أرض الموعدالمدونة

إسرائيل في الكتاب المقدس والمفهوم المسيحي

يُخبرنا الكتاب المقدس أن إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم، الذي باركه الله وقطع معه عهداً أبدياً قائلاً: “أُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ عَهْداً أَبَدِيّاً لأَكُونَ إِلَهاً لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ” (تكوين 17: 7)، ومن أجل طاعة إبراهيم لله، جدد الله عهده مع اسحق[1] بن إبراهيم، ثم عاد الله وأكد عهده مع يعقوب[2] بن اسحق، وفي مقابلة بين الله ويعقوب عند مخاضة يبوق، غيَّر الله اسم يعقوب ليصبح “إسرائيل[3]“، أنجب إسرائيل عدداً من الأولاد هم ما يُعرف عنهم “أسباط إسرائيل”، نزل يعقوب ونحو سبعين شخصاً[4] هم أولاده وبنو بنيه إلى مصر في عهد يوسف، حيث عاشوا قرابة 400 سنة، وهناك تكاثروا ونموا وازداد عددهم وأصبحوا شعباً غفيراً[5]، قاد موسى النبي هذا الشعب –ومَن آمن به- في رحلة الخروج من مصر في طريقه إلى أرض كنعان، وهناك في برية سيناء ظهر الله لهذا الشعب وباركهم وقطع معهم عهداً مشروطاً قائلاً: “أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ. فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ” (خروج 19: 4-6).

لم يكن الشعب في برية سيناء جميعه من نسل إبراهيم، ولا جميعه من بني إسرائيل، فقد كان هناك لفيف من غير الإسرائيليين يعيشون مع بني إسرائيل ومنهم من خرج معهم من مصر[6]، هذا معناه أن الله عندما قطع عهده مع موسى وإسرائيل في برية سيناء لم يكن هذا العهد عهداً خالصاً وخاصاً مع اليهود، على أننا نرى بوضوح تأكيد الله على شرطية هذا العهد (كما جاء في سفر اللاويين 26)، فحين كان عهد الله مع إبراهيم عهداً أبدياً، كان العهد مع بني إسرائيل عهداً مشروطاً، إذا التزم إسرائيل فيه بواجباته وعلاقته بالله التزم الله بتنفيذ عهده معهم، إما إذا حنث إسرائيل بعهده مع الله، فإن الله سيتخلى عنهم ويذريهم بين الأمم، ويجعل أرضهم موحشة ومدنهم خربة[7]، وقد جاء السبي تأكيداً على صرامة الله في تنفيذ عهده مع إسرائيل.

وعلى ذلك يُعتبر شعب إسرائيل من أوائل الشعوب التي عرفت الله الواحد، بل وأقامت معه علاقة خاصة، من خلال عهدٍ خاص، وقد برز شعب إسرائيل كشعب متميز بين الشعوب بسبب وعيه بعلاقته الفريدة مع الله، إلا أن هدف الله من هذه العلاقة مع إسرائيل لم يكن لتَميُّزها عن باقي الشعوب، أو لفضلٍ خاص كان يتمتع به هذا الشعب عن غيره من شعوب الأرض، بل كان هدف الله من هذه العلاقة مع إسرائيل هو أن يكون إسرائيل خداماً للعالم  ونوراً للأمم، فحفظ العهد يعني رد الفعل الإيجابي من شعب إسرائيل لما يريده الله منه، واستمرار وجود الشعب كأمة يتوقف على أمانته في التزامه بحفظ العهد مع الله[8].

وقد أُطلق اسم “إسرائيل” على الأسباط الإثني عشر، وعلى كل الشعب الخارج من مصر، بما فيه من غير اليهود، واستمر كذلك حتى وقت غزو أرض كنعان على يد يشوع، ثم استمر الاسم “إسرائيل” خلال فترة المملكة المتحدة في عهد شاول وداود وسليمان، وبعد موت الملك سليمان، انقسمت المملكة إلى مملكة شمالية وأخرى جنوبية، أُطلق اسم “إسرائيل” فقط على المملكة الشمالية، الأكبر عدداً[9]، ونعلم من التاريخ أنه بالسبي الآشوري للمملكة الشمالية “إسرائيل” حدث ذوبان لإسرائيل وسط شعوب العالم ولم تقم لها قائمة فيما بعد، أما عن المملكة الجنوبية “يهوذا” فقد تعرضت هي أيضاً للسبي البابلي لمدة 70 سنة، عاد بعدها بعض من اليهود إلى ديارهم، هؤلاء أُطلق عليهم اسم “إسرائيل” كمرادف لاسم “يهوذا” أو “المملكة الجنوبية” أو “لشعب إسرائيل[10].

بالرغم من شهادة التاريخ الكتابي عن عدم أمانة إسرائيل في علاقتها مع الله، الأمر الذي جعل الله يسمح بسبي الشعب وتغّربه في بلاد بعيدة وغريبة، إلا أن الله كان قد وعد أتقياء الشعب بالعودة من السبي[11]، وكان السبب في ذلك هو أن يأتي المسيح من سبط يهوذا، ومن بيت داود، وقد جاء المسيح فعلاً تحقيقاً للنبوات من نسل إبراهيم، وسبط يهوذا وبيت داود[12].

وحينما جاء المسيح وُلد في بيت لحم اليهودية، تحقيقاً للنبوات، وعاش حياته وخدمته وسط الشعب اليهودي، يشرح لهم المعنى الصحيح للمسيا، ويوضح لهم محبة الله التي تشمل العالم أجمع، وأن المقصود بالاختيار هو المسؤولية لأن يكونوا نوراً يحمل رسالة الله للعالم، وأن مفهوم السيادة لا يأتي إلا في الخضوع، لكن اليهود كانوا ينتظرون مجيء مسيا بمواصفات خاصة، مسيا حسب أفكارهم يُحقق أحلامهم مستخدماً الأساليب البشرية والحربية وغيرها، متغاضياً عما يطلبه الله أو يرضيه، هؤلاء لم يستطيعوا أن يقبلوا المسيح، المسيا الحقيقي، الذي تنبأ عنه الأنبياء، وعنه كتب العهد القديم، بل تجلت ذروة رفضهم للمسيح في المطالبة بصلبه وبموته، وفي تقديمه لبيلاطس الحاكم الروماني للمحاكمة، هتفوا قائلين: “دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلاَدِنَا” (متى 27: 25)، وبهذا الرفض الصريح للمسيح، انتهى[13] دور إسرائيل في أن يكون طرفاً في عهدٍ مع الله، وتحول المسيح عنهم وعن أمتهم نهائياً وجعل بيتهم يُترك لهم خراباً، وفي أحداث خراب أورشليم والهيكل عام 70م، وأحداث الخراب العام في 135م، تشتت الشعب اليهودي في كل أنحاء العالم ولم يعد مسموحاً لهم ولفترة طويلة من التاريخ بالإقامة في أورشليم، تشتت الشعب دون وعدٍ أو نبوة بالرجوع من الشتات كما حدث معهم في السبي، ومع الشتات جُرد شعب إسرائيل من جميع الامتيازات التي خصَّهم بها الله، وأصبحوا أمة بين الأمم كأي أمة أخرى.

أصبحت الكنيسة، تلك الجماعة التي قبلت وآمنت بالمسيح هي إسرائيل الحقيقي، فقد أُطلق عليها ما كان يُطلق من ألقاب[14] على إسرائيل، وقد استخدم الكتاب المقدس اسم “إسرائيل” بمعناه الروحي للدلالة على شعب الله الروحي الأمين[15]، ففي الرسالة إلى رومية يفرق الرسول بولس بين إسرائيل حسب الجسد، وإسرائيل حسب الروح[16]، وهو يتكلم عن نفسه باعتباره ليس عبرانياً فحسب، بل أنه إسرائيلي وواحد من شعب العهد الذي له امتياز أن يكون إسرائيلياً بالمعنى الروحي للكلمة، وقد مدح السيد المسيح نثانئيل بأنه إسرائيلي حقاً  لا غش فيه[17]، وهو لا يشير إلى قوميته فحسب بل يشير إلى إيمانه وإخلاصه، وأصبح اليهودي ليس مَن هو ظاهر أنه يهودياً بحسب الجسد، يكتب الرسول بولس موضحاً فيقول: “لأَنَّ الْيَهُودِيَّ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً وَلاَ الْخِتَانُ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ فِي اللَّحْمِ خِتَاناً بَلِ الْيَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ هُوَ الْيَهُودِيُّ وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ ..” (رومية 2: 28-29)، ويعود فيؤكد أيضاً أنه “لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعاً أَوْلاَدٌ. بَلْ «بِإِسْحَقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ». أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلاً” (رومية 9: 6-8)، إذاً فإسرائيل الحقيقي هم أولاد الموعد المختارون من كل أمة وقبيلة ولسان وشعب، في أربع رياح الأرض[18]، ولقد أدركت الكنيسة أنها هي “إسرائيل” الروحي التي لها كل المواعيد التي قيلت في إسرائيل، وعليها ذات المسؤولية في أن تكون نوراً للعالم، وملحاً للأرض[19]، بهذا المعنى يتضح أن المسيحيين قد أضحوا بحق إسرائيل الجديد الذي تمم وتمت فيه كل المواعيد[20].


المراجع:

[1] راجع: سفر التكوين 26: 1 – 6.

[2] راجع: سفر التكوين 28: 13 – 15.

[3] راجع: سفر التكوين 32: 28.

[4] راجع: سفر الخروج 1: 5.

[5] راجع: سفر الخروج 1: 7.

[6] سفر الخروج 12: 38.

[7] سفر اللاويين 26: 30 – 34.

[8] لمعي، إكرام. الاختراق الصهيوني. مرجع سابق. ص134، 157.

[9] كانت المملكة الشمالية التي تُسمى “إسرائيل” مكونة من عشرة أسباط، وقد كانت مساحة أرضها ضعف مساحة أرض المملكة الجنوبية “يهوذا”، وكان عدد سكانها ثلاثة أضعاف سكان مملكة “يهوذا”، وبينما وُجد بيت ملكي واحد في مملكة يهوذا، هو بيت داود، فيه قيلت المواعيد بالملك، توالى على حكم إسرائيل ملوك من تسع أسر مختلفة. راجع: عبدالملك، بطرس. –د. وآخرون. قاموس الكتاب المقدس. (القاهرة: – ، -) صفحة 69 – 70.

[10] راجع سفر عزرا 9: 1، 10: 5،

[11] راجع سفر إرميا 29: 10، 30: 3، 10، 18.

[12] إنجيل متى 1: 1 – 3.

[13] يؤمن أصحاب نظرية التفسير الحرفي أن دور إسرائيل لم ينته، لكنه توقف فترة من الزمن لحين عودتهم مرة ثانية في نهاية الزمان للإيمان بالمسيح، ويعتمدون أصحاب هذا التفسير على ما جاء في (متى 23: 39).

[14] أُطلق على الكنيسة ألقاب: “القطيع الصغير”، “قديسون”، “البكر”، “المختار”، “الكرمة” (راجع لوقا 12: 32، أعمال 9: 13، عبرانيين 12: 23، متى 24: 22،24،31، بطرس الأولى 1: 1، رومية 8: 33، متى 21: 41).

[15] راجع سفر إشعياء 49: 3.

[16] رسالة الرسول بولس إلى أهل رومية 9: 6.

[17] إنجيل يوحنا 1: 41.

[18] رزق الله، غبريال. –د. القس. مَن هو إسرائيل. (القاهرة: لجنة نشر الحق الكتابي، 1971، ط1) صفحة 14.

[19] إنجيل متى 5: 13، 14.

[20] عزيز، فهيم. ملكوت الله. مرجع سابق. ص213.

د. القس نصرالله زكريا

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في القاهرة 1989م.
* سِيمَ قسًا وراعيًا للكنيسة الإنجيلية المشيخية في أبو حنس المنيا
* المدير التنفيذي لمجلس الإعلام والنشر
* مدير تحرير مجلة الهدى منذ عام 2006
* مؤسس موقع الهدى، وموقع الإنجيليون المشيخيون.
* له من المؤلفات ما يزيد عن أربعين كتابًا.
زر الذهاب إلى الأعلى