المسيحيون واللغة العربيةتراثنا
فان دايك: الإنجيلي الأميركي الذي أصبح واحدًا منّا


كان عضوًا في الكنيسة الهولندية المصلحة. أثناء النهضة الروحية في أميركا، التي دفعت بالكثيرين إلى التوجّه نحو الخارج كمُرسّلين، تقدّم بطلب إلى المجلس الأميركي للإرساليات، لايفاده نحو الخارج كمرسل في أحد البلدان. وهكذا، أبحر من بوسطن عام 1840 عن عمر 21 سنة، برفقة تسعة مُرسَلين. وقد إستغرقت الرحلة شهر ونصف حتى وصلت إلى سميرنا في تركيا في 2 أيار، حيث استقبله مُرسَلون يعملون في جمعية اميركية للكتاب المقدس، فبات عندهم لبعض الوقت. وما أن وصل حتى ابتدأ بدراسة اللغة العربية. ثم توجّه في تموز من العام نفسه إلى القدس، حيث خدم كطبيب لعائلات المُرسَلين. وفي كانون الثاني من العام 1841، إنتقل إلى بيروت، حيث، منذ وصوله، تعرّف بالمعلّم بطرس البستاني، الذي كان قد إنتمى حديثًا إلى الإيمان الإنجيلي. وبقيا في صداقة عميقة كلّ أيام حياتهما.
في خدمة جنازة البستاني عام 1883، طُلِبَ من فاندايك تقديم كلمة تأبين. لكن لشدّة تأثّره، لم يستطع الا أن يقول، بمشاعر عميقة: “يا صديق شبابي”. تزوّج فان دايك في بيروت من جوليا آبوت، إبنه القنصل الإنكليزي. ودرس اللغة العربية على يدّ المعلّم ناصيف اليازجي. ولم يمضِ وقت طويل حتى تمكّن من تملك ناصية اللغة العربية. إستطاع أن يحفظ، ويقتبس قصائد شعرية، وأمثال شعبية، ومعلومات من علوم العرب والتاريخ ،بطريقة مميّزة أذهلت الشعب السوري آنذاك (السوريون واللبنانيون اليوم) حتى قالوا عنه “إنه واحدًا منّا”. لم يجاريه أحد من المُرسلين الآخرين الأجانب بقدرته في تملّك اللغة العربية. توجّه في العام 1843 مع بطرس البستاني والدكتور وليم تومسون، إلى قرية عبيّه في الشوف التي تبعد 15 ميلاً عن بيروت وأسّسوا مدرسة، أصبحت لاحقًا كليّة لاهوت. خلال وجوده لمدة 6 سنوات في عبيّه، عمل فان دايك على إعداد وتزويد كتب باللغة العربية للمدرسة، وذلك لندرتها.
في العام 1847، ترك فاندايك عبيّه وذهب إلى صيدا حيث بقي عشرة سنوات (1847-1857) في بيت والد زوجته، وكان بيتهم مفتوحًا للجميع. أقاموا إجتماعات لدراسة الكتاب المقدس. عبّر فاندايك عن فرحه الكبير في خدمته في صيدا لأنه توفّر له وقتًا أطول ليصرفه في خدمة الوعظ بكلمة الله. فكان يعظ بالإنجيل ويخدم حاجات الناس كطبيب. امتد حقل خدمته إلى صور ودمشق، اذ كان يقوم بزيارة الناس، وقد تأقلم مع عاداتهم وتفكيرهم.
عندما ترك فان دايك أميركا وأتى إلى بيروت، لم يكن قد تلقّى تعليمًا لاهوتيًا، لأنه كان قد أتى كطبيب عيون مُرسَل. لكن للحاجة، طلب المجلس المُرسلي من إثنين من المُرسَلين: كورنيليوس فان دايك، وهنري دي فورست، الخضوع للتدريب اللاهوتي ليرسما قسيسان في الكنيسة الانجيلية. وقد وجد فان دايك في هذا الطلب تحقيقًا لرغبة والده الذي أراد أن يراه خادمًا في الكنيسة. قال ، لست متأكّدًا أني سأصبح قسّيسًا. فمع أن قلبي منجذب بشكل كامل إلى هذه الخدمة المقدسة، لكن: الكفاءات المطلوبة، والمسؤولية الكثيرة، وضخامة العمل يجعلني متردّدًا. لكنه في 14 كانون الثاني، من العام 1845عاد وقبل بدعوة القسوسية، فرُسِم قسّيسًا في عبيه.
عندما قدم المرسلون الى بيروت فقد شعروا بالحاجة الماسة، الى ترجمة الكتاب المقدس الى اللغة العربية. عند تشكيل لجنة لتوجيه إلتماس إلى المجلس الأميركي للإرساليات، لتبني ودعم مشروع الترجمة، كان فاندايك أحد أعضائها، بالاضافة إلى الدكتور عالي سميث ومُرسَل آخر. وعندما وصل التمويل للمشروع، فقد ترأس المُرسّل الانجيلي الدكتور عالي سميث، مشروع ترجمة الكتاب المقدس عام 1849. فانه بعد أن أمضى ثمانية سنوات في الترجمة، من اللغات الأصلية إلى اللغة العربية، فإنه قد توفي قبل إكمال العمل في كانون الثاني من العام 1857، فلم يكن هناك أحد بالمهارة والقدرة اللغوية المطلوبة غير المرسل فان دايك. فاستدعي من صيدا وعمل في ترجمة الكتاب المقدس فصرف ثمانية سنوات أخرى، إلى أن إكتمل العمل.
وفي العام 1865، ذهب إلى نيويورك للإشراف على طباعة الكتاب المقدس حيث أمضى سنتين عمل خلالهما في تعليم اللغة العبرية في كليّة لاهوت يونيون، “Union Theological Seminary”. ودفع من راتبه لمتابعة دراسات إضافية في أمراض العيون. وحصل على دكتوراه في اللاهوت. وقد عُرِض عليه أن يكون بروفسورًا دائمًا في الكلية، لكنّه إعتذر، قائلاً: “لقد تركت قلبي في سوريا. لهذا، يجب أن أعود إليها”. في ذلك الوقت، قَبِل عرضًا من الكلية الانجيلية السورية في بيروت، أن يعمل فيها كأستاذ في الطب ومؤسّس القسم الطبي مع زميله اللبناني يوحنا وارتبت.
وهكذا، عاد إلى بيروت عام 1867 واستأنف العمل كمحرّر لمجلة النشرة التي كانت أسبوعية، وأيضا محرّر لمطبوعات الإرسالية. ثم عُرِض عليه أن يكون بروفسورًا في القسم الطبي من كلية بيروت السورية آنذاك، الجامعة الأميركية في بيروت اليوم. فقبل، وعمل بالتوازي على أصدار مجلد كبيرًا باللغة العربية حول علم الأمراض، وآخر حول علم الفلك، وغيره حول علم الكيمياء. ساعد في تأسيس مرصد وجلب تليسكوب الى الكلية، بالتنسيق مع الدكتور جون وارتبات ومُرسَل آخر. كما أنه كان مسؤولاً عن إدارة عيادات طبيّة، عملت بشكل منتظم، وكان يلقّب بلقب “حكيم”. في ذلك الوقت، كان قد إكتسب فان دايك شهرة واسعة، كمؤلّف، وعالم، ومترجم، في سوريا العثمانية، بشكل مستقل عن أوساط الإرسالية الأميركية. بقي في الكلية لانجيلية السورية 16 سنة، إلى أن استقال عام 1882 على أثر الخطاب الذي ألقاه الدكتور إدوين لويس الذي أظهر قناعته بنظرية تشارلز داروين لتطوّر الإنسان. فكانت إستقالته إعتراضًا على هذا التوجّه الجديد الذي رآه في الكلية.
بعد تقديم إستقالته، قَبِلَ عرضًا للعمل في مستشفى القديس جاورجيوس الأرثوذكسية في بيروت. وقد ساهم بشكل كبير ليس فقط في تطويرها، وإنما في حثّ الكثير من العائلة الأرثوذكسية الثرية، للمساهمة المالية في توسيعها وجعلها أكثر فعالية. عمل في المستشفى مدة عشر سنوات. وفي العام 1891، التي كانت سنة اليوبيل لإمضاءه خمسين سنة كمُرسَل،يعمل في البلاد إحتفلت كل فئات المجتمع بيوبيله. أكنّ له السوريون واللبنانيون والعرب، كل الإحترام لمعرفته العميقة: بتاريخهم، وثقافتهم، ولغتهم ، وأقوالهم المأثورة، ومساهمته الكبرى في النهضة العربية. اما ادارة مستشفى القديس جاورجيوس الأرثوذكسية، فقد وضعت له مجسما أبيض في الباحة تقديرًا لخدماته الكثيرة.
إعتمدت الإرسالية السورية كثيرًا على مهارات فان دايك المتنوّعة. عمل فان دايك في مدرسة عبيه، الى جانب المعلم بطرس البستاني، فكان يعلّم مادتي: الجغرافيا والدراسات الكتابية. اما بطرس البستاني، فكان يعلّم، مواد: القواعد العربية وتعريف الكلمات، والحساب. كانا يجلسان الى جانب بعضهما، يؤلفان الكتب لصفوفهما. بسبب ندرة الكتب العربية، كتب العديد من الكتب لمدارس الارسالية، في مواضيع: اللغة العربية، التاريخ، الجغرافيا، الرياضيات، الطيران، الطب، إستخدمت لفترة طويلة في مدارس الإرسالية. أصدر ثمانية مجلّدات علمية، وكان عمله الأخير ترجمته لرواية بن حور إلى اللغة العربية. أصدر أكثر من 26 كتابًا باللغة العربية.
(الجدير بالذكر أن كتب ومكتبة القس الدكتور فان دايك، تحتفظ فيها مكتبة كلية اللاهوت للشرق الأدنى، كما تظهر في البوست، المرافقة للمقالة).
عرف فاندايك بمواقفة اللافتة، المتضامنة مع الكنيسة المحلية. في وقت ما وجدت الإرسالية الأميركية بأن الأولوية الأولى هي للمنبر والوعظ، ملوّحين بإمكانية إغلاق المطبعة الأميركية، لكن الدكتور فان دايك، أصرّ على الابقاء على المطبعة ، قائلا، “إن خدمة الطباعة وإصدار الكتب، هي الخدمة الأكثر نجاحًا والتي تتقدّم فيها ارساليتنا على خدمة أية إرسالية أخرى. وهكذا نجح في المحافظة على استمراريتها الى حين. شدّد فان دايك على ضرورة، أن يترافق العمل الإنجيلي بالعمل التربوي. فكانت المطبعة تقوم بطباعة المنشورات والكتب الدينية، إلى جانب الكتب المدرسية.
كما أنه في مرحلة ما، وجد أن مدرسة البنات كانت تعاني من مشاكل مالية كبيرة. وعليه أرادت الإرسالية تحويلها إلى مدرسة أميركية، يديرها فريق عمل من المعلّمين والمعلمات الأميركيين. فاعترض فان دايك على أمركَة المؤسّسة المحلية. قال لهم: “أنا أعتبر أن هذا التفكير يعتبر فشلاً في خدمة الإرسالية”. وأضاف، “أنا أعتبر أنه من الأفضل إغلاق المدرسة، وإعطاء المبنى إلى الكلية الإنجيلية السورية، على أن تصبح مدرسة أميركية للبنات”. ذكّر الإرسالية، أن الهدف الأساسي للإرسالية، هو تشجيع الإنجيليين المحلّيين ودعمهم ليصبحوا قادرين على الاعتماد على أنفسهم وتمويل مؤسّساتهم. أمِلَ أن تنسحب الإرسالية السورية بأسرع وقت من البلاد، لتفتح الطريق للكنائس المحلية للإستقلالية وإدارة مؤسّساتها. وهذا ما حصل بعد وقت في التاريخ.
كان يمقت القس فان دايك، لغة التبجيل والإطراء التي عُرِف بها الشرقيّون. عندما زاره وفدًا من شيوخ العلماء المسلمين من دمشق، إمتدحه الشيخ المترئس، بكلمات منمّقة وبأسلوب فيه كثير من التطنيب، قائلاً: “كم من المواهب الكبيرة، تتطلّب من الإنسان الذي وصل إلى هذا المشرق، الكثير من العلم والمعرفة”. فأجاب فان دايك، بلغة متواضعة، “أقلّ الناس يستطيعون الوصول إليها، إذا ما جاهدوا. فالذي يجاهد يربح”. مات القس فانديك في 13 تشرين الثاني عام 1895، على أثر نزيف داخلي عن عمر 79 عامًا. وقد كان الحداد في البلاد عاما، ربّما بشكل غير مسبوق. عندما أراد الكثير من الأدباء والكتّاب والمسؤولين في الكنيسة رثاءه بقصائد شعرية، لم يسمح القسوس المشرفون على مراسم الدفن، وذلك تنفيذا لوصيّته بعدم السماح لأحد بتقديم أي رثاء فيه. فقد كان قد أوصى، تكون خدمة الجنازة عبارة، عن قراءة نصوص من الكتاب المقدس فقط. وصف المُرسَل المؤرخ هنري جسب، وقع موته على الناس، قائلاً: “كل المدينة شعرت أن موت فان دايك، كان خسارة شخصية لكل مواطن… ساد حداد عام وحضر جنازته من كل فئات الوطن والخلفيات الدينية”.
إلاّ أنه وللمطالبة الواسعة، بإقامة حفل رثاء له. فقد أقيم في 30 تشرين الثاني من العام 1895، ذلك الحفل، الذي ألقي فيه 47 قصيدة رثاء جُمِعَت في كتاب. خدم القس الدكتور فان دايك 55 سنة في شرقنا العربي، فاستحق أن يدعى “كان واحدًا منّا”.