ميلاديات

ماران آثا تحية مسيحية قديمة، وكلمة السر بين المؤمنين

كُتب العهد الجديد باللغة اليونانية الشعبية، لغة إنسان الشارع، لتصل رسالة محبة الله في بساطة سهولة ويُسر، لا في اليونانية الكلاسيكية كأشعار هوميروس وما شابه، التي تخاطب المثقفين.

إلا أنَّ لغة الحديث اليومي في فلسطين وقت تجسُّد الرب يسوع كانت اللغة الآرامية. ولذلك فلم يكن غريبًا أن نجد في العهد الجديد بعض الكلمات الآرامية، وإن كان الذين دوَّنوها قد كتبوها بحروف يونانية، مثل عبارة «طليثا قومي»

مع ترجمتها «يا صبية لك أقول قومي» (مر41:5) ولعل أشهر عبارة آرامية في العهد الجديد هي كلمات الرب يسوع على الصليب «إلوي، إلوي لما شبقتني» مع ترجمتها «إلهي، إلهي لماذا تركتني» (مر34:15)

 وهناك كلمات آرامية أخرى حفرت لنفسها مكانًا في ذاكرة المؤمنين، فبقيت كما هي في كتابات العهد الجديد.

ونعلم من سفر أعمال الرسل أن بولس الرسول أسَّس كنيسة كورنثوس وخدم فيها لمدة سنة وستة أشهر (أع18: 1-12). إلا أنه سرعان ما تسلَّلت مشاكل كثيرة إلى هذه الكنيسة، مما دعى سيدة اسمها «خلوي» أن يُحدّث أهلها بولس الرسول عن الخصومات التي دخلت للكنيسة (1كو 11:1) مما دفعه ليكتب رسالته الأولى التي عالج فيها المشاكل الكثيرة التي عانت منها كنيسة كورنثوس. وفي ختام الرسالة لخَّص الأمر في أن المشكلة الأساسية في هذه الكنيسة ترتبط بعلاقتهم بالرب يسوع. لذلك قال: إن كان أحد لا يحب الرب يسوع فليكن «أناثيما» (1كو22:16) بمعنى فليكن محرومًا. إلا أنه بعد هذه الخاتمة السلبية، استدرك فاستخدم تعبيرًا كان شائعًا في العصر المسيحي المبكر: «ماران أثا» وهي كلمة آرامية رأت كثير من الترجمات الإبقاء عليها كما هي، لمقدار ما تحتويه من معانٍ. فقد كانت تحية مسيحية شائعة من ناحية، وكلمة السر التي عن طريقها يتعرف المسيحي المؤمن على أخيه المؤمن متى تواجدا في بلادٍ غريبة مثل روما أو غيرها من البلدان، من الناحية الأخرى، حيث لم تكن الآرامية متداولة.

ولأن تدوين كتابات العهد الجديد، وبصفة خاصة المخطوطات التي وصلت إلينا، كانت تتم كتابتها بحروف متتابعة بلا فاصل بينها. ولذلك حار المترجمون في قراءة الحروف التي نحن بصددها: هي «ماران» «أثا»، أم «مارانا» «ثا»؟! ويختلف المعنى باختلاف القراءة. كلمة «مار» تعني سيد أو رب، وكلمة «أثا» تقابل الكلمة العربية أتى. ولذلك نجد أنفسنا أمام ثلاثة معانِ، فقراءة «ماران» «أثا» تعني «ربنا جاء»، أما قراءتها: «مارانا» «ثا» فتعني «ربنا آتٍ» أو «ربنا تعال»

ولذلك فهذه الكلمة تقدم:

استدعاء للماضي «ربنا جاء»

رجاء للحاضر «ربنا آتٍ»

دعاء للمستقبل «ربنا تعال!»

استدعاء للماضي «ماران» «أثا»، ربنا جاء

إن إيماننا الراسخ هو أن مجيء الرب يسوع إلى أرضنا هو أهم حدث في التاريخ. طلب زميلٌ لي كان يقدم دراسات كتابية لطلبة جامعيين أن يذكر كل منهم أهم حدث في التاريخ من وجهة نظره. فقال أحدهم وهو يدرس رياضيات إن أهم حدث في التاريخ هو «اكتشاف الصفر»، وقال آخر كان يدرس الميكانيكا إن اختراع العجلة هو أهم حدث في التاريخ، بينما قال ثالث إن انشطار الذرَّة كان أهم حدث، وهكذا…

أما وجهة نظرنا فهي ما عبّر عنه بولس الرسول: «ولما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه…» إنَّ أعظم حدث في التاريخ هو مولد يسوع المسيح، فأصبحنا نتحدث عن قبل الميلاد ( ق.م) وعن السنوات الميلادية (م)

«ماران أثا» استدعاءٌ للماضي. ربنا جاء، وبمجيئة تعامل مع مشكلة الإنسان العظمى، الخطية، وقدَّم الخلاص للبشرية. فبمجيء المسيح تحقَّق غفران الخطايا والسلام مع الله والسلام مع النفس، وتحقَّق الكثير لنا كمؤمنين به.

إن ما حققه الرب يسوع بمجيئه إلى أرضنا يفوق كل وصف وكل تعبير مما لا يتسع المجال للحديث عنه، وأترك للقارئ العزيز أن يتأمله، وإن كان لا يستطيع بشر أن يلمَّ بكل أبعاده.

بينما كان صديقنا العزيز الذي سبقنا لينضم إلى زمرة المرنمين السماويين الشيخ الأستاذ نجيب إبراهيم يتأمل ما أحدثه مجيء الرب يسوع إلى أرضنا تغنَّى بالترنيمة:

1- جاء يسوع وعمَّ السرور

جاء الإله القدير القويم

حقًا تجلى العجيب المشير

ربًّا وطفلاً بديعًا عظيم

قرار

فيه تطيب وتحلو الأمور

جاء يسوع وتمَّ السرور

2- جاء يسوع وحلَّ سناه

حبٌ حنوٌ وعطف فريد

جاء ليفتدي كل الخطاة

خذه فتحظى وتحيا سعيد

3- جاء يسوع لحلِّ القيود

كل حبال الحمام تبيد

فهو رب السماء الوحيد

وهو يحرر كل العبيد

رجاءٌ للحاضر «مارانا» «ثا»، ربنا آتٍ

كان المؤمنون في تسالونيكي يذكرون أحباءهم الذين انتقلوا فيحزنون، وإذا ببولس الرسول يشجعهم بكلماته التي لا زالت تكررها الأجيال: «لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام، فكذلك الراقدين بيسوع، سيحضرهم الله أيضًا معه» (1تس4: 13، 14).

وفي حديث بولس الرسول الطويل عن قيامة المسيح وقيامة المؤمنين في 1كو15 يضع الرسول إطاراً عامًا: «إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس» (ع 19). إنّ ثقتنا في مجيء المسيح ثانيةً تملأ قلوبنا بالرجاء في حياتنا اليومية، وفي وسط تقلّبات الحياة، ومهما قابلنا من ظروف. ولذلك يختم بولس الرسول حديثه الطويل بهذه الكلمات: إذاً يا إخوتي الأحباء، كونوا راسخين، غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم في الرب ليس باطلاً» (ع 58).

إنّ كل ظروف وأحوال الحاضر يتعامل معها المؤمنون في ضوء حقيقة أنَّ ربنا سيأتي ثانية. والحديث يطول ويطول، واختبارات المؤمنين كثيرة!

دعاءٌ للمستقبل «مارانا» «ثا»، ربنا تعال

في خاتمة سفر الرؤيا نجد العبارة: «آمين. تعال أيها الرب يسوع!» (رؤ20:22).

ودعاء المؤمنين هذا يذكرهم بحقيقة عمل الفداء وما يتطلب من تفاعل في حياة المؤمنين. «منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح، الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي يفدينا من كل إثم، ويطهِّر لنفسه شعبًا خاصاً غيوراً في أعمالٍ حسنة» (تي2: 13، 14).

ويحدّث بطرس الرسول المؤمنين الذين ينتظرون مجيء الرب، فيقول «أيُ أناسٍ يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب» (2بط3: 11، 12) فهي حياة تتناسب مع أناس يرددون في أنفسهم «مارانا» «ثا»، ربنا تعال!

ويعود بطرس الرسول فيؤكد للمؤمنين مسؤوليتهم إزاء صلاتهم ورجائهم: «إذ أنتم منتظرون هذه، اجتهدوا لتوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب» (2بط 14:3)

ومرة أخرى يطول الحديث ويطول…

عبّر أحد المؤمنين عن هذه الحقيقة في الترنيمة:

1- ربنا الحبيب تعال نحن في انتظار

قلبنا يتوق لتلك الديار

عالمنا ليس فيه سوى

الأتعاب والمرار

قرار

ربنا الحبيب   تعال تعال

تعال سريعًا   حقِّق الامال

تشوقت قلوبنا إليك  تعال تعال

2- نحن نصبو دومًا للقائك

قصدنا نراك في أمجادك

عجِّل بذلك اليوم السعيد

تعــال تعــال

3- حولنا الأعداء في كل مكان

حربنا تدوم في هذا الزمان

لذلك نرجو مجيئك

لخلاصـــنا

4- أعنّا لنخدم اسمك القدوس

نعلن خلاصك لكل النفوس

نتَّجر بوزناتـنا

إلى أن تجـــيء

«ماران» «أثا» ربنا جاء، عزاءٌ للماضي

«مارانا» «ثا» ربنا آتٍ، رجاءٌ في الحاضر

«مارانا» «ثا» ربنا تعال! دعاءٌ للمستقبل

كم أود أن نستعيد قيم ودعوة التحية المسيحية القديمة التي كانت في نفس الوقت كلمة السر بين المؤمنين الأوائل ليتعرف عن طريقها الأخ المؤمن على أخيه المؤمن متى تقابلا في البلاد الغريبة التي لا تستخدم الآرامية! وليكن له كل مجد!

د. عبدالمسيح اسطفانوس

*مدير عام دار الكتاب المقدس سابقًا.
* مستشار ترجمة الكتاب المقدس في الشرق الأوسط سابقًا.
* أستاذ علم اللاهوت في كلية اللاهوت الإنجيلية سابقًا.
* باحث وكاتب عدد من الدراسات والكتب، من أهمها: تقديم الكتاب المقدس، تاريخه وصحته وترجماته، مخطوطات البهنسا.
* رقد في الرب يوم الثلاثاء 30 نوفمبر 2021.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى