أخلاقيات الاختلاف (1)

يبرز الاحتياج إلى الالتزام بحد أدنى من الأخلاقيات فيوقت الاختلاف، استناداً إلى حقيقة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. هذه الحقيقة يتعدد البشر إلى نوعيات ومشارب وفئات لا تقع تحت حصر، فالاختلاف هو طبيعة الحياة ذاتها وسمة الكون كله، والبشر يختلفون في لغاتهم التي لا ُتحصى، وفى أعراقهم التي لا ُتعد، وفي دياناتهم الكثيرة والتي تتزايد أيضاً بمرور الزمن.
ومهما تعالت الأصوات بضرورة الحفاظ على “ثوابت الأمة”، ومهما حاول “المخلصون” الوقوف فيوجه “الغزو” الثقافي والإعلامي وانتشار ظاهرة العولمة، فإن القانون الوحيد الثابت في الحياة هو ” التغّير”، نظراً لتأثر البشر بعضهم ببعض بسبب تصاغر الكون أمام تكنولوجيا وسائل الاتصال الجماهيرية والأقمار الصناعية التي تجوب أرجاء الدنيا ترصد حتى ” دبة النملة”. لقد صرنا- كبشر- نحيا زمن القرية الكونيّة التي غرق كل سكانها فيبحر المعلومات والأخبار وثورة الاتصالات، مما وّحد الخبر الذي يصل لكل سكان الدنيا في لحظة واحدة، بينما تفرق البشر فيفهمهم وتحليلهم وتفاعلهم مع هذا الخبر.
ويظهر جليَّا أننا- في شرقنا العربي- لم نجهَّز أنفسنا لما وصل إليه العالم من حولنا، ولم نعتد على التعامل مع الاختلاف في الفهم أو التفسير للحدث الواحد. يغلب على طريقة تفكيرنا الاتجاه الأحادي للنظرة إلى الأمور، فنحن- الشرقيين- أعظم من أبدع نظرية الزعيم الأوحد، والقائد الملَهم الأوحد، والحزب السياسي الأوحد، والتفسير الديني الأوحد للنص المقدس… الخ. ولقد بَرَّ الفلكلور الشعبي هذا الوضع، الذي يرفض فكر التعددية، ويستعصى عليه التعاطي مع متطلباته، وعبر الفلكلور عن هذا الوضع أفضل تعبير بمثل شعبى يكرس لنظرية ضرورة عدم الاختلاف، يقول: “المركب اللي فيها ريسين تغرق”!!
وعكس كل بلاد الدنيا، يتحول الاختلاف لدينا إلى خلاف، وعند أول “شذوذ” في الفكر، أو, “خروج على المألوف” نتبادل الاتهامات بالعمالة للأعداء والخيانة للوطن، أو” الاتهام بالخروج عن المعلوم من الدين بالضرورة” (وهى عبارات مطّاطة لا تحمل أية معان إلا فيذهن قائلها). تتعالى الأصوات… وتتنافس الحناجر.. وربما يتطور الأمر إلى اشتباك بالأيدي.. فتنقلب الموائد، ثم لا عزاء للتفاهم أو الحوار!!
أما في بلاد الغرب، فقد تجاوز البشر العادّيون هذه الظواهر منذ زمن بعيد، هذا فضلاً عن الفلاسفة والمفكرين والمثقفين وغيرهم من قادة المجتمع بالطبع. فبفضل الحرّية التي ناضلت لأجلها المجتمعات حتى حصلت عليها، يستطيع المرء أن يتكلم في أىّ موضوع أو قضّية دون أن يكمَّم، وأن ينتقد أي وزير أو زعيم أو رئيس دون أن يُسجن، وأن يحاور أي مسؤول دون أن يُنتهر. ويمكنه أيضاً أن يناقش المسلّمات والبديهيات دون أدنى تهديد، وحتى ثوابت الدين والإيمان بوجود الله نفسه لم تكن بعيدة يوماً عن الجدل والنقاش، ولعله الفيلسوف الفرنسي “فولتير” الذي قال:” إنني على استعداد لأن أدفع حياتي ثمناً لحرية الرأي التي يتمتع بها أولئك الذين يعارضونني في الفكر والمذهب”، ويالها من مثالية مفرطة الروعة، ودرسُ كبير يتعين علينا أن نتعلمه نحن الشرقيين.
وبفضل الفارق العلمي والتكنولوجي الرهيب بين الشمال المتقدم والجنوب “النامي” (أو النايم في تخلفه وجهله)، تأكد إنسان اليوم من جدوى وفاعلية كل أسلوب من الأسلوبين في الحياة. عرف الإنسان أهمية الحرية وقيمتها (رغم إساءة استخدام الحرية فيبعض الأحيان)، وتأكد أيضاً أن الجمود والأحادية هما معاً أفضل سبيل للبقاء متخلفين عن ركب الإنسانية، وهما أنجح وسيلة للتراجع الحضاري والانهيار الاقتصادي والاستبداد السياسي. لن نتمكن من إقناع العالم حولنا حتى لو أقسمنا بأغلظ الإيمان، ما دمنا نحاول تبرير الجمود أو تجميله بعبارات محفوظة وأكليشيهات الكلام الممّلة، على شاكلة “حفاظاً على ثوابت الأمة” أو ” دعماً للاستقرار” أو “ضماناَ لخصوصيات مجتمعاتنا” !!
والآن دعني أضع أمامك- عزيزي القارئ- في نقاط محّددة ما أردت قوله حول أخلاقيات الاختلاف:-
- ضرورة قبول الاختلاف والتعدّدية كأمر عادى جداً أوجدته الطبيعة، ولنحذر من أوصياء الفكر الأحادي ومُلاّك الحقيقة المطلقة.
- ضرورة أن يتضامن أفراد المجتمع في مساعدة بعضهم بعضاً لأجل الوصول إلى احترام ” الرأي والرأي الآخر”، كممارسة عمليّة، وليس كمجرد فكرة نظرية.
- التخلص من فكرة أن “المقدس”، و” الثابت” غير قابلين للنقاش أو الحوار، فهذا هو- بالتحديد- سر الأزمة الخانقة والمنعطف الخطير الزلق الذى تمر به بلادنا ومجتمعاتنا العربيّة.
- لم يعد الإيمان بهذه الأفكار مجرد ترف ذهني أو رياضة عقلية، نظراً للكوارث التي عشناها ونعيشها، بسبب إهمال هذه المبادئ.
وبقيّ السؤال:
كيف ستتعامل معي- عزيزي القارئ- حال اختلافك مع هذا العرض؟!