ميلاديات

ميلاد المسيح العذراوي. الأساس الكتابي والمعنى اللاهوتي

ميلاد المسيح العذراوي عقيدةٌ أساسية في الإيمان المسيحي، لا يمكن تصوّر فاعليته ومعناه الأكمل والأشمل بدونها. وهي عقيدة يمكننا القول بأنها لم تنل حقَّها الملائم من الاهتمام والدراسة الجادة والتعمق الفكري فيها. على مرّ المراحل المختلفة من تاريخ الكنيسة ظهر العديد من الاتجاهات الفكرية والآراء اللاهوتية التي تماشت مع عقيدة الميلاد العذراوي، وإن كان الأساس الكتابي لتلك الاتجاهات والآراء يحتاج إلى الكثير من المراجعة. من بين هذه الاتجاهات:

  • عقيدة الحبَل والولادة بدون ألم (Virginitas In Partu): وقد ظهرت هذه العقيدة في بعض الكتابات الغنوسية الأبوكريفية، مثل سفر «صعود إشعياء» (نهاية القرن الميلادي الأول) و»إنجيل يعقوب» (القرن الثاني الميلادي). وكان أول من ذكر هذه العقيدة وعلَّم بها إكليمندس السكندري، لكن رفضها آباء الكنيسة مثل ترتليانوس وأوريجانوس.
  • عقيدة دوام البتولية (Virginitas Post Partum): تنادي بها الكنيسة التقليدية على أساس قول مريم للملاك في لو1: 34 «كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟» إذ يُفسَّر هذا القول على أن العذراء مريم قد أخذت عهداً على نفسها بألا تعرف رجلاً طوال حياتها بعد ولادة الرب يسوع. وتعبّر الكنيسة التقليدية عن هذه العقيدة بقولها إن العذراء ظلت بتولاً طوال حياتها، قبل الحبَل وأثناء الولادة وبعدها حتى نهاية حياتها.
  • عقيدة الحبَل بلا دنس (Immaculatus): وتتلخَّص في أن مريم قد حُبل بها بطريقة عادية كسائر البشر، لكنها من خلال هبة إلهية فريدة من هبات النعمة الإلهية قد حُفظت من كل دنس الخطيئة الأصلية منذ اللحظة الأولى من الحبل بها، وذلك بالنظر إلى استحقاقات يسوع المسيح فادي الجنس البشري. ولم تتم صياغة هذه العقيدة التي تؤمن بها الكنيسة الكاثوليكية إلا في 8 ديسمبر 1854 من خلال الإعلان البابوي الذي أصدره البابا بيوس التاسع.

الأساس الكتابي لعقيدة الميلاد العذراوي

والآن ماذا عن الأساس الكتابي الذي يضع لعقيدة الميلاد العذراوي ملامحها الرئيسية وحدودها المتزنة البعيدة عن كل التباس وإضافة تنتقص منها أكثر مما تضيف إليها؟؟

في سبيل فهم هذه العقيدة كتابيًا نحاول التوقف أمام بعض النصوص والإشارات الكتابية الهامة:

  1. في سفر التكوين 3: 15 نقرأ الكلمات التالية ذات الصدى النبوي: «وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ»، وهي الكلمات التي يوجهها الرب الإله للحية بعد سقوط آدم وحواء في الخطية. ومن الواضح أن هذه الكلمات نبويَّة المحمل تشير إلى المسيا الذي سوف يسحق رأس الحية من خلال عمل الصليب. وفي هذه الآية إشارة لاهوتية إلى الميلاد العذراوي، إذ أنَّ كاتب الوحي هنا ينسب المسيح ليس إلى الرجل، بل إلى المرأة «نسل المرأة»، وذلك على الرغم من أن الوحي الكتابي بصورة عامة، إن لم تكن مطلقة، إنما ينسب الشخص إلى أبيه وليس إلى أمه في سلاسل النسب المسردة في العهد القديم، وخاصة في سفر التكوين (انظر تك5، 11، 1أخ 1-9).
  2. إحدى الإشارات الكتابية الهامة للميلاد العذراوي، ما اصطلح علماء الكتاب على تسميته بـ: «نظرية الأرحام المغلقة» وملخَّصها هو أن ولادة الرب يسوع المعجزية كان لها رموز ونماذج مبدئية في العهد القديم. فثلاث من أمهات إسرائيل الأربع وهنَّ سارة ورفقة وراحيل، فتح الله أرحامهن بمعجزات متباينة؛ فسارة أنجبت إسحق وهي في سن التسعين (تك17: 17)، ورفقة وراحيل نقرأ عن قصتي ولادتهن المعجزية في تك25: 20-26 و30: 22-24 بالتتابع.
  3. أما أشهر الإشارات الكتابية للميلاد العذراوي فهي تلك النبوة الواردة في إشعياء 7: 10-16 وخاصة في العدد الرابع عشر حيث يقول النبي بروح النبوة: «وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ». وقد حاول الكثيرون من علماء النقد الكتابي العالي وعلماء اليهود التشكيك في معنى الآية بقولهم إن الكلمة «عذراء» (ALMAH) إنما تعني امرأة شابة قد تكون متزوجة أو غير متزوجة، لكن هناك أكثر من رد واضح على هذا الادّعاء:
    • في جميع المرات التي وردت فيها الكلمة ALMAH في العهد القديم جاءت بمعنى: «إمراة شابة في سن الزواج لكنها غير متزوجة بل عذراء (تك 24: 43؛ خر 2: 2-8؛ مز 68: 25؛ أم 30: 18، 19؛ نش1: 3؛ نش6: 8).
    • عندما قامت الترجمة السبعينية بترجمة الكلمة العبرية ALMAH، ترجمتها إلى الكلمة اليونانية بارثينوس PARTHENOS والتي تحمل معنى عذراء في اللغة اليونانية.
    • سياق الآية نفسه يؤكِّد حقيقة العذراوية، إذ ما معنى المعجزة إذا كان الأمر يتعلق بامرأة متزوجة تنجب طفلاً؟ أما الآية فتكون آية حقيقية عندما تحبل عذراء دون زرع بشر.

ولكي نفهم معنى هذه النبوة علينا تذكّر أن هنالك أنواعاً عدة لطرق تحقُّق النبوات الكتابية، إحدى هذه الطرق تُسمى «التحقق المتعدد»، بمعنى أن تتحقق النبوة أكثر من مرة في مراحل وأحداث تاريخية متعددة حتى تصل إلى تحقّقها الأخير الذي يُعتبر ذروة تحقُّقها. فنبوة إشعياء 7: 14 تحققت مرتين: مرة في المستقبل القريب بالنسبة لإشعياء الذي تزوج من النبية التي كانت عذراء في وقت إعلان النبوة لينجب منها ابنه مهير شلال حاش بز، في إش8: 1-4. أما التحقّق الثاني فقد حدث في المستقبل البعيد (بعد 700 سنة تقريبًا من وقت إعلان النبوة) وكان هو الذروة لتحقّق هذه النبوة عندما حبلت العذراء مريم بالرب يسوع في أحشائها بقوة الروح القدس التي ظللتها من الأعالي.

المعنى الروحي واللاهوتي للميلاد العذراوي

في كتابه «حقائق وأساسيات الإيمان المسيحي»، يقول اللاهوتي الكبير آر. سي. سبرول: «وهكذا فإن الميلاد العذراوي هو عقيدة تُعد حدًا فاصلاً يفصل بين المسيحيين من ذوي الرأي المستقيم عن أولئك الذين لا يؤمنون بالقيامة والكفارة»، وهي عبارة موحية تبيّن لنا بجلاء أهمية هذه العقيدة روحيًا ولاهوتيًا في حياة وإيمان شعب الله. يمكننا فيما يلي التوقف سريعًا أمام بعضٍ من تلك المعاني:

  1. ولادة المسيح من عذراء، كفاتح رحم لها، يشير إشارة عميقة إلى حقيقة كونه باكورة أبناء الله في الخليقة الجديدة التي أبدأها من خلال عمل الصليب. إن ميلاده المعجزي الإلهي في الجسد يُعد مقدمة للميلاد الروحي المعجزي الإلهي الذي يخبره كل ابن لله عندما ينفتح قلبه بالإيمان لعمل المسيح الفادي فيصدق قول الوحي بقلم البشير يوحنا: «وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ، اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ اللَّهِ» (يو1: 12، 13). يلتقط برنارد لوفروا هذه المشابهة في تحليله ليوحنا 1: 13 فيقول: «يسعى البشير يوحنا سعيًا حثيثًا للحديث عن ولادة أبناء الله المعجزية بنفس الألفاظ التي تصف مولد ابن الله المعجزي. إذن فهنالك علاقة وثيقة بين ميلاد المسيح من العذراء مريم وميلادنا الروحي. أوَ ليس المسيح في كل شيء يمثل باكورة أعضاء جسده؟ أوَ لسنا نحن هم الذين: سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ لِيَكُونَ هُوَ بِكْراً بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ؟ (رو8: 29)»Catholic Biblical Quarterly، October 1951، p. 130)
  2. ولادة المسيح من عذراء تشير كذلك إلى نوعية الحياة الخاصة والعجيبة والمتفرِّدة التي عاشها الرب يسوع في مستوى من السمو لم ولن يسبقه إليه أحد من العالمين في كل جوانب الحياة الأخلاقية والعملية والفكرية وغيرها. وربما أكتفي في هذا المقام باقتباس ما ذكره طيب الذكر الدكتور القس إبراهيم سعيد حيث يقول: «من الطبيعي أنّ الشخص الذي كان في حياته فوق الطبيعة، أن يولد بطريقة خارقة للطبيعة. لأن الذي كان معجزة في حياته ومماته، ينبغي أن يكون أيضًا معجزة في ولادته. فهو لغز الأجيال، فلا غرابة إذا كان ميلاده لغزًا. وهو معجزة الدهور، فلا عجب أن يولد بمعجزة…» (لماذا أؤمن؟ 1989، ص. 33).
  3. الميلاد العذراوي كذلك يعلن عن بداية جديدة في تاريخ الجنس البشري رأى الله أن يعلنها بهذه الطريقة المعجزية لكي يعلن جِدَّتها وحسمها ومفصليتها في تاريخ البشرية. وعندما نتأمل قصة الله في التاريخ نلاحظ أن كل البدايات الحاسمة حملت ذلك الطابع المتفرد المتميز. ففي بداية الخليقة المادية وجدنا تدخلاً إلهيًا واضحًا إذ كان الله يقول فيكون، ومع بداية تشكيل البشرية مرة أخرى في أيام نوح وجدنا التدخل الإلهي العظيم من خلال دينونة الطوفان، ومع بداية تكوين ملامح الشعب القديم تدخَّل الله بيد شديدة وذراع ممدودة في موت الأبكار وشق البحر الأحمر في ظاهرة طبيعية فريدة لم تتكرر إلا مرة واحدة فقط عند شط نهر الأردن، ومع بداية تكوين شعب الرب في العهد الجديد تدخَّل الله مرة جديدة في يوم الخمسين من خلال صوت الريح الشديدة والألسنة النارية المنقسمة واللغات الجديدة. وهكذا نرى أنَّ الميلاد العذراوي يمثّل علامة «تدشينية» لعصر الخليقة الجديدة في المسيح يسوع. يؤكد اللاهوتي الكبير بي. بي. وارفيلد هذه الحقيقة بقوله: «… الخلاص فوق الطبيعي كان يستلزم ولادة فوق طبيعية» (Biblical Foundations، 1958، p.122).
  4. أخيرًا وليس آخرًا، يعلن الميلاد العذراوي حقيقة هامة وهي أن فداء الله للبشرية لا يكون إلا بالنعمة فقط. فالبشرية، ممثَّلة في مريم العذراء، لم يكن عليها إلا أن تقبل عطية الله بالروح القدس لها في أحشائها، وهذا إعلان واضح عن كفاية النعمة التي ليس أمام البشرية الضعيفة العاجزة أمام الخطية والسقوط إلا أن تقبلها بشكر وامتنان من أجل الحصول على الخلاص والفداء الأبدي: «لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ» (أف2: 8، 9).

د. القس يوسف سمير

* راعي الكنيسة الإنجيلية في مصر الجديدة.
*رئيس مجلس كلية اللاهوت الإنجيلية في مصر.
* حاصل على درجة الدكتوراه في الخدمة Doctor of ministry من معهد دراسات العبادة بمدينة جاكسونفيل بولاية فلوريدا – أمريكا عام 2021.
* بكالوريوس العلوم اللاهوتية من كلية اللاهوت الإنجيلية بالقاهرة عام 1998.
* ليسانس الألسن قسم اللغة الفرنسية من كلية الألسن جامعة عين شمس عام 1993.
* ترجم وكتب عددًا من الكتب.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى