسجيل العهد الجديد، كما أنه من المعروف أن أسفار العهد الجديد جُمعت قبل موت يوحنا الرسول، فأطلع وصّدق عليها، لأن الله أطال حياته لهذه الغاية المهمة، في حين ظهرت كتب تُسمى كتب الأبو كريفا حاول كُتابها إعطاءها عناوين تسمح للقارئ العادي باعتبارها كُتباً موحى بها، أو على الأقل ذات قيمة تاريخية أو دينية كتلك التي نحن بصددها الآن.
  2. لم يُذكر أن المسيح كتب رسائل لتلاميذه، ولا كتب إنجيلاً خاصاً، وكان الأحرى به لو كتب أن يكتب لتلميذه المحبوب يوحنا، أو تلميذه الشجاع بطرس، وليس للخائن يهوذا، كما أنه من المعروف أن المسيح جاء إلى مصر وزار المنيا وغيرها وهو طفل، ولم يُسجل التاريخ لنا أنه كتب في تلك الزيارة ولا غيرها أي كتابات غير التي كتبها على الأرض في الهيكل اليهودي حين أبرأ المرأة المشتكى في حقها (يوحنا 8: 1-8).
  3. هذه المخطوطات بحسب ما جاء في جريدة الجمهورية تتعارض مع الفكر الإسلامي القائل أن المسيح لم يُصلب ولم يُقتل بل شُبه لهم (سورة النساء 157)، فكيف يشجع المسيح تلميذه يهوذا على خيانته ليُسلم ويصلب على يد الرومان، ثم هو نفسه يخدع تلميذه ويلقي بشبهه عليه ليموت يهوذا بدلاً عنه.
  4. إن الإيمان المسيحي الإنجيلي يستند على ما أعلنه الله لنا في الإنجيل فقط، وهو الكتاب المعصوم من الخطأ، فإن كان الله تكلم مع الأباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا نحن في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، وما تكلم به الابن وما أراد الله أن يعلنه ويسجله لنا، يقول الرسول بطرس عن الكتاب المقدس: “عَالِمِينَ هَذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ، لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (2بطرس 1: 20-21).
  5. في لقاء تعليمي جمع المسيح وتلاميذه مع كثيرين من اليهود، وحيث كان التعليم عن الفداء وجسد الرب المكسور ودمه المسفوك لأجل غفران خطية العالم، رجع البعض من وراء المسيح وتركوه، فقال المسيح لتلاميذه الاثنى عشر إن أرادوا هم أيضاً أن يتركوه فليمضوا، وبعد أن رفض التلاميذ أن يتركوا سيدهم، قال يسوع: “أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ الاِثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!”، ويشرح لنا البشير يوحنا المقصود بكلمة “شيطان”، وأن المسيح قال هذا “عَنْ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ، لأَنَّ هَذَا كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مِنَ الاِثْنَيْ عَشَرَ” (يوحنا 6: 66-71)، هذا ما قاله السيد المسيح عن يهوذا، وليس ما تدعيه تلك المخطوطات بأن المسيح أطلق على يهوذا أنه أعظم تلاميذه الأثنى عشر.
  6. ما قاله المسيح ليهوذا بهذا الشأن سجله لنا البشير يوحنا حينما كان المسيح وتلاميذه يتناولون العشاء الأخير، وبعد أن تناول يهوذا اللقمة دخله الشيطان فقال له يسوع: “مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ .. فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً” (يوحنا 13: 27، 30).
  7. يُسجل لنا البشير متى عن يهوذا بعدما خان سيده وأسلم المسيح للرؤساء، أنه ندم وحاول رد الثلاثين من الفضة التي أخذها من رؤساء الكهنة والشيوخ في محاولة منه لإطلاق المسيح قائلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً». فَقَالُوا: «مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ!». فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ” (متى 27: 3-5)؛ ندم يهوذا على ما فعله في حق سيده، ولما فشل في محاولة إنقاذ سيده من يد رؤساء الكهنة والشيوخ مضى وخنق نفسه، والسؤال كيف يعترف يهوذا بخطأ وهو المنفذ لمشيئه سيده، وكيف يُقدِم على خنق نفسه ذلك البطل المغوار الذي تفوق على جميع تلاميذ المسيح بتحقيق مشيئة الله فهو البطل وليس الخائن؟
  8. إن الكتاب المقدس كله، وعبر كلمات الله يشجعنا دائماً على الصدق والأمانة، أفليس من المستغرب أن المسيح وفق هذه المخطوطات يُشجع تلميذاً له على الخيانة، قائلاً له: “أنك لابد أن تخونني لتحقق الرسالة السماوية وتحرر روحي الحقيقية”، أي رسالة سماوية تلك التي تُبنى على خيانة؟ أي رسول أو نبي هذا الذي يُشجع أتباعه على الخيانة.
  9. حينما تأتي رسالة من الله لإنسان ما، فإن هذه الرسالة تُساعد على رفعة ذاك الإنسان، لا للعنه عبر الأجيال الآتية، هذا ما فعله الله على سبيل المثال لا الحصر مع السيدة العذراء مريم، فحين جاءتها رسالة الله وأعلنت لها بشرى ميلاد المسيح، وتجاوبت السيدة العذراء مع رسالة الملاك، وتحقيق مشيئة الله، عرفت ما ستناله من تطويب عبر الأجيال الآتية كلها فصرحت وهتفت قائلة: “هُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي” (لوقا 1: 46).
  10. أخيراً يأتي الرسم الكاريكاتيري المُصاحب للمقال كتعبير فني يُسئ بصورة مباشرة للمسيحية، فقد ظهر في الرسم أن العالم كله وفي وضح الشمس، يُلقي بلفافة مرسوم عليها الصليب (إشارة للمسيحية وعقائدها) في نهر النيل، ونحن نرى أن في هذا العمل الفني نوع من الإساءة للمسيحية، وقد كنا ننتظر في ظل الأجواء والعواصف التي تمر بها البلاد هذه الأيام، وفي ظل الروح الطيبة التي أظهرتها الكنيسة المصرية، والمسيحيون في العالم العربي شرقه وغربه تعاطفاً مع المسلمين ضد الرسوم المسيئة لرسول الإسلام، بإسم حرية التعبير والإبداع الفني، أن لا تأتي مثل هذه المقالات أو الرسوم، كنوع من الاحترام للأديان والمقدسات الدينية، وكرد إيجابي وفهم لما قام به المسيحيون من شجب لما يُسئ للأديان.

إنَّ المسيح لم يكن له يوماً سرًا حتى تكشفه المنيا أو غيرها من بلدان العالم المختلفة، بل أن المسيح جاء ليكشف لنا سرائر الله، وما كان غير معروف في القديم عن محبة الله، وقلب الله، جاء المسيح في ملء الزمان ليعلنه ويكشفه لنا حتى نتمتع بمحبة الله وغفرانه وندخل في علاقة شخصية معه، وليعطي أولاده أن يكونوا وكلاء على سرائر الله.

د. القس نصرالله زكريا

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة 1989م.
* سِيمَ قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في أبو حنس المنيا
* المدير التنفيذي لمجلس الإعلام والنشر
* مدير تحرير مجلة الهدى منذ عام 2006
* مؤسس موقع الهدى، وموقع الإنجيليون المشيخيون.
* له من المؤلفات ما يزيد عن أربعين كتابًا.
زر الذهاب إلى الأعلى