دمعة على ابتسامة الميلاد

منذ أكثر من العشرين قرناً من الزمان وعلى مروج بيت لحم، وفي ليلة من ليالي الشتاء، كان بعض رعاة الأغنام ساهرين على رعيتهم، وبينما هم في سهر وسمر فجأة سطعت أنوار السماء الباهرة، حيث مجد الرب أضاء من حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً فقال لهم الملاك ” لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب ” (لو2: 10- 11).
وبالرغم أن الميلاد كان بشارة فرح إلا أنني أرى الدموع تتساقط على خده في أكثر من صورة أذكر منها :
1- الصورة الأولى :
في مستهل قصة الميلاد ترسم لنا ريشة الوحي المقدس صورة غير مألوفة وغير مسبوقة إذ مكتوب في ( متى 1: 18) “ولما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس، وعندما لاحظ يوسف خطيبها مع الأيام علامات الحمل تبدو عليها، بدأ الشك يدخل إلى قلبه “.
بالطبع كان هذا الأمر بمثابة صدمة قاسية عنيفة لنفسه الرقيقة العذبة، ولم يعرف أحداً الصراع الدائر في داخله،ولعله بكى كثيراً وإن كان الوحي لم يذكر هذا صراحة، وبدأ يفكر في فسخ الخطبة بكل هدوء وسرية، لكي يحافظ على سمعة فتاة مشهود لها من الجميع بأخلاقها السامية، وسمعتها الطيبة، وسيرتها العطرة، فالكتاب يذكر: “أن يوسف إذ كان باراً ولم يشأ أن يشهرها أراد تخليتها سراً (مت1: 19). كم كانت مكافأة الرب ليوسف على موقفه الأخلاقي الراقي والواعي، إذ كشف له عن خطته الفدائية، فلقد تلقى من الله رؤيا مباشرة متميزة، وللوقت زالت مخاوفه وشكوكه فمكتوب: “ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور، إذ ملاك الرب قد ظهر له في حلم قائلاً : يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم (مت1: 20- 21).
نعم ! إن استمرار ظهور يوسف في قصة الميلاد شهادة حية قوية لأقسى امتحان اجتازه بنجاح باهر، حتى لو كان في أول الأمر ذرف فيه الدمع السخين، ولعل في هذا درس بالغ الأهمية للمرضى روحياً الذين يقومون بتشويه سمعة الآخرين، والتشهير بهم، ويشعرون بلذة خاصة وراحة معينة وهم يتطوعون بتجريح الآخرين وتحطيمهم بالنميمة وإشاعة المذمة ضدهم، كما أن هذا يعلمنا أن لا نتسرع ونحكم على الآخرين دون أن نلتمس لهم الأعذار، أو قبل أن نبحث عن مبرر لما يحدث، ونعرف ونتأكد من الحقيقة.
2- الصورة الثانية :
حيث يسجل البشير لوقا في (ص2 :7 ) في أسى عميق التعبير المحزن عن العائلة المقدسة ساعة ولادة يسوع “أنه لم يكن لهم موضع بالمنزل “، فلم يجدوا سوى المزود البسيط ليولد فيه يسوع، كانت كل الأبواب موصدة في وجهه، كيف حدث أنه لم يكن للمسيح موضع إلا في المذود بالرغم أنه كان ممكناً أن يأتي بكل بهاء ومجد ؟، حقاً أنها قصة تدعو للرثاء والبكاء. وان كنا نسمح لأنفسنا – بغير حق – التماس الأعذار لسكان بيت لحم، فهل لي أن أقول في انكسار قلب أنها أيضاً في مرات كثيرة خطيتنا جميعاً، فأي عذر نستطيع أن نقدمه اليوم عندما نرفض أن يدخل الرب في حياتنا، وبيوتنا.
والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لم يكن له موضع بالمنزل؟، هل حدث هذا نتيجة عداوة بينهم وبين المسيح ؟، أم هل قصدوا أن يحتقروه أو يرفضوه؟، لا لم يكن لهذا السبب أو ذاك بل إنها أنانية الإنسان التي تجعله لا يفكر إلا في نفسه دون التفكير في احتياجات الآخرين.
وكم من مرة تتكرر مأساة بيت لحم في التاريخ، الحقيقة إنه ما أكثر الناس الذين لا يفسحون مكاناً ليسوع، لأنهم مشغولون في جميع مناحي الحياة، وحياتهم مزدحمة بمحبة المال، والذات، واللذات، حتى أنه لم يعد للمخلص مكاناً إلا في المذود.
نعم! سيظل المسيح في دنيانا أمام باب مغلق طالما بقي الإيمان مجرد شعارات جوفاء بغير ممارسة عملية، وطالما ظل الحب الحقيقي مجرد أشعار نترنم بها دون تطبيق فعلي في الحياة اليومية.
نعم! سيظل المسيح خارج الأبواب مادام الباطل يظهر في قناع الحق، وما بقي الصدق سجيناً خلف أسوار الرياء والنفاق، وما بقيت الشجاعة في الحق مكبلة بقيود الخوف على المصالح والمنافع الشخصية.
3- الصورة الثالثة :
يسجل البشير لوقا في إنجيله (ص2: 25- 35 ) وهو بصدد الحديث عن الميلاد، قصة رجل في أورشليم اسمه سمعان، كان شيخاً متقدماً في الأيام، كان باراً تقياً، أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب، ومنذ تلك اللحظة وهو ينتظر بشوق غامر وحنين بالغ تحقيق وعد الرب، هذا الرجاء جعله حالماً طموحاً مترنماً 0
نعم ! كانت صورة جميلة مشرقة للرجاء المسيحي الحي المتجدد، فعندما يكون المسيح في القلب والفكر تمضي الحياة نحو الأفضل، مهما تقدمت الأيام ومرت السنون، عبر الشيخوخة والكهولة، حيث يضع الزمن بصماته في حياة الإنسان، عندئذ يختبر الإنسان القول الكتابي ” يجدد مثل النسر شبابك”.
وفي يوم من الأيام أتى سمعان الشيخ بالروح إلى الهيكل، وعندما دخلا يوسف ومريم بالطفل يسوع، أخذه على ذراعيه وبارك الله، وقال : ” الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك ” (لو2: 29، 30).
واخذ سمعان الشيخ يتحدث عن فاديه ومخلصه، الخلاص الذي أعده قدام وجه جميع الشعوب، الخلاص الذي طالما تاقت إليه القلوب، واحتاجت إليه النفوس، خلاص شامل من نير الخطية، وإنقاذ كامل من الدينونة الأبدية. ويمتد الإيمان بسمعان ليرى في المسيح خلاصاً لجميع الشعوب لكل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا، فيعلن أنه ” نور إعلان للأمم ” (لو2: 32)، أعتقد أن سمعان كان يعبر عن هذا الإعلان والابتسامة تعلو محياه، فما كان حلماً، أضحى حقيقة، وما كان موضوع ارتياب .. أصبح موضوع إيمان.
وبعد ذلك التفت سمعان إلى العذراء مريم وأخذ يتحدث معها عن سر التجسد العجيب، فقال لها: “وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف” (لو2: 35)، يوم ترين ابنك قد تألبت عليه الأعداء، وتخلى عنه الأصدقاء، ورفع على صليب العار والازدراء، إذ أن يسوع قد وضع لسقوط وقيام كثيرين (لو2: 34)، فعلى أساس الصليب يتحدد موقف جميع الناس ويتقرر مصيرهم الأبدي، إذ ليس بأحد غيره الخلاص (أع4: 12).
آه ! كم كان قاسياً على سمعان الشيخ أن يتحدث مع العذراء مريم بمثل هذا الحديث الدامع، في الوقت الذي فيه تحتضن وليدها والابتسامة الكبيرة تملأ وجهها، والبهجة تغمر كيانها بهذا الميلاد المعجزي، وبهذا الامتياز الذي يفوق حد التصور، وبتطويب الأجيال لها، مما لا شك فيه أنه جعل دموعها تغطي ابتسامتها، وتلون فرحتها، وإن كانت ريشة الوحي لم ترسم لنا هذه الصورة، لكن من بين سطور الكلمة المقدسة، نرى الصليب كان يلقي بظلاله على الميلاد، وهذا يعلمنا كيف ندرك أن الألم جزء من خطة الله في حياتنا، وكيف نكون على استعداد لدفع ضريبة الإيمان، وأن نضع في اعتبارنا أن لابسو التيجان في السماء هم حاملو الصلبان على الأرض .
4- الصورة الرابعة :
والتي أرى فيها الدموع في ميلاد يسوع في انجيل متى ( ص2 )، هي عند وصول المجوس من بلادهم إلى أورشليم، أخذوا يسألون : أين هو المولود ملك اليهود ؟، اضطرب هيرودس وخاف على مكانته، فجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أين يولد المسيح ؟، فقالوا له في بيت لحم اليهودية، حينئذ دعا هيرودس المجوس سراً، وتحقق منهم زمان النجم ثم أرسلهم إلى بيت لحم، وقال لهم: “اذهبوا وافحصوا بالتدقيق عن الصبي، ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي أنا أيضاً وأسجد له”، لكن المجوس بعد وصولهم حيث يسوع، يذكر الوحي أنه عند رجوعهم لم يذهبوا إلى هيرودس بل انصرفوا في طريق أخرى، فغضب هيرودس الملك الطاغية، وأرسل وقتل جميع الأطفال في بيت لحم من ابن سنتين فما دون حتى يضمن مقتل الطفل يسوع الذي تخيله منافساً له في الحكم. نعم قتلهم .. لم يرحم توسلات الأمهات الباكيات اللواتي ركعن عند أقدام جنوده تطلبن الرحمة، وتطلبن الحياة لفلذات أكبادهن الأبرياء، فصار في كل بيت مأتم وفي كل مكان أحزان، وسطرت ريشة الوحي “صوت سمع في الرامة .. نوح وبكاء وعويل كثير .. راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين” (مت2: 18).
وا أسفاه! فقد حول هيرودس أفراح بيت لحم بالوليد السماوي العجيب وسط ترنيمات الملائكة الشجية، وأضواء النجوم الساطعة إلى مناحة عظيمة، خوفاً على مركزه وسلطته من الضياع.
آه من غطرسة وكبرياء الإنسان .. آه من قسوة الظلم والطغيان .. وهل تغير اليوم عن الأمس؟! .. لا وألف لا .. ذلك لأن لهيرودس أحفاداً في كل جيل وعصر، فلا زال الإنسان بشره يفسد كل المعاني الحلوة، ويلطخ كل الصور الإنسانية الجميلة، فيرسم دمعة على ابتسامة الميلاد.