مقالات متنوعة

أخلاقيات الاختلاف (2)

نعم لحق الاختلاف .. لا للتجريح

يقدم لنا سفر أعمال الرسل الإصحاح 15 نموذجاً رائعاً لاختلاف العظماء بعضهم مع البعض الآخر، فعندما أشار الرسول بولس على رفيق خدمته برنابا قائلاً: “.. لِنَرْجِعْ وَنَفْتَقِدْ إِخْوَتَنَا فِي كُلِّ مَدِينَةٍ نَادَيْنَا فِيهَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ كَيْفَ هُمْ” (أعمال 15: 36)، رأى برنابا أن يأخذا معهما يوحنا مرقس، ولما كان مرقس قد فارقهما في الرحلة السابقة قبل أن يكتمل العمل، رأى الرسول بولس أن لا يأخذانه معهما، فحدث بين بولس وبرنابا مشاجرة حتى فارق أحدهما الآخر. فماذا كانت نتيجة هذا الاختلاف الذي حدث بين شخصين عظيمين بحجم الرسول بولس ورفيقه برنابا؟! لقد افترقا.. لكن عن محبة واحترام “ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ قَالَ بُولُسُ لِبَرْنَابَا: «لِنَرْجِعْ وَنَفْتَقِدْ إِخْوَتَنَا فِي كُلِّ مَدِينَةٍ نَادَيْنَا فِيهَا بِكَلِمَةِ الرَّبِّ كَيْفَ هُمْ». فَأَشَارَ بَرْنَابَا أَنْ يَأْخُذَا مَعَهُمَا أَيْضاً يُوحَنَّا الَّذِي يُدْعَى مَرْقُسَ. وَأَمَّا بُولُسُ فَكَانَ يَسْتَحْسِنُ أَنَّ الَّذِي فَارَقَهُمَا مِنْ بَمْفِيلِيَّةَ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهُمَا لِلْعَمَلِ لاَ يَأْخُذَانِهِ مَعَهُمَا. فَحَصَلَ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ حَتَّى فَارَقَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ. وَبَرْنَابَا أَخَذَ مَرْقُسَ وَسَافَرَ فِي الْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ. وَأَمَّا بُولُسُ فَاخْتَارَ سِيلاَ وَخَرَجَ مُسْتَوْدَعاً مِنَ الإِخْوَةِ إِلَى نِعْمَةِ اللهِ فَاجْتَازَ فِي سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ يُشَدِّدُ الْكَنَائِسَ”(أعمال 15: 36-41)، فيا لها من نهاية مباركة لـ “منازعة حسب قلب الله”.

حين تصدق النيّات ويُخلِص أطراف الخلاف للقضية المُختلَف حولها، يتحول اختلافهم –لا شك- إلى نعمة ويصبح تفرقهم خيراً للقضيّة كلها، حين نتمسك كل منا بمجد الله وخير كنيسته، ونتجرد بنزاهة عن الدوافع الشخصيّة، فلابد أن يبارك الله هذه الأمانة، وحتى اختلافنا في وجهات النظر المطروحة، بل وربما من خلال عرض وجهتيّ نظر متعارضتين تخرج وجهة نظر توفيقيّة ثالثة تكون خيراً من الاثنتين، وما أكثر ما اختبرناه تطبيقاً لذلك!.

وقد تكمن المشكلة الكبرى وأزمة الحوار الخطيرة في أننا، غالباً، ما نطالب الآخرين بإظهار التعاطف والتفاهم معنا، وأن يتجّملوا بالصبر وطول الأناة عندما نعرض نحن عليهم وجهة نظر مخالفة، ونتمنى لو أنهم تحدثوا بهدوء عند الاختلاف معنا، ونرجو منهم إظهار آداب الحوار وحسن الخلق والتحلي بالذوق والتكلم بلغة مهذبة ولطيفة مستخدمين معنا ألفاظ “اللا مساس”، التي لا تخدش الحياء، و…، و…، لكن الأجدر والأسلم هو أن نُلِزَم نحن أنفسنا بكل ذلك مع المختلفين معنا، والأكثر نفعاً هو أن نبدأ بأنفسنا، فزارع المحبة يحصد المحبة، وزارع الاحترام يجني نظيره، وزارع الشوك تتمزق يداه متى حصَّد!

قال الشاعر العربي:

يأيها الرجل المعلِّم غيرَه

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تَصِفُ الدواءَ لذي السقام وذي الضنا

كيمَا يَصِحُ به وأنت سقيمُ

لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثلَهُ

عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ!

إنه أمر يحتاج إلى كثير من التدريب وضبط النفس عند التعامل مع الآخرين في أمور خلافيّة ليس فيها صواب وخطأ، بل تحتمل الآراء والنظريات المتعارضة. نحتاج أن نتعلم كيف نستمع للآخرين متى تكلموا وأن نعتذر لهم متى أخطأنا في حقهم، فالاستماع –في الحقيقة- أصعب من التكلم، والاعتذار يحتاج شجاعة أدبية أكبر من تلك التي يحتاجها أمراء المنابر لكي يخطبوا في مستمعيهم!

وإليك –عزيزي القارئ- بعض آفات الحوار التي تضرب العلاقات في مقتل:-

  • الخلط بين الفكرة وقائلها:- فربما تُقبل فكرة –رغم عدم صحتها- بين مجموعة ما، لمجرد أن صاحبها هو فلان المحبوب والمقبول بين المجموعة، والعكس صحيح. ربما تُرفض فكرة أخرى ويُساء إلى صاحبها بالقول والفعل (رغم دقة الفكرة وجدتها وصوابها)، لأنها صدرت عن شخص غير محبوب أو غير مرغوب فيه، فـ “الموضوعية” هنا “تتلون” ليس حسب الأفكار ذاتها، بل طبقاً لمن تصدر عنهم.
  • تدني لغة الحوار: فرغم عشرات ومئات النصائح التي يقدمها الحكماء (اقرأ مثلاً سفر الأمثال لسليمان)، إلا أن الواقع المرير يشي بأن الإنسان لم يتعلم الدرس بعد. لقد تراجع الحوار وتوارى الاحترام، وازداد النقد الهدَّام، والتجريح بلا أسباب، والاتهامات دون أدلة، وسار المجتمع إلى الخلف في هذا الأمر (بما فيه المجتمع الكنسي إحقاقاً للحق). وها نحن نرى الصراع ذاته يفرض نفسه –أو على الأقل يحاول- على وسائل الإعلام الجماهيريّة (المقروءة والمسموعة والمرئية)، وليست العزيزة الهدى استثناء من هذه المعاناة.
  • التحزب والشلليّة: وقد عالج الرسول بولس مشكلة مثل هذه بين أختين من كنيسة فيلبي، ورغم أن هاتين الأختين كانتا متقدمتين في الإيمان والخدمة بين المؤمنين، إلا أنهما كانتا أيضاً بحاجة إلى من يدعمهما للخروج من هذه الورطة (راجع فيلبي 2: 3-11، 4: 2)، كذلك نرى فكر التحزب وراء تصرف التلاميذ الغير الصحيح مع الرجل الذي رأوه يخرج الشياطين باسم المسيح فمنعوه، لأنه ليس يتبع المسيح معهم (مرقس 9: 38، لوقا 9: 49)، وهكذا قد تتحول الأمور إلى (مع .. وضد)، معي مائة بالمائة أو ضدي مائة بالمائة، وهي (معي أو ضدي) بشكل شخصي جداً، لا استناداً إلى موضوعيّة المناقشة حول الفكرة التي تُطرح أمامنا بشكل متجرد للبحث والاستقصاء العلمي!

ما أكثر من لا يرون “المساحات الرمادية” في صورة الحياة! والمسألة كلها بالنسبة لهم إما “أبيض أو أسود”. مع أن الأمور الخلافيّة هي غير ذلك تماماً، لذلك فطريقة تناولها أيضاً يجب أن تختلف.

  • ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة: وقد أشرت في مقال سابق إلى خطورة ومأساة هذا الادعاء. ومع أن شخص المسيح قد جاء إلينا ليكلّمنا بالحق، (يوحنا)، بل هو نفسه الحق (يوحنا 14: 6)، إلا أن هناك من يحاول أن يسلب مكانة ومكان الرب يسوع –ربما دون أن يدري- وأن ينفي عمل الروح القدس الذي يرشد قلوب المؤمنين الآخرين، إذ يتبع هذا الشخص طريقة خاطئة مع من حوله!

قال الإمام الشافعي مرة: “قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقولك خطأ يحتمل الصواب”، فهل ما زال أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم؟!

  • البساطة الزائدة: فلأن الإنسان –في الواقع- عدو لما يجهل، يحاول البعض تبسيط الأمور أكثر مما ينبغي، مع أن الحياة تحتاج إلى إعمال الفكر، وتأمل الأمور، وعدم إصدار الأحكام قبل معرفة بواطن الأمور (يوحنا 7: 24)، وكذلك تحتاج إلى تدبر الأشياء وعاقبتها، فنقرأ حاضرنا قراءة نقديّة حتى يمكننا استشراف المستقبل بشكل صحيح. إنني لا أستطيع أن أخفي غيرتي الشديدة حينما أرى المؤسسات الدنيويّة، كالشركات والهيئات والأحزاب السياسيّة، تعمل بكل قوة لأجل غدٍ أفضل لها، بينما الكنيسة –وهي التي يُفترَض أنها تتعامل مع أرواح البشر لا أجسادهم- تغطُ في نومٍ عميق في كثير من المواقع!

ليتنا نستفيق قبل فوات الأوان، فلن ينفع الندم بعد زلة القدم.

القس أشرف شوق بشاي

* تخرج في كليّة الإعلام جامعة القاهرة في 1994م، ثم تخرَّج في كليّة اللاهوت الإنجيليّة عام 1998م، وفي كليّة الحقوق جامعة القاهرة في 2005م،
* خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة في المعادي لمدة 12 سنة.
* حصل على ماجستير في تاريخ الكنيسة في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة 2012م، ثم ماجستير الدراسات الكتابية من بنسلفانيا عام ٢٠١٥م،
* يدرس الأن الدكتوراه في فيرجينيا بالولايات المتحدة.
زر الذهاب إلى الأعلى