بهجة الميلاد

ميلاد السَّيِّد المسيح حدثٌ كبير ٌحيٌّ قائمٌ في حياتنا لا نقرأه في كتاب كقصّةٍ، بل نحن أَمام حدثٍ سماويٍّ وقع في صميم التّاريخ البشريّ. فالميلاد هو حياتنا –كما يقول الأَب متَّى- هو إِيماننا، هو كُلُّ رجائنا، الَّذي نحيا بهِ متجاوزين بهِ كلّ ضعفِ الإِنسان، وكلّ نقصٍ وكلّ قُصُورٍ وكُلّ هموم وأَتعابِ الزَّمان، كأَنَّها لا شيء إِذ صرنا نحن لحمهُ وعظامهُ.
إِذًا لسنا بصدد ذكرى وتذكار، بل نحن بصدد علاقة حيَّة بمسيح المذود، وعلاقة وجود وكيان مُتبادل، المسيح مولودٌ فَأَنَا مَوجُودٌ، فميلادهُ في ذلك اليوم هو ميلادنا الأَبديّ، وحياتهُ على الأَرض صارت بدءَ حياتنا. بآدم دخل الموت إِلى كُلِّ إِنسانٍ وبالمسيح سيحيا الجميع.
وُلِدَ المسيحُ في مذودٍ للبقر، في قرية بيت لحم بفلسطين، إِذ أَراد أَنْ يأتينا وديعًا متواضعًا قريبًا مِنَّا، أَراد أَن يكون مكانهُ مُتاحًا للبسطاء والفقراء حتى يدخلوا إِليه دون استئذانٍ، فَمَنْ يدخل المذود باستئذان. كان مثلَنَا في كُلِّ شيءٍ ماعدا الخطيَّة، وعندما جاء في مذودٍ كان ملكًا، وعندما قام ليغسل أَرْجُلَ التَّلاميذ كان سيِّدًا، بحقٍّ لم يَكُنْ أَبدًا في احتياجٍ إِلى مظاهر تُكْسِبُهُ إِحساس الملك العظيم, لذا لم يخشَ على نفسهِ من الاتِّضاع، إذ كان في العمق والجوهر ملكًا.
عندما وجدوهُ يصنع المعجزات: يُقيم الميت بكلمةٍ، ويفتح أَعين العميان، ويشفي الأَبرص والأَعرج، ويُخْرِجُ الأَرواح الشِّرِّيرة بكلمةٍ، ويُشبع الجموع الغفيرة بقليلٍ من الطَّعام، فَيَشْبَعُ النَّاس ويفيض، فهو الحلُّ إِذن لكُلِّ مشاكلهم؛ قرّروا أَن يُنصِّبوهُ ملكًا عليهم، فرفض، وقال لهم: مملكتي ليست من هذا العالم. لم يَكُنْ يبغي مُلكًا أَرضيًّا أَو مَنْصِبًا أَو كرسيًّا أَو سُلطةً لِأَنَّ الكرسيّ لا يُعطي قيمةً للإِنسان بل الإِنسان الصَّحيح هو الَّذي يُعطي للمنصب قيمةً؛ لذا جاء ليملك على قلوب البشر فيُعطيها طبيعةً جديدةً تُحِبّ حتى الأَعداء، وتعطي أَكثر مِمَّا تأخذ وتهتمّ بخير الآخرين أَكثر حتى من نفسها، وتُخلَّص الإِنسان من الأَنانيَّة والكبرياء وحُبِّ الذَّات والكراهيةِ؛ لذا قال الملاكُ وهو يُبشّر الرُّعاة بميلادهِ: «هَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمُسِيحُ الرَّبُّ.
ولعلّها فُرْصة جيّدة أَن نوضّح بعض الحقائق الضَّروريّة عن مَنْ هو المسيح، وماذا يقول عَنْهُ الكتاب، نحن كمسيحيّين نُؤمن بإِلهٍ واحدٍ لا شريك له، ويبدأُ قانون الإِيمان المسيحيّ بعبارة «بالحقيقةِ نُؤمنُ بِإِلهٍ واحدٍ.» لِأَنَّهُ إِذَا لم يَكُنْ الله واحد لا يكون هو الله، لِأَنَّ اللهَ لا يكون إِلَّا فريدًا في العظمةِ، ولا يكون فريدًا في العظمةِ إِلَّا مَنْ لا مُسَاوِي له، ومَنْ لا مُساوي لهُ لا يكون إِلَّا واحدٌ.
فِي إِشعياء44: 6 يقول اللهُ: «أَنَا الْأَوَّلُ وَأَنَا الْآخِرُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرِي.» وقال النَّبيُّ موسى: «الرَّبُّ هُوَ الْإِلَهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَعَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ. لَيْسَ سِوَاهُ.» (تَثْنِيَة4: 39)، وقال أَيْضًا: «الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ». ويقول الرّسول بُولُس «لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ». (1تيمو2: 5).
الكتاب المقدّس يَنُصُّ على أَنَّ الله روحٌ لا أَثَرَ للمادة فيه، وأَنَّهُ لا يَلِدُ ولا يُولَدُ، وأَنَّهُ لا شريكَ لهُ أَو نظير، وأَنَّهُ لَيْسَ قبلهُ أَو بعدهُ إِلهٌ، وأَنَّهُ ثابتٌ لا يزيد ولا ينقص على الإِطلاق، إِلَّا أَنَّ هذه الوحدانيَّة ليست عدديّة ولكنّها طبيعيّة، فطبيعةُ الله- كما يقول الآباء- ليست منقسمة، فهو الحقُّ، والحقُّ لا ينقسم، وهو الحياة والحياة لا تنقسم، وهو المحبَّة والمحبَّة لا تنقسم؛ لذا فالله الواحد أَعلن نفسهُ لنا في ثلاثة تعييناتٍ «أَقانيم»: الآب، والكلمة (أَي المسيح)، والرُّوح القدس. أَي أَنَّ الباري تعالى جَوهرٌ واحدٌ موجودٌ بالكامل، وله ثلاث خواص ذاتيّة كَشَفَ عنها المسيح. وعندما يقول الإِنجيل إِنَّ المسيح ابْنُ اللهِ لا يُرَادُ بكلمة ابْن المعنى الحرفيّ.. بل الاِبْن بالمعنى الرُّوحيّ، الَّذي يتوافق مع رُوحانيّة الله وخصائصهِ السَّامية، كَأَنْ نَصِفَ شخص بأَنَّهُ ابن مِصر أَو ابن النِّيل للإِشارة إِلى موطنهِ وانتماءهِ.
إِذن المسيحيَّة ترفض رفضًا تامًّا أَنَّ الله يَلِدُ أَوْ يُولَدُ، فاللهُ الَّذي نعرفهُ ونعبدهُ، والَّذي أَعلنهُ لنا الكتاب المقدّس ليس إِلهًا يَلِدُ أَو يُولَدُ، نحن لا نؤمن بإِلهٍ يَلِدُ أَوْ يُولَدُ، فالكتاب المقدّس يُعلّمنا أَنَّ الله روحٌ، والرُّوح لا يتناسل ولا يتزاوج ولا يُنْجِبُ. حاشا لله أَنْ يكونَ لهُ صاحبةٌ أَو وَلَد.
إِذًا هي بنوّةٌ روحيَّة وليست جسديَّة.. فالبنوّة هنا تدلّ على المشابهة والمقام، بمعنى أَدقّ هو صورةُ الله الْمُعْلَنة والْمُتجسّدة لنا.. فالمسيح هو بهاءُ مجدِ اللهِ ورسمُ جوهرهِ.. أي أَنَّهُ الضُّوء المرئيّ، الَّذي يُظْهِرُ مجدَ الله غير المرئيّ، والرّسم الْمُدْرَك الَّذي يُعْلِنُ جوهرَ الله غير المدركِ.
والكتاب المقدّس لا يُعلّمنا أَنَّ هناك إِنسانًا يُدْعَى المسيح صار إِلهًا، بل يُعلن لنا أَنَّ اللهَ صار إِنسانًا وتجسَّد وجاء إلى عالمنا دون أَنْ يَكُفَّ عن أَنْ يكون هو الله. وهُنا أعلن اللهُ ذاتَهُ لنا كاملًا في المسيح، وإِنْ كان اللهُ قد تَجَلَّى يومًا لموسى في عُلْيَقَةِ النَّارِ، فليس عجيبًا أَنْ يتجلَّى في صورةِ إِنسانٍ.
لذلك كان المسيح عجيبًا فريدًا، أَقام الموتى، وفتَّح أَعين العميان، وأَبْرأ الأَبرصَ والأَعرجَ، وأَخْرَجَ الشَّياطين، وَهَدَّأَ البحرَ والرِّيحَ، وأَعلن سلطانهُ على الطَّبيعةِ، وعَمِلَ أَعمال الله، حياتهُ كانت خاليةً من الخطيَّةِ، والَّذي يعيش حياةً خاليةً من الخطيَّةِ ليس مُجرّد إِنسان، تعاليمهُ لَمْ يَكُنْ لها مثيل، غَيَّرت ومازالت تُغَيِّرُ العالَمَ. ويمكن لِكُلِّ إِنسانٍ أَن يُقِيمَ معهُ علاقة شخصيَّة اخْتِبَارِيَّة لِأَنَّهُ حَيٌّ. وهكذا نرى الإِله المتعالي الَّذي هو فوق الإِدراكِ والتَّصوّرِ، نراهُ مُعلنًا في صورةٍ واضحةٍ للعقل والإدراك في شخص يسوع المسيح. «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ».
ماذا لنا من رسالةٍ في عيد الميلاد المجيد:
هي كلماتٌ ودروسٌ نستطيع أَن نتوقَّفَ عندها في قصَّة الميلاد، وهي في نفس الوقت ترتبط بواقعنا وتُخاطبنا في ظروفنا وحياتنا:
الْخَيْرُ حَتْمًا سَيَنْتَصِرُ (فَلَا تَفْشَل فِي صُنْعِ الْخَيْرِ):
في قصَّة الميلاد نتقابل مع أَيادي كثيرة تَضَافَرَتْ لزرعِ الخير كمريم العذراء، ويُوسُف النَّجَّار، والرُّعاة، والمجوس، فَسَجَّل الوحي أَعمالهم بأحرفٍ من نورٍ، وهناك أَيادي تَأمرت وأَرْهَبَتْ وأَفْزَعَتْ وقَتَلَتْ، كهيرودس الملك الشِّرِّير وحاشيتهُ فَحَصدَ كما زَرَعَ، ودائمًا يأْتي الحصادُ من نفسِ نوعِ الزَّرع، ولكن لَيْسَ بنفسِ القدر بل أَضْعَاف خَيرًا كان أَمْ شَرّ.
الشَّرُّ حتمًا مهزوم (لَا تَغِرْ من الأَشرار):
يقول الكتاب: «لَا تَغِرْ مِنَ الْأَشْرَارِ، وَلَا تَحْسِدْ عُمَّالَ الْإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ مِثْلَ الْحَشِيشِ سَرِيعًا يُقْطَعُونَ، وَمِثْلَ الْعُشْبِ الْأَخْضَرِ يَذْبُلُونَ.»
اللهُ هو المسيطر على مُجريات التَّاريخ بكُلِّ ما فيه، ولا يوجد شيءٌ أَو شخصٌ خارج نطاقِ سُلْطَانِهِ وسيادتهِ، فهو ضابط الكُلِّ، وليس هناك شيء يُمكن أَن يحدث خارج حساباتِ الله أَو بعيدًا عن أَجندتهِ، فرغم أَنَّه تاريخُ البشرِ إِلَّا أَنَّ الله هو سيِّدُ التَّاريخ، فالله هو القادر والحاضر في التَّاريخ، فتذكّر أَنَّهُ يُقاوم المستكبرين، فهل تتواضع وتَذْكُر أَنَّهُ إِنْ تعاظم الشِّرِّيرُ، وتجبَّر كُلُّ مستبدٍ، وافْتَرَى كُلُّ ظالمٍ، فَإِنَّ ما يحتاج اللهُ أَن يفعلهُ هو أَنْ يَدَعَ الأَحداث تأخذ مجراها، وعندها يتمُّ الانهزام الذَّاتيّ للشَّرِّ، حتى وإِنْ كان الشِّرِّير ومَنْ تجبّر لم يزلْ عصيًّا عنيدًاً متكبّرًا ولم يتأثّرْ قلبهُ أَو يستيقظ ضميرهُ، رُبَّما لأَنَّه كان يعلم أَنَّه يستطيع أَن يعوّض خسارتهُ من مؤيديهِ البسطاء، لذا يرفض أَن يتغيّر وأَن يخضع لله، وكُلُّ مَن يتعلّق بأَصنامهِ فإِنَّه حتمًا سيُتْرَكُ وحيدًا ليلقى مصيرهُ.
وعندما يسمح الله بصعود إِنسانٍ ونزول آخر، أَو عندما يأتمنك الله على دورٍ أَو رسالةٍ، فعليك أَن تفكر لماذا أَختارك الله دون سواك لهذا الدور؟ هل لأَنَّهُ يثق بِكَ ويتوقّع منك أَن تصنع الخير لِمَنْ حولك… هل يُريد أَن يعطيك فرصةً حقيقيّة لتخدمهُ من خلال خدمتك لِمَنْ حولك، فيباركك.
يقول الحكيم سُليمان:
«اَلْمَلِكُ الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ لِلْفُقَرَاءِ يُثَبَّتُ كُرْسِيُّهُ إِلَى الأَبَدِ.» (أَمْ29: 14).
«اَلْمَلِكُ الْحَكِيمُ يُشَتِّتُ الأَشْرَارَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمِ النَّوْرَجَ.» (أَمْ20: 26).
«الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ يَحْفَظَانِ الْمَلِكَ، وَكُرْسِيُّهُ يُسْنَدُ بِالرَّحْمَةِ.» (أَمْ20: 28).
«أَزِلِ الشِّرِّيرَ مِنْ قُدَّامِ الْمَلِكِ، فَيُثَبَّتَ كُرْسِيُّهُ بِالْعَدْلِ.» (أَمْ25: 5).
«اَلْحَاكِمُ الْمُصْغِي إِلَى كَلاَمِ كَذِبٍ كُلُّ خُدَّامِهِ أَشْرَارٌ». (أَمْ29: 12).
كُلُّ خداعٍ وزيفٍ حتمًا له نهاية
على مدار سنوات وسنوات خُدِعَ هذا الشَّعب واسْتُنْزِفَ وضاع كثيرًا من أَخلاقهِ، خُدِعَ باسم الدّين. جَعَلُوهُ يعيش في وهمٍ عظيمٍ، جَعَلُوهُ يكره باسم الدّين، ويحرق ويهدم باسم الدّين، ويُكفّر ويشتم ويلعن باسم الدّين، ويقتل حتى باسم الدّين، وجَعَلُوهُ يظنّ أَنَّه بذلك يُقدّم خدمةً عظيمةً لله، وكأَنَّهم اللَّجنة المنظّمة لدخول الجنَّة، لكن انكسر الزَّيف وعَرِفَ الشَّعبُ حقيقةَ هؤلاء الَّذين استخدموا الدِّين ستار والله بريءٌ منهم، وهنا أَرجو أَن ننتبه فالدّين للحياةِ مثل الملح للطَّعام، والملح هو الَّذي يُعطي المذاق للطَّعام بشرط أَن يكون الملح الَّذي تضعهُ في الطَّعام مُناسبًا لا أَقلّ من اللَّازم ولا أكثر من اللَّازم، لأَنَّه عندما يزداد الملح يُفْسِدُ المذاق، وعندما تزداد النَّزعة الدِّينيَّة الشَّكليَّة والمدّ الدِّينيّ المتشدّد فإِنَّ ذلك قد يُؤدّي إِلى فساد المجتمع وكُلّ شيءٍ خاصَّةً إِذا لم يَكُنْ هذا التَّديّن حقيقيًّا ومضحيًّا وباذلًا ومُستنيرًا. فالله لا ينخدع بالمظهر والشَّكل، ولا يكفي أَن تنحصر عِبادتنا سواء في الكنيسة أَو المسجد على الوعظ والْخُطَبِ والأَناشيد الدِّينيَّة والتَّرانيم والتِّلاوة، فالنَّاس من حولنا لا تَهتَمُّ بنوع عقيدتك أَو بإِيمانك أَو إِلى أَيِّ ديانةٍ تنتمي، ما يهمّهم إِلى ماذا تقودك هذه العقيدة؟ وماذا تفعل بهذا الإيمان: تبني أَم تهدم؟ تَعْدِلُ أَم تظلم؟ تُعطي أَم تأْخذ؟ تُحِبُّ أَم تكره؟ تُخفّف عن النَّاس أَم تقهرهم؟ تُبَارِكُ أَم تلعن؟ هل تترجم صلاتك إِلى رغبةٍ صادقةٍ واقترابٍ ومحبَّةٍ للآخرين. وصومك هل يعود بالخير على مَن حولك، وعِبادتك هل تتحوّل إِلى التزامٍ واحترامٍ للقوانين وحقوق الآخرين، إِذ كيف نُهْدِرُ حقوق بعضِنَا البعض، ونأخذ ما ليس لنا، ونتسبّب في إِيذاء وضرر الآخرين، ثُمَّ نذهب لنصلّي.
الأَزمة يمكن أَن تُخْرِجَ فُرصةً
قال أَحد الحكماء: «لا أَحب الأَزمات، لكنِّي أُحِبّ الفُرص الَّتي تأْتي بها الأَزمات.» هل يُمكن أَن تتحوّل الأَزمة إِلى فرصةٍ، والضِّيق إِلى وسعٍ، والشَّرُّ إِلى خيرٍ، أَقول: نعم.
فاللهُ يجعل من الصِّعاب سُلَّمًا للارتقاء، ويستخدم الألم لصياغة حياتنا للأَفضل من جديدٍ، فيخرج من الآكل أُكلًا ومن الجافي حلاوة، فالمياه الَّتي كانت وسيلةَ إِهلاكِ العالَم القديم أَيَّام نُوح صارت هي نفسها وسيلة الإِنقاذِ عندما حَمَلَت الفلك ومَنْ فيه، والأُمّ عندما تأْتي ساعتها لتلد تتألّم كثيرًا، ولكنّها تفرح أَخيرًا إِذ وُلِدَ إِنسانٌ جديدٌ للحياة، فصار الَّذي كان سببًا في الأَلم مصدرًا للبهجة والفرح والسّعادة والرّجاء. وإِنْ كانت أُمُّنَا الغالية مِصر تألّمت كثيرًا الفترة الماضية إِلَّا أَنَّه قد آن لها أَنْ تفرح وتبتهج بصغيرها الجديد، الَّذي وُلِدَ وجاء عفيًّا وقويًّا. «فَكُلُّ الْأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ.» وتذكّروا أَنَّ كُلّ الدّول والجماعات الَّتي تأمرت أَو خطّطت لإِيذاء مِصر ستلقى جزائها، فاللهُ يكره الظُّلم.
جزءًا من الحلِّ لا جزءًا من المشكلة
في قصّة الميلاد ظهر الملاك عدّة مرّات لشخصيّاتٍ عِدّة برسالةٍ مُحدّدةٍ، اشتركت جميعها في أَنَّ كُلَّ الَّذين كلّمهم الملاك كانوا في حالة عملٍ، فالرُّعاة كانوا يحرسون حراسات اللّيل على أَغنامهم، والعذراء كانت تقوم بواجبها في المنزل، وكذلك المجوس والنَّجَّار، فالله ليس لديه رسالة للكسالى، والنِّعمة لا تأْتي أَبدًا لإِنسانٍ مُستلقي على ظهرهِ.
اليوم نحن نحتاج إِلى ثورةٍ من نوعٍ آخر، ثورة للعمل والإِنتاج، نحتاج أَنْ نتحرّك من مِصر الثّورة إِلى مِصر الدّولة، لتحسين الاقتصاد واحترام سلطة القانون، وإِنْ كُنَّا لا نستطيع تغيير الماضي، فعلينا أَن نَسْتَعِدَّ للمستقبل، فالمستقبل لا ننتظرهُ ولا يجب أَن نُفاجأ بهِ، بل علينا أَن نُشارك في صُنعهِ، وأَن نكون دائمًا جزءًا من الحلِّ، فَنأتي بالحلول والبدائل لا فقط بالمشكلات.
فإِن كُنَّا نُطالب كُلَّ مسئولٍ الآن بالإِصلاح والتّغيير، وهذا حقٌّ، فلنطالب أَنفسنا أَيضًا بالالتزام والتَّعاون الإِيجابيّ، وهذا هو التّغيير المطلوب: أَن يتوقّف الإِنسان بين الحين والحين ليفكّر في ظُروف الآخرين ومجتمعهِ ومسئوليّتهِ حتى نُصبح جزءًا من الحلِّ لا جزءًا من المشكلة.
الله يحبُّ أَن يُعطي النَّاس فُرصةً جديدةً
أَيًّا كانت درجة صعودنا بعد أَي بدايةٍ ستظلّ هناك درجة أَعلى يُمكن أَن نصعدها، وإِحسانات أَكثر لنا عند الله تنتظِرُنا.
وأَيًّا كانت درجة سقوطنا أَو تراجعنا فسيظلّ هناك دائمًا إِمكانية لبدايةٍ جديدةٍ، فاللهُ يُحبُّ دائمًا أَن يُعطينا فرصةً جديدةً، فإِحساناتهُ ورحمتهُ تظلّ جديدة في كُلِّ صباحٍ، لذا علينا نحن أَيضًا أَن نُعطي النَّاسَ من حولنا فُرصةً جديدةً، لِأَنَّ الله لن يُحاسبنا فقط على الشَّرِّ الَّذي فعلناهُ، بل أَيضًا عن الخير الَّذي لم نفعلهُ، فالصَّلاة يجب أَنْ ترتبط بالفعل، والإِيمان يجب أَنْ يُترجم إِلى أَعمالٍ، والأَبديَّة والحاضر ثُنائيَّةٌ لا غنى عنها.
إِله الحماية لم يتوقَّفْ يومًا
مهما كانت أَعمال القوّة المدمّرة والموت في عالَمنا، فإِنَّها رغم ذلك لا تستطيع أَن تخنق الحياة الَّتي يُعطيها الله، فقصّة الميلاد أَثبتت لنا -كما يقول باركلي- «أَنَّ الحياةَ أَقوى من الموت، والْحُبّ أَقوى من الكراهيةِ، والحقّ أَقوى من الباطلِ، والخير أَقوى من الشَّرِّ.» فعناية الله بنا لم تتوقّفْ ورعايتهُ دائمةٌ، وسلامهُ مُنقطع النَّظير، وحمايتهُ مُمتدّةٌ.
الله دائمًا إِله المبادرات
إِنْ كان البعض قد أَساءوا في 2014 فإِنَّ إِحسانات الله ورحمتهُ وجودهُ وعطاياهُ الَّتي لا يُعبّر عنها مُتجدِّدَةٌ، فَكم أَنقذنا وأَنقذ بلادنا الغالية،فكما يقول المرنّم في ترنيمة النَّجاة: «لَوْلَا الرَّبُّ الَّذِي كَانَ لَنَا عِنْدَمَا قَامَ النَّاسُ عَلَيْنَا، إِذًا لِابْتَلَعُونَا أَحْيَاءً عِنْدَ احْتِمَاءِ غَضَبِهِمْ عَلَيْنَا، إِذًا لَجَرَفَتْنَا الْمِيَاهُ، لَعَبَرَ السَّيْلُ عَلَى أَنْفُسِنَا، إِذًا لَعَبَرَتْ عَلَى أَنْفُسِنَا الْمِيَاهُ الطَّامِيَةُ. مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي لَمْ يُسْلِمْنَا فَرِيسَةً لِأَسْنَانِهِمْ. انْفَلَتَتْ أَنْفُسُنَا مِثْلَ الْعُصْفُورِ مِنْ فَخِّ الصَّيَّادِينَ. الْفَخُّ انْكَسَرَ، وَنَحْنُ انْفَلَتْنَا. عَونُنَا بِاسْمِ الرَّبِّ، الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.» (مَزْ124). إِنَّ قصَّة الميلاد تحمل لنا رسالة طمأنينةٍ وسلامٍ وثقةٍ في عناية الله ورعايتهِ وأَمانتهِ من نحونا، ومبادراتهِ الَّتي تبهرنا،والَّتي لا تتوقّف أبدًا.
في الختام أَقول: قد كُتِبَ لحياة هذا الطّفل أَن تُغيّر التَّاريخ، وأَن تكون نقطةً فاصلةً في تاريخ البشرية. إِنَّ مجيئهُ منذ أَلفي عام غَيَّر العالم وغيّر التّقويم، وهذا التَّاريخ يَعْتَرفُ بهِ ويستخدمهُ كُلّ إِنسانٍ، وبدون تفكيرٍ نحن نكتب ميلادهُ على الخطابات والوثائق وكافّة الأَوراق حتَّى إِنَّ ميلاد كُلّ واحدٍ فينا مُرتبطٌ بميلادهِ. «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ، فِيهِ كَانَتْ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ.»