ميلاديات

ولد ليكون ملكاً

ما أكثر الويلات التي عانى منها الجنس البشرىِ بسبب الحكام الطغاة، وما أرهب المآسِي التي مررت قلوب الناس نتيجة ظلم ملوك مستبدين. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، فعلى مدار التاريخ الإنساني شرب الإنسان كأس المرار والعذاب حتى الثمالة، لا بسبب مخاطر الطبيعة أو قلة مواردها، ولا لأن أرضنا تضيق على ساكنيها، بل بسبب ظلم الإنسان لأخيه الإنسان!

وفىِ ميلاد المسيح، نلتقي مع ملكين، أحدهما في مواجهة الآخر. كتب أحدهما اسمه فىِ التاريخ البشرىِ، لا بحروف من نور، ولا حتى بحروف من نار، بل بحروف من دم رعاياه الأبرياء! وفى تدوين تاريخي لآخر جرائم هذا الرجل كتب البشير متى قائلاً:-

“حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدّاً، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ.”(متى2: 16)… ولنبدأ القصة من البداية:-

كان والد هيرودس وزيراً فى زمن يوحنا هيركانوس الثاني، ولم يكن لدى هيرودس سوى أخُ واحد انتحر بسبب الخوف من تقلبات اللعبة السياسّية، أما هيرودس، فعلى العكس من ذلك، تمتع بشخصية قوية وعزيمة فولاذية لا يعتريها الضعف أو الوهن أو اللين. فلقد هرب إلى روما حيث تمكن من الحصول على تأييد قادة الجيش، وتمكن بفضل مساعدتهم من الرجوع إلى اليهودية حيث ُعيَّنَ ملكاً عليها. وكان ذلك عام 47ق.م.

كتب كثيرون عن حياته وسيرته، وكتبوا أيضاً عن سياسته الماهرة، لقد كان بحق دبلوماسياً محنكاً من الطراز الفريد. كسب بسياسته الأصدقاء والأعداء على السواء. لم يكن يفشل على الإطلاق، إذ في مرات الفشل القليلة في حياته لجأ إلى العنف والقتل وسفك الدماء، وأحاط مؤامرته الدموية بسياج من الحذر والسرّية. كان بالفعل ” يقتل وهو يبتسم” كما يقولون.

أنشأ في بلاد اليهودية مدناً وثنية ومسارح وملاعب على الطريقة الرومانّية، إرضاء لقادة الجيش وتقرباً للإمبراطور، لكنه، وفىِ نفس الوقت، عمل على إرضاء اليهود، فبدأ في بناء الهيكل العظيم، وتزوج من صغيرة رئيس الكهنة اليهودي وأنجب منها ولدين أرسلهما إلى روما لكى يتعلما ويتهذبا فىِ قصر الإمبراطور، وحينما شعر بالخطر منهما على عرشه قتلهما بطريقة وحشية!!

قاده حبه الشديد للسلطة وشغفه بالحكم إلى تصفيّة أىّ شخص، مهما كان قريباً أو صديقاً، إذا استشعر الخطر منه، وكل من حامت حوله الشبهات أنه يريد قلب نظام الحكم كانت نهايته معروفة، واستخدم هيرودس فىِ ذلك العنف والشراسة والقتل وسفك الدماء والانتقام وكل الوسائل الأخرى التي نتخيلها والتي لا يصل إليها خيالنا، لذلك استحق هذا الملك اللقب الذي خلعه عليه شعبه ” هيرودس السفاح”.

تدخل في الشئون الدينية للشعب، وغيّر رئيس الكهنة وعين بدلاً منه أخا زوجته. وحينما أحب الشعب هذا الكاهن الجديد، دبّر هيرودس له مؤامرة وأماته “غريقاً”.

بدأت زوجته في الشك فيه لأنها شعرت بمؤامرته ضد أخيها، ولكي يتخلص من نظراتها له، تخلص نهائياً منها، هي وأمها. لأجل ذلك قال عنه الإمبراطور الرومانى ” اكتافيوس قيصر”: ” إن خنازير هيرودس تتمتع بالأمن والسلام أكثر من أولاده” لأن الخنازير يحَّرم ذبحها عند اليهود!!.

وحدث وهو على فراش الموت أن شَكَّ فى ابنه الأكبر، وكان هذا الابن قد سبق فوشى بأخويه عند أبيه وتسبب في قتلهما، فسجنه أبوه. وحاول الابن أن يستغل اللحظات الأخيرة في عمر والده فيقدم رشوة لحارس السجن ويهرب، ولما عَلِمَ هيرودس بذلك أمر بقتله في الحال. لم يكن أفضل من سائر إخوته على كل حال!!

كان هيرودس مكروهاً جداً عند الشعب بسبب الفظائع التى ارتكبها وعندما شعر بدنو أجله بعد رحلة المرض، أمر بسجن كبار رجال الدولة والأغنياء وذوي الجاه. ثم أعطى الأمر للمسؤولين أنه عندما يلفظ أنفاسه الأخيرة يجب قتل هؤلاء المسجونين جميعاً. ذلك لأنه كان متأكداً أنه لن يوجد شخص واحد- في طول البلاد وعرضها- سيذرف دمعة واحدة عند موته، لذا أراد أن يعم الحزن والنوح عند موته، وأن تذرف الدموع سخيّة في ذلك اليوم، حتى ولو لم تكن لأجله!! يا للعجب.

ظل هيرودس ملكاً على اليهوديّة أربعين سنة، وما أكثر الجماجم التي ضحّى بها ليبنى عليها عرشه وسلطانه. كان مريضاً بحب النفوذ والسلطة، لذا ففي نور معرفتنا لطباع وشخصية هذا الرجل فإننا لا نستغرب أبداً قصة المذبحة الرهيبة التي أحدثها فى قرية بيت لحم. لقد أمر بقتل الأطفال الأبرياء، حين علم أن المسيح الملك سيكون فىِ وسطهم، وسيكون هذا المسيح منافساً له في السلطان!

في عهد هذا الملك السفاح، جاء المسيح إلى عالمنا طفلاً، كباقي الأطفال في الظاهر. وُلد في بيت لحم، على مقربة من القدس عاصمة فلسطين، وحينما وُلد كانت أرض اليهودية- بل العالم كله- يعيش فىِ جو مظلم، نتيجة لحب السيطرة والعنف والرغبة في تأكيد الذات والظلم الاجتماعي واستغلال النفوذ والإثراء الفاحش على حساب المنصب. جاء هذا الطفل لكي يمنح عالمنا المضطرب استقراراً، وللبشر التعابى راحة، جاء لكي يمنح الإنسان سلاماً حقيقّياً؛ سلاماً للناس مع الله العادل القدوس، وسلاماً لضمائر البشر الهائجة المضطربة، وسلاماً لعلاقات الناس مع بعضهم البعض. ليس عجيباً إذاً، أن تترنم ملائكة السماء فى مجيئه بهذه الأنشودة الحلوة الخالدة:-

المجد لله في الأعالى،

 وعلى الأرض السلام،

 وبالناس المسرة.

جاء المسيح إلى عالمنا لكى يأمر للناس بالعدل والرحمة وينادى بالحب للجميع، لقد تحققت أخيراً الكلمات التي قيلت عنه بالنبوة قبل مجيئه بسبعمائة عام أو أكثر:

“روح السيد الرب علىّ، لأنه مسحني لأبشر المساكين.. أرسلني لأشفى منكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمى بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة”.

وُلد المسيح ليكون ملكاً. بل الملك الشرعي والوارث الوحيد الحقيقي لعرش إسرائيل، لأنه جاء من نسل داود الملك حسب الجسد، لكن ملكوت المسيح لم يكن ملكوت القوة والسيطرة والتأكيد على الذات. لم يكن المسيح ذلك الملك الذي يرغب في استعباد الآخرين كهيرودس، بل كان ملكاً على القلوب بالحب. يملك علينا باختيارنا وبمطلق حريتنا.. يملك علينا لصالحنا ولخير نفوسنا الخالدة. وكل من يقبل ملكوته يختبر الحياة الفضلى معه وفيه، ويضمن لنفسه السعادة والخير الأبدي.

القس أشرف شوق بشاي

* تخرج في كليّة الإعلام جامعة القاهرة في 1994م، ثم تخرَّج في كليّة اللاهوت الإنجيليّة عام 1998م، وفي كليّة الحقوق جامعة القاهرة في 2005م،
* خدم راعيًا للكنيسة الإنجيليّة في المعادي لمدة 12 سنة.
* حصل على ماجستير في تاريخ الكنيسة في كليّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة 2012م، ثم ماجستير الدراسات الكتابية من بنسلفانيا عام ٢٠١٥م،
* يدرس الأن الدكتوراه في فيرجينيا بالولايات المتحدة.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى