ميلاديات

الأول والآخر

في ذكرى الميلاد المجيد تحضرني ما سجلته ريشة الوحي على صفحات الكتاب المقدس من الأسماء والألقاب العديدة للرب يسوع، من هذه الألقاب الجميلة ما سطره الرائي في (رؤ22: 13) «أنا هو الألِفُ والياءُ، البَدايَةُ والنِّهايَةُ الأوَّلُ والآخِرُ». هذا الإعلان الرائع في صيغته البديعة من الكلمات المترادفة والمعاني المتشابهة يحمل في طياته العديد من المعاني الرائعة، أذكر منها الآتي:

أولاً: إله التاريخ كله:

(أنا هو الألف والياء) من المعروف أن الألف والياء هما أول وآخر الحروف الأبجدية، وبالتالي فهذا اللقب له دلالته على أن إلهنا هو الإله الأزلي الأبدي… هو رب الزمان الذي كان قبل كل الأزمنة والعصور، وسيبقى إلى أبد الدهور، هو الذي بدأ التاريخ وهو الذي يختمه، هو الرب الكائن، والذي كان، والذي يأتي، القادر على كل شيء، لا بداءة له ولا نهاية، هو هو أمسًا واليومَ وإلَى الأبدِ كما يقول كاتب العبرانيين (عب1: 8-12) «أنتَ يارَبُّ في البَدءِ أسَّستَ الأرضَ، والسماواتُ هي عَمَلُ يَدَيكَ. هي تبيدُ ولكن أنتَ تبقَى.»

وهذا يذكّرنا بالحوار الذي دار يوماً بين الرب يسوع في أيام تجسده مع اليهود عندما قال لهم «أبوكُمْ إبراهيمُ تهَلَّلَ بأنْ يَرَى يومي فرأَى وفَرِحَ. فقالَ لهُ اليَهودُ: ليس لكَ خَمسونَ سنَةً بَعدُ، أفَرأيتَ إبراهيمَ؟ قالَ لهُمْ يَسوعُ: الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: قَبلَ أنْ يكونَ إبراهيمُ أنا كائنٌ» (يو8: 56-58).

وهذا ما أكده موسى في (مز90: 2) عندما قال: «يارَبُّ… مِنْ قَبلِ أنْ تولَدَ الجِبالُ، أو أبدأتَ الأرضَ والمَسكونَةَ، منذُ الأزَلِ إلَى الأبدِ أنتَ اللهُ.»

ثانياً: سرّ سلامنا في الحياة:

عندما يلِّقب الرائي إلهنا بأنه (الأوَّلُ والآخِرُ) يقرن كلامه بالوعد «لا تخَفْ» (رؤ1: 17ب). وكأنه بهذا الإعلان العظيم يضع أمامنا الحيثيات التي تجعلنا نطمئن، فربما يقول لنا البعض في وقت خوفنا «لا تخف»، لكن كلمتهم لا تعني لنا أي شيء لأن قائلها ليس له سلطان على شيء، ولكن عندما يكون قائلها هو «الأوَّلُ والآخِرُ» ذاك الذي «فوقَ كُلِّ رياسَةٍ وسُلطانٍ وقوَّةٍ وسيادَةٍ»، عندئذ يصبح لكلامه فاعلية وتأثير.

في رؤيا ص2 يقدِّم الرب نفسه لكنيسة سميرنا المتألمة، والتي معنى اسمها «مُرَة» والتي تعاني من الاضطهاد والاستشهاد، على أنه: »[الأوَّلُ والآخِرُ] « (رؤ2: 8). وكأنه يقول لهم: أنا قبل وبعد الذين يضطهدونكم، هم سيفنون وينتهون لكن أنا هو الدائم، فلا تخافوا لأني معكم. هذا ما يجعلنا نهتف أمام التحديات والتهديدات «إنْ كانَ اللهُ معنا، فمَنْ علَينا؟» (رو8: 31).

نعم! كيف نخاف وهو الذي قال لنا في وصية الوداع «وها أنا معكُمْ كُلَّ الأيّامِ إلَى انقِضاءِ الدَّهرِ» (مت28: 20)

ونحن نضع أقدامنا على أول طريق العام الجديد، لا نخشى من مواجهة المستقبل، فنحن نثق أن إلهنا معنا في كل أيام عمرنا، وعينه علينا من أول السنة إلى آخرها، وإن كنا لا نعرف الطريق، لكننا نعرف تماماً مَنْ هو الرفيق الذي يرافقنا ويلازمنا ويزاملنا طول الطريق، من المهد إلى المجد… الماضي يشهد بأمانته، والحاضر يفخر برعايته، والمستقبل في ضمان بين يديه الأمينتين.

هذا هو الفكر الذي يعطي كل مؤمن بالمسيح راحة بالقلب، وسلام في النفس، الإله الذي كان مع الآباء والأجداد نثق أنه سيبارك الأبناء والأحفاد، معنا من الطفولة إلى الشيخوخة، يحملنا ويسندنا ويغطي احتياجنا، لا شيء يفصله عن محبتنا أو يوقفه عن معونتنا. كيف لا! ووعد فادينا «قد تمَّ! أنا هو الألِفُ والياءُ، البِدايَةُ والنِّهايَةُ. أنا أُعطي العَطشانَ مِنْ يَنبوعِ ماءِ الحياةِ مَجّانًا.» (رؤ21: 6)

ثالثاً: صاحب المكانة الأولى:

هو (الأول… والألف… والبداية) هذه الكلمات تعني أنه هو الخالق، فمكتوب في (إشعياء41: 4) «مَنْ فعَلَ وصَنَعَ داعيًا الأجيالَ مِنَ البَدءِ؟ أنا الرَّبُّ الأوَّلُ»… أصل كل شيء، منه يبدأ الكل، «كُلُّ شَيءٍ بهِ كانَ، وبغَيرِهِ لم يَكُنْ شَيءٌ مِمّا كانَ» (يو1: 3). الحياة تبدأ به وتنتهي عنده، لأن منه وبه وله كل الأشياء» (رو11: 36). «وبهِ نَحيا ونَتَحَرَّكُ ونوجَدُ» (أع17: 28).

«فإنَّهُ فيهِ خُلِقَ الكُلُّ: ما في السماواتِ وما علَى الأرضِ، ما يُرَى وما لا يُرَى، سواءٌ كانَ عُروشًا أم سياداتٍ أم رياساتٍ أم سلاطينَ. الكُلُّ بهِ ولهُ قد خُلِقَ» (كو1: 16).

هو [الأوَّلُ والآخِرُ] يعني هو المالك الحقيقي لكل شيء، طالما هو خالق كل شيء فبالتالي يستحق أن يكون له الباكورة من وقتنا ومالنا، ومواهبنا ووزناتنا، ويجب أن نعيش له كوكلاء أمناء على كل ما وهبنا إياه.

ولعل هذا يفسِّر ما جاء في العهد القديم بشأن تقديم الباكورة للرب من كل شيء، فمكتوب «أول أبكار أرضك تحضره إلى بيت الرب» و(الباكورة) يعني (الأفضل) وتكريسه للرب يعني أنني أعطي ما يمثل الكل اعترافاً بفضل الرب وحقه في الكل.

هو [الأول] بمعنى هو يتقدمني ويسير أمامي ويقودني. أشدو مع المرنم هاتفاً «جَعَلتُ الرَّبَّ أمامي في كُلِّ حينٍ، لأنَّهُ عن يَميني فلا أتَزَعزَعُ.» (مز16: 8).

فيكون هو أمامي قدوتي ومثالي، وأمامي لهدايتي وإرشادي، وأجعله أمامي كدرع وترس فيه حمايتي وأماني، ويبقى أمامي هدفي ورجائي.

عندما أقول عن إلهي إنه (الأول والآخر) هذا يعني أن فيه كفايتي، لتسديد كل احتياجاتي ومتطلبات حياتي. في مرات نقول عن كل ما نمتلكه هذا [أول وآخر] ما عندي، وفي التعبير نغمة فيها دلالة على قلة إمكانياتي، أما كوننا نقول عن السيد إنه [الأول والآخر] فهذا يعني أن إلهنا غير محدود وإمكاناته بلا حدود، وطالما هو لي، فبالتالي فإني أحسب نفسي أنني في غاية الثراء، وأشعر بقمّة الاكتفاء. أردد مع آساف «ومعكَ لا أُريدُ شَيئًا في الأرضِ.» (مز73: 25).

رابعاً: ضامن العهود والوعود:

«أنا هو الأوَّلُ والآخِرُ»، تعني أن مسيحنا هو الواهب والضامن لنا المَواعيدَ العُظمَى والثَّمينَةَ (2بط1: 4).

قد نتسائل مَنْ يضمن تحقيق كل ما جاء في أرجاء الكتاب المقدس من عهود ووعود؟! وهنا نجد أنفسنا أمام الخاتمة الرائعة التي تُعتبر بمثابة توقيع الله نفسه على وحيه المقدَّس باسمه العظيم «أنا هو الأوَّلُ والآخِرُ». فمكتوب في (رؤ21: 5، 6) «وقالَ الجالِسُ علَى العَرشِ: ها أنا أصنَعُ كُلَّ شَيءٍ جديدًا!». وقالَ ليَ: «اكتُبْ: فإنَّ هذِهِ الأقوالَ صادِقَةٌ وأمينَةٌ». ثُمَّ قالَ لي:»قد تمَّ! أنا هو الألِفُ والياءُ، البِدايَةُ والنِّهايَةُ». وهذا معناه أنه ضامن عهده على مر السنين، فمكتوب في (تث7: 9) «فاعلَمْ أنَّ الرَّبَّ إلَهَكَ هو اللهُ، الإلَهُ الأمينُ، الحافِظُ العَهدَ والإحسانَ للذينَ يُحِبّونَهُ ويَحفَظونَ وصاياهُ إلَى ألفِ جيلٍ». وتعبير «ألف جيل» بمعنى في كل عصر وجيل إلى ما لا نهاية.

كيف لا ؟! ألم يقل الرب يسوع في موعظته على الجبل:» فإنِّي الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إلَى أنْ تزولَ السماءُ والأرضُ لا يَزولُ حَرفٌ واحِدٌ أو نُقطَةٌ واحِدَةٌ مِنَ النّاموسِ حتَّى يكونَ الكُلُّ.»(مت5: 18). وقال: «السماءُ والأرضُ تزولانِ ولكن كلامي لا يَزولُ» (مت24: 35).

«فالذي وعَدَ هو أمينٌ». (عب10: 23) « لأن ليس اللهُ إنسانًا فيَكذِبَ، ولا ابنَ إنسانٍ فيَندَمَ. هل يقولُ ولا يَفعَلُ؟ أو يتكلَّمُ ولا يَفي؟» (عدد23: 19) «لا يتباطأُ الرَّبُّ عن وعدِهِ» (2بط3: 9).

ويسطر الرسول بولس قائلاً: «لأنَّ ابنَ اللهِ يَسوعَ المَسيحَ، الذي كُرِزَ بهِ بَينَكُمْ لم يَكُنْ نَعَمْ ولا، بل قد كانَ فيهِ نَعَمْ. لأنْ مَهما كانَتْ مَواعيدُ اللهِ فهو فيهِ «النَّعَمْ» وفيهِ «الآمينُ»، لمَجدِ اللهِ، بواسِطَتِنا»(2كو1: 19، 20). هنا نجد أن الرسول بولس يؤكد أن كل مواعيد الله قد تمت المصادقة عليها في المسيح الذي هو الإله الأمين الضامن لعهوده ووعوده المؤكدة، لأن فيه لم يكن «نعم» و»لا» اليوم شيء وغداً شيء آخر مختلف، ولكن دائماً (نعم)، فطالما المسيح حي فوعوده ومواعيده لا يمكن أن تسقط أبداً.

فهو الإله القدير، وقدرته تضمن تنفيذ ما وعد به… الإنسان المحدود في قدراته وإمكاناته قد يعِد ولا يستطيع أن يفي، ولكن الأمر يختلف تماماً مع الله.

كيف لا؟! ألم يقل الرب يسوع «لأنَّ كُلَّ شَيءٍ مُستَطاعٌ عِندَ اللهِ» (مر10: 27). لذا كان إبراهيم مقتنعاً تماماً أن الله قادرٌ أن يَدعو الأشياءَ غَيرَ المَوْجودَةِ كأنَّها مَوْجودَةٌ (رو4: 17) ونشدو مع أيوب «قد عَلِمتُ أنَّكَ تستَطيعُ كُلَّ شَيءٍ، ولا يَعسُرُ علَيكَ أمرٌ» (أي42: 2).

خامساً: ليس إله غيره:

«أنا هو الأوَّلُ والآخِرُ» تأتي بمعنى أنه ليس إله غيره كما جاء في (إش44: 6) «هكذا يقولُ الرَّبُّ مَلِكُ إسرائيلَ وفاديهِ، رَبُّ الجُنودِ: أنا الأوَّلُ وأنا الآخِرُ، ولا إلَهَ غَيري». هذا اللقب يبرهن على لاهوت المسيح، وقد ورد التعبير (البداية والنهاية) ثلاث مرات في سفر الرؤيا، في مرتين عن الله الآب (رؤ1: 8 و21: 6) وفي المرة الثالثة عن الرب يسوع في (رؤ22: 3) ومن هنا نرى أن اللقب الذي أطلقه الوحي المقدَّس على الله الآب هو نفسه اللقب الذي أطلقه على المسيح، فكما يقول إن الله هو الأول والآخر وليس سواه، يقول أيضًا عن المسيح هو البداية والنهاية (إش41: 4و 44، إش44: 6، إش48: 12).

(هو الأول والآخر) بمعنى ليس إله غيره في كماله، فالتعبير (الألف والياء) كان يعني الكمال. كان اليهود يقولون إن آدم كسر وصية الله، (من الألف إلى الياء) أي كل الوصايا، وإن إبراهيم حفظها من (الألف إلى الياء) أي أن إبراهيم حفظها كلها، وكانوا يقولون إن الله يبارك شعبه من (الألف إلى الياء) بمعنى أنه يبارك شعبه بركة كاملة.

هذا الإله العظيم الذي ليس بأحَدٍ غَيرِهِ الخَلاصُ (أع4: 12) يجب أن لا يشاركه أحد في مُلكه على حياتنا، فنعيش وصيته التي قالها منذ القديم «لا يَكُنْ لكَ آلِهَةٌ أُخرَى أمامي»(خر20: 3). إننا في احتياج صارخ هذه الأيام إلى كلمات إيليا التي صاح بها على جبل الكرمل عندما «تقَدَّمَ إلَى جميعِ الشَّعبِ وقالَ: حتَّى مَتَى تعرُجونَ بَينَ الفِرقَتَينِ؟ إنْ كانَ الرَّبُّ هو اللهَ فاتَّبِعوهُ، وإنْ كانَ البَعلُ فاتَّبِعوهُ» (1مل18: 21)، وفي حاجة ماسة إلى كلمات الرب يسوع الخالدة التي نادى بها في الموعظة على الجبل عندما قال: «للرَّبِّ إلَهِكَ تسجُدُ وإيّاهُ وحدَهُ تعبُدُ» (مت4: 10). «لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سيِّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ» (مت6: 24). وكم من إنسان هجر هيكل الله، وشيَّد هيكلاً لنفسه. ليكن الرب أولاً في حياتنا، وليكن حبنا الكامل له، وتكريسنا الكلي لشخصه، وولاؤنا المطلق له، ولتكن عبادتنا له وحده دون سواه، وليكن شعارنا ما جاء في ترنيمة وصلاة داود «لأنَّكَ عظيمٌ أنتَ وصانِعٌ عَجائبَ. أنتَ اللهُ وحدَكَ «(مز86: 10).

سادساً: صاحب الكلمة النهائية:

نعم! من أساسيات إيماننا المسيحي أن إلهنا هو «الضابط الكل» كما نقول في قانون الإيمان.

ياه! كم هو مثير ومزعج عندما نتخيل أن قوى الشر والطغيان هي التي تتحكم بعالمنا، وننسى أن إلهنا كما قال دانيال هو «مُتَسَلِّطٌ في مَملكَةِ الناسِ»(دا4: 25).

وكما قال الحكيم في سفر الجامعة «إنْ رأيتَ ظُلمَ الفَقيرِ ونَزعَ الحَقِّ والعَدلِ في البِلادِ، فلا ترتَعْ مِنَ الأمرِ، لأنَّ فوقَ العالي عاليًا يُلاحِظُ، والأعلَى فوقَهُما»(جا5: 8). ما أحوجنا إلى أن نتطلع إلى إلهنا باعتباره الضابط الكل. فمكتوب: «الرَّبُّ في العُلَى أقدَرُ» (مز93: 4).

دع القضاء يقول كلمته، لكن الكلمة النهائية للرب. ألم يتم القبض على يوسف بتهمة باطلة؟ وطرحوه في السجن؟! لكن طالما الرب لم يقل كلمته النهائية بعد، لذلك نرى يوسف ينتقل من الأسر إلى القصر، ومن القيد إلى القيادة (تك41: 41- 44).

ألم يحكم هيرودس على بطرس وألقاه في السجن؟! لكن الكلمة النهائية كانت للرب الذي فك قيوده، وفتح أبواب السجن أمامه (أع ص12).

ألم يُلقَ بولس وسيلا في سجن فيلبي، وكانت عليهما حراسة مشددة؟! ومع ذلك كانت الكلمة النهائية للرب الذي أحدث زلزلةً عظيمة، وفتح لهما أبواب السجن (أع16: 26).

لم نسمع إطلاقاً عن امرأةٍ في سن التسعين قد أنجبت، أو مولوداً أعمى قد نال نعمة البصر، أو مريضاً بالبرص قد نال نعمة الشفاء بالتمام، والعديد من الأمراض التي وقف الطب عاجزاً عن شفائها لأن الكلمة الأخيرة لم تكن للطب إنما كانت للرب القدير، رب المعجزات (راجع تك21، يو9: 6، مت8: 3).

حتى الشيطان إذا أراد أن يحاربنا ويدمرنا، فإيماننا أنَّ الأحداث التي يصمَّمها الشيطان لأبناء الله لابد أن يعرضها أولاً على الله لكي يحصل منه على تصريح بها، وإذا لم يصّرح له الله بها، فمن المستحيل أن ينفذ شيئاً منها، والمؤمن يعلم جيداً أن الله قبل أن يعطي مثل هذا التصريح للشيطان، لابد أن يجري تعديلاته، ويضع لمساته الشخصية على الحدث، وهو الذي يحدد شكله وحجمه وأبعاده بدقة متناهية، حتى لا يفعل الشيطان بالمؤمن أكثر أو أقل مما حددته حكمة الله.

فالحدث قبل أن يأتينا لابد أن يمر على إلهنا أولاً ليأخذ تأشيرة جواز مروره ووصوله إلينا، أليس هذا ما حدث مع أيوب؟! مكتوب «فقالَ الرَّبُّ للشَّيطانِ: هوذا كُلُّ ما لهُ في يَدِكَ، وإنَّما إلَيهِ لا تمُدَّ يَدَكَ… ها هو في يَدِكَ، ولكن احفَظْ نَفسَهُ» (أي1: 12، 2: 6).

أليس هذا ما حدث مع الرسول بولس، فقد أصابته تجربة مريرة فنسمعه يقول: «ولِئلا أرتَفِعَ بفَرطِ الإعلاناتِ، أُعطيتُ شَوْكَةً في الجَسَدِ، مَلاكَ الشَّيطانِ ليَلطِمَني، لِئلا أرتَفِعَ. مِنْ جِهَةِ هذا تضَرَّعتُ إلَى الرَّبِّ ثَلاثَ مَرّاتٍ أنْ يُفارِقَني» (2كو12: 7، 8).

لقد أدرك أن شوكته صناعة شيطانية لكنها بسماح من الله لأن جواز مرورها إليه يحمل توقيع الرب، ولو كان الله لا يريد هذا ما كانت قد وصلت إليه أبداً، ولقد كشف له الرب عن سر شوكته حتى لا يرتفع من فرط الإعلانات، وفي نفس الوقت لم يتركه بل وعده بالمزيد من النعمة ليعرف كيف يتعامل مع الشوكة.

نعم! ما يطمئنا أن إلهنا هو [الألف والياء] هو صاحب السلطان… صاحب الكلمة الأخيرة، الخير صناعته، والشر بإذنٍ منه.

حتى الموت بكل سلطانه وصولجانه لم تكن، ولن تكون، له الكلمة النهائية. لقد أقام الرب يسوع شاباً وحيداً لأمه محمولاً في نعشه إلى مثواه الأخير (لو7: 14)، وأقام ابنة وحيدة لوالديها بعد أن كانت قد ماتت، والجميع يبكونها (مت9، مر5)، وأقام آخر بعد أن أنتنَ في قبره (يو11)، وقام هو نفسه بعد أن صُلب ومات ودُفن متحدياً الموت (مت27: 60)، وقريباً سيأتي اليوم الذي فيه يقوم كل الراقدين في المسيح.( أع1: 11).

كيف لا ومكتوب عن إلهنا «عِندَ الرَّبِّ السَّيِّدِ للموتِ مَخارِجُ» (مز68: 20). وهو الذي قال: «أنا هو القيامَةُ والحياةُ. مَنْ آمَنَ بي ولو ماتَ فسَيَحيا»(يو11: 25).

عندما أدرك صاحب المزامير أن البشر مهما علت مكانتهم وسلطاتهم لن تكون لهم الكلمة النهاية، لذلك شدا قائلاً بأغنيته الجميلة «الرَّبُّ لي فلا أخافُ. ماذا يَصنَعُ بي الإنسانُ؟» (مز118: 6).

لأنه أصبح لا يخشى ما يقرره البشر، «فمَنْ ذا الذي يقولُ فيكونَ والرَّبُّ لم يأمُرْ؟» (مرا3: 37).

يا له من أمر يطمئنا عندما نعلم أنّ إلهنا هو الذي يقرر النهاية كيف تكون؟ ومتى تكون؟

سابعاً: الديّان العادل:

في (رؤ22: 12، 13) مكتوب: «وها أنا آتي سريعًا وأُجرَتي مَعي لأُجازيَ كُلَّ واحِدٍ كما يكونُ عَمَلُهُ. أنا الألِفُ والياءُ، البِدايَةُ والنِّهايَةُ، الأوَّلُ والآخِرُ». هذا معناه أن (الألِف والياء) فيها إشارة إلى أن المسيح هو القاضي الديان والذي سنقف أمامه في نهاية المطاف كما هو مكتوب في (2كو5: 10) «لأنَّهُ لابُدَّ أنَّنا جميعًا نُظهَرُ أمامَ كُرسيِّ المَسيحِ، ليَنالَ كُلُّ واحِدٍ ما كانَ بالجَسَدِ بحَسَبِ ما صَنَعَ، خَيرًا كانَ أم شَرًّا.»

ففي نهاية مشوارنا هنا على الأرض، وعندما تغيب شمس حياتنا ويُسدل الستار على مسرحية الحياة، سنمثل أمام المسيح (الألِفُ والياءُ) لكي نقدم حساباً عن وكالتنا (رو14: 10) «لأنَّنا جميعًا سوفَ نَقِفُ أمامَ كُرسيِّ المَسيحِ.»

الجدير بالذكر أن تعبير (كرسي المسيح) هي ترجمة للكلمة اليونانية (بيما Bema) التي تُطلق على المنبر العالي الذي كان رجال السلطة يستخدمونه في مخاطبة الشعب ولاسيما في أمور القضاء، ولهذا جاءت في بعض ترجمات العهد الجديد (كرسي القضاء)، أي المنصة حيث كان القاضي يجلس يشهد المباريات الرياضية ثم يوزع الجوائز على الفائزين… وهكذا عندما نقف أمام كرسي المسيح سوف ننال المكافآت التي وعدنا بها والتي يُطلق عليها أكاليل مثل:

  1. إكليل المجد (1بط5: 3، 4)
  2. إكليل البر (2تي4: 8)
  3. إكليل الحياة (رؤ2: 10، يع1: 12).

إن المؤمنين عندما يقفون أمام كرسي المسيح لا لكي يدانوا، وإنما لكي ينالوا المكافآت والأكاليل كما جاء في (مت25: 31- 34) «ومَتَى جاءَ ابنُ الإنسانِ في مَجدِهِ وجميعُ المَلائكَةِ القِدِّيسينَ معهُ، فحينَئذٍ يَجلِسُ علَى كُرسيِّ مَجدِهِ. ويَجتَمِعُ أمامَهُ جميعُ الشُّعوبِ، فيُمَيِّزُ بَعضَهُمْ مِنْ بَعضٍ كما يُمَيِّزُ الرّاعي الخِرافَ مِنَ الجِداءِ، فيُقيمُ الخِرافَ عن يَمينِهِ والجِداءَ عن اليَسارِ. ثُمَّ يقولُ المَلِكُ للذينَ عن يَمينِهِ: تعالَوْا يامُبارَكي أبي، رِثوا الملكوتَ المُعَدَّ لكُمْ منذُ تأسيسِ العالَمِ.» وفي إنجيل يوحنا يؤكد نفس المعنى، مكتوب «الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّ مَنْ يَسمَعُ كلامي ويؤمِنُ بالذي أرسَلَني فلهُ حياةٌ أبديَّةٌ، ولا يأتي إلَى دَينونَةٍ، بل قد انتَقَلَ مِنَ الموتِ إلَى الحياةِ.» (يو5: 24). ويقول الرسول بولس «إذًا لا شَيءَ مِنَ الدَّينونَةِ الآنَ علَى الذينَ هُم في المَسيحِ يَسوعَ، السّالِكينَ ليس حَسَبَ الجَسَدِ بل حَسَبَ الرّوحِ» (رو8: 1).

في الوجه المقابل نجد الكتاب يسجل في (مت25: 41، 46) «ثُمَّ يقولُ أيضًا للذينَ عن اليَسارِ: اذهَبوا عَنِّي يا مَلاعينُ إلَى النّارِ الأبديَّةِ المُعَدَّةِ لإبليسَ ومَلائكَتِهِ… فيَمضي هؤُلاءِ إلَى عَذابٍ أبديٍّ والأبرارُ إلَى حياةٍ أبديَّةٍ.»

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى