المسيحيون واللغة العربيةتراثنا

يوم أن تحدث المسيحيون اللغة العربية

لا شك إن عنوان هذا المقال يتطلب بعض التوضيح. ولعلك تتساءل عزيزي القارئ قائلاً: لماذا علامة التعجب هذه؟ من المعروف لدينا أن المسيحيّين الذين كانوا يتكلّمون اللغة العربيَّة عاشوا في شبه الجزيرة العربيَّة قبل ظهور الإسلام، وكان منهم شعراء أمثال عُدي بن زيد، والذي نجد في أشعاره إشارات لقصص من الكتاب المقدس. أما في وقتنا الحاضر هناك ملايين المسيحّيين في الشرق الأوسط الذين يعبدون الله ويرفعون صلواتهم باللغة العربيَّة. وهكذا كانت اللغة العربيَّة وما زالت- لغة عبادة مسيحيَّة، فهي لغة القصص الدينيَّة، وهي لغة التعليم والتأمل الدينيّ.

وإن كان هذا يعتبر أمر واقعيّاً؛ إلا أن الكثيرين يندهشون عند معرفتهم بهذا الأمر. بل أن بعضهم يعتقد أن تحدّثَ المسيحيين باللغة العربيَّة أمر غير مناسب. لأجل كل ذلك، وضعت علامة التعجب في عنوان هذا المقال. فمن المؤكد أن اللغة العربيَّة، هي لغة القرآن، وهي لغة الإسلام في المقام الأول! ولقد تقابلت مع مسلمين من خارج الشرق الأوسط، كانوا يتعجبون عندما يعلمون أن هناك مسيحيين يصلّون لله مستخدمين اللغة العربيَّة، ويذكرون العديد من أسمائه –تعالى- الحسنى في تسبيحاتهم. الأكثر من ذلك، نتقابل أحيانا مع مسيحيين من الشرق الأوسط يعتقدون أن استخدامهم للغة العربيَّة في العبادة ما هو إلا تنازل ومجاراة لمتغيرات غير محظوظة حدثت في مجتمعاتهم. وعلى سبيل المثال، كنت عضواً لعدة سنوات في مجموعة تسمى “أصدقاء التراث العربيّ المسيحيّ” وكانت تعقد مؤتمراً سنوياً في القاهرة. وكنا نتوقع في كلّ مؤتمر أنْ نستقبل على الأقل مسيحيّاً مصريّاً يعترض على الاسم “العربيّ المسيحي” فالبعض منهم يقول إن تعبير “العربيّ المسيحيّ” تعبير غير دقيق، ويردفون قائلين: “إنَّ اللغة العربيَّة لغة إسلاميَّة، وإنَّ اللغة الفعليَّة لمسيحييّ مصر هي اللغة القبطيَّة” ولعله من الغريب حقاً أن هؤلاء لا يعرفون إلا بعضاً من الجمل الليتروجيَّة القبطيَّة. وهم لا يتكلّمون اللغة القبطيَّة بطلاقة. ومع ذلك، فتجدهم متغربين عن اللغة العربيَّة.

وفي هذا المقال سأصف باختصار عمليّة تبني المجتمعات المسيحيَّة للغة العربيَّة في الشرق الأوسط. كانت تلك المجتمعات التي وقت الغزو الإسلاميّ لها تتكلّم لغات مثل السيريانيَّة، الآراميَّة، اليونانيَّة، والقبطيَّة. أما في مقالي الثاني فسأذكر بعض الطرق التي مكّنت فيها اللغة العربية الحوار اللاهوتيّ بين الفقهاء المسلمين، واللاهوتيين المسيحييّن كلغة واحدة، وذلك عن طريق اشتراكهم المتبادل في المشاريع الفكريَّة التي قامت لتطوير الحضارة العربيَّة.

الفتوحات الإسلاميَّة المبكرة – استمرار الحياة الكنسيَّة:

بعد موت رسول الإسلام (632م) بعشر سنوات، سقطت معظم بلاد فلسطين، سوريا، بلاد ما بين النهرين، ومصر في أيدي جيوش العرب المسلمين، وفجأة وجد مسيحيو المنطقة، والذين كانوا يمثلون غالبيَّة السكان أنفسهم، قلائل مهمشة داخل إمبراطوريَّة إسلاميَّة سريعة الانتشار. وطبيعي أنَّ المسيحيين الذين عايشوا هذه الأحداث، وما لحقها من متغيرات سياسيَّة واجتماعية سريعة، كانت بالنسبة لهم صدمةً وكارثةً. وعلى الرغم من أنَّ بعض نتائج الفتح الإسلاميّ كانت في صالح بعض المسيحيين. إلا أن الفتح الإسلاميّ نتج عنه “إضعاف” للمسيحيَّة الخلقيدونيَّة التي كانت مؤيدة، بل مراتٍ مفروضة بواسطة الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. لقد منح الغزو الإسلاميّ بعضاً من الحريَّة الجديدة للمجتمعات المسيحيَّة غير الخلقيدونيَّة، بما فيهم أقباط مصر، الذين تعرضوا لضغطٍ إجباريٍّ، وأحيانا للاضطهاد على يد السلطات البيزنطيَّة. لقد كان فتح مصر على يد عمرو بن العاص هو الذي أعاد البطريرك القبطيّ بنيامين لمنصبه بعد أن كان قد اختفى لمدة عشر سنوات من وجه السلطات البيزنطيَّة أثناء حكم الإمبراطور هيراكلّيولس. إن قصة اللقاء الوديّ الذي جرى بين عمرو بن العاص والبطريرك بنيامين إنما هي قصة معروفة لكلّ تلميذ مصريّ، ويُسْتَشْهَدُ بها بصورة منتظمة في مناقشات “الوحدة الوطنيَّة”، أي: عقيدة المصريين شبه الرسميَّة للانسجام الدينيّ داخل هويَّة القوميَّة المصريَّة الواحدة.

إنَّه لمن المهم أنْ نؤكد على حقيقة أن ثمة استمراريَّة وثيقة العرى بين حياة الكنيسة في الشرق الأوسط في الفترات ما قبل وما بعد الفتوحات الإسلاميَّة. والحقيقة التاريخية تقول إن المسيحيين لم يندفعوا نحو التحول إلى الإسلام، إلا في استثناءات قليلة دوّنتها الأخبار المسيحيَّة. فلم يجبر المسلمون أحداً على تغيير إيمانه. ولكن وبمرور الوقت بدأ المسلمون في وضع ضغوط على المسيحييّن حتى يخضعوا للحكام العرب المسلمين. وكانت هذه الضغوط -على الأقل في البداية- ضغوطاً لغويَّة وحضاريَّة أكثر منها عقائديَّة.

اللغة العربيَّة كلّغةٍ مسيحيَّةٍ

إن المسلمين العرب الذين غزوا العديد من بلدان الشرق المسيحيّ في منتصف القرن السابع، والذين امتدت فتوحاتهم في أقل من قرن لتصل إلى أسبانيا، كانوا يتكلّمون اللغة العربيَّة. اللغة التي صارت بالنسبة لهم لغة مقدسة بإعلان القرآن، كلّمة الله “بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ.” ونتيجة لذلك انتشرت هذه اللغة، وبسرعة مذهلة، في كلّ “دار الإسلام” ولم تكن فقط لغة العبادة والتقوى بل أيضاً لغة العلم ولغة الشارع، وبحلول سنة 697م قام الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان (646م-705م) بصك عملات ذهبيَّة عليها نقوش عربيَّة. وبعد ذلك، بقرنٍ تقريباً، جاء ابنه الوليد بن عبد الملك (668م-714م) وقرر أنْ تكون اللغة العربيَّة هي اللغة الرسميَّة للإدارات العامة. وسرعان ما لعبت اللغة العربيَّة دوراً هاماً في التجارة داخل الامتداد الفسيح للمناطق الإسلاميَّة من المحيط الأطلنطيّ إلى وسط آسيا. وأخيراً، وبحلول القرن الثاني للإسلام، أصبحت اللغة العربيَّة لغة ثقافة أدبيَّة ناشئة.

وبسبب استخدام اللغة العربيَّة داخل كلّ الخدمات الميدانيَّة، في التجارة وفي الحياة الثقافيَّة، أصبحت معرفتها هي الطريق لاعتلاء المناصب الاجتماعيَّة داخل دار الإسلام. ولذلك كان من المحتم على المسيحيّين داخل العالم الإسلاميّ أن يتعلموا اللغة العربيَّة، سواء كانوا ممن يتحدثون السريانيَّة في سوريا وبلاد ما بيْن النهرين، أو الآراميَّة في فلسطين أو الذين كانوا يصلّون باليونانيَّة، أو القبطيَّة في مصر، أو اللاتينيَّة في الأندلس. هؤلاء جميعهم كان عليهم معرفة اللغة العربيَّة، ليس فقط لمجرد معرفتها وإنَّما أيضاً لأجل تعليمها لأولادهم حيث كانت هذه هي الطريقة المضمونة والأفضل للنجاح لهم ولأولادهم داخل نظام العالم الإسلاميّ الجديد.

وهكذا وبمرور الأجيال اكتسب مسيحيون كثيرون جدارة في اللغة العربيَّة، في مقابل خسارتهم للغتهم المسيحيَّة التقليديَّة الخاصة وبجدارة في منطقتهم. هذه الخسارة اللغويَّة لم تكن بالضرورة نتيجة لحركة التعريب، فإننا نجد بالفعل الكنائس المتكلّمة السريانيَّة تعطي مثلاً طيباً للمجتمعات التي نمت فيها اللغة السريانيَّة واللغة العربيَّة معاً. لكن في مجتمعات أخرى، حلّت اللغة العربيَّة ببساطة محل اللغة التقليديَّة. فمثلاً في فلسطين، استبدلت الآراميَّة بالعربيَّة في القرن الثامن. وبنهاية القرن نفسه، كان العديد من المؤلفين المسيحيّين، في الأديرة الفلسطينيَّة، قد كرسوا أنفسهم لإنتاج أدبٍ مسيحيٍّ عربيٍّ.

ولقد مدّتنا مصر بدلائل قويَّة على التحول اللغويّ إلى العربيَّة، وذلك لأنَّ رمال صحراء مصر حفظت وثائق برديَّة بحالة جيدة. إنَّ دراسة هذه الوثائق تدل على أنَّ المسيحيين المصرييّن، في بادئ الأمر، تمسكوا، وبقوة شديدة، بلغتهم القبطيَّة، أكثر من تمسك المسيحيّين الفلسطينّين بلغتهم الآراميَّة. ففي حوالي سنة 1050م، تدل البرديات أنَّ معظم المصرييّن المسيحييّن كانوا يعرفون القبطيَّة، وكانوا يستخدمون اللغة العربيَّة بصورة غير منتظمة، ولكن وبحلول سنة 1200م أي بعد قرنٍ ونصّف فقط، كانت اللغة القبطيَّة قد ماتت تقريباً!

ومنذ ذلك الوقت فصاعداً، تدفقت الوثائق اليوميَّة باللغة العربيَّة. إلا أن رجال الدين كانوا وما يزالون يدرسون اللغة القبطيَّة، لكن معظمهم كان يستطيع كتابتها فقط بمساعدة القواعد النحويَّة والقواميس، والتي أنتج الكثير منها خلال النهضة المسيحيَّة المصريَّة الأدبيَّة، بالإضافة إلى النهضة العربيَّة في القرن الثالث عشر.

معارضات:

ثمة أدلة أخرى على هذا التحول اللغويّ نجدها في بعض الأعمال الأدبيَّة، والتي ترد فيها ردود أفعال حادة نحو هذه الظاهرة. نأخذ، على سبيل المثال، النصّ الذي كتبه بولس ألفيريوس Paul Alvarus وهو مسيحي من الأندلس، في منتصف القرن التاسع الميلاديّ، إذ يشتكي من حقيقة أنَّ الشباب المسيحيّين كانوا ينمون في اللغة العربيَّة ويتجاهلون اللاتينيَّة، يقول:

إنَّ المسيحيّين يحبون أنْ يقرأوا الشعر والروايات العربيَّة، إنَّهم يدرسون اللاهوت العربيّ والفلسفة العربيَّة، ليس لدحضها ولكن لتشكيل وصياغة لغة عربيَّة صحيحة وفصيحة. أين العلمانيّ الذي يقرأ اليوم تفاسير الكتب المقدسة اللاتينيَّة؟ أين الذي يدرس الأناجيل، والأنبياء والرسل؟ الويل! إنَّ الشباب المسيحيّ الموهوب يقرأ ويدرس –وبحماس- الكتب العربيَّة. إنَّهم يكّونون مكتبات ضخمة بمصاريف كثيرة، وهم يحتقرون الأدب المسيحيّ، ويعتبرونه غير قيّم. لقد نسوا لغتهم، ففي مقابل كلّ فرد يعرف أنْ يكتب خطاباً باللغة اللاتينيَّة لصديقه تجد هناك الآلاف الذين يستطيعون التعبير عن أنفسهم باللغة العربيَّة، وبفصاحة. هم أيضاً يكتبون أشعاراً بهذه اللغة أفضل من أشعار العرب أنفسهم.

كما أنَّ هناك اعتراضاً حاداً آخر على تبني المسيحييّن اللغة العربيَّة، يأتي الاعتراض هذه المرة من مصر، في نصّ رؤيويّ- ربما يكون قد كتب في القرن الحادي عشر؟ الكاتب مجهول، غير أنَّه ينسب هذه الكلمات لقديسٍ قبطيٍّ من القرن الثامن: صموئيل من دير القلمون. ويظهر صموئيل، بحسب القصة، بعضاً من القلق على مستقبل الكنائس القبطيَّة، فيقول:

إنَّ النصّارى يعملون أيضاً عملا آخر، إنْ أخبرتكم به فإنَّ قلوبكم تتوجع كثيراً: وهو، أنَّهم يتركون اللغة الحسنة القبطيَّة التي نطق بها الروح القدس مراراً كثيرة على أفواه آبائنا الروحانيّين، ويعلّمون أولادهم من صغرهم أنْ يتكلّموا بلغة الأعراب ويفتخروا بها. حتى الكهنة والرهبان يجسرون، هم أيضاً، أنْ يتكلّموا بالعربية ويفتخروا بها، وذلك داخل الهيكل! الويل، ثم الويل! يا أولادي الأحباء، ماذا أقول في تلك الأزمنة، يكون القراء في البيعة لا يفهمون ما يقرأونه، ولا ما يقولونه، لأنهم نسوا لغتهم؟ وهؤلاء بحق المساكين المستوجبون البكاء عليهم، لأنَّهم نسوا لغتهم وتكلّموا بلغة الهجرة. ولكن الويل لكلّ نصّرانيّ يعلم ولده لغة الهجرة من صغره، وينسيه لغة أبائه! فإنَّه مأخوذ بخطيئته. تبطل كتب كثيرة من الكنيسة، لأنه لا يبقي فيها من يهتم بها، لأنَّ قلوبهم تميل إلى العربيَّة… [قال راهب مُسن للأنبا صموئيل] “أفهم ما أقوله لك، يا بني. إنَّ في الزمان الذي فيه يجرؤ النصّارى أنْ يتكلّموا داخل المذبح بلغة الهجرة…. الويل للنصّارى في ذلك الزمان! ويل متضاعف سبعة أضعاف.

إنَّه من السخريَّة أنَّ هذا النصّ، والذي كُتب أصلاً باللغة القبطيَّة، حُفِظَ فقط في ترجمة عربيَّة!

كما يبدو واضحاً من الأعمال التي اقتبستها فلقد كانت هناك مجموعة اعتراضات كثيرة في بعض الأقطار-ربما خصوصاً بين الرهبان المسيحيّين- على تبني المسيحييّن اللغة العربيَّة. تعلن رؤية صموئيل اتجاهاً، كما أشرت، قد يكون موجوداً في مصر في وقتنا الحاضر، ألا وهو أنَّ اللغة العربيَّة هي لغة المسلمين، وأنَّ اللغة القبطيَّة هي اللغة الأصليَّة للمسيحييّن المصريين.

اللغة والإيمان:

كما سبق وعرفنا، فاعتراضات المسيحييّن على استخدام اللغة العربيَّة لم تجدِ نفعاًً. ففي فلسطين، ومصر، ومناطق بعيدة مثل الأندلس، يتضح أنَّ المسيحييّن الموجودين داخل دار الإسلام كانوا قد تبنوا بالفعل اللغة العربيَّة- تلك اللغة التي أصبحت مفتاحاً للنهوض الاقتصاديّ والاجتماعيّ، كما أنَّها قد أمست الوسيلة التي بها يُؤمّن المرء مستقبل أولاده. إنَّ النصّ المأخوذ من رؤيَّة صموئيل الذي قرأناه للتو، يشير إلى إحدى التبعات الخطيرة والتي نشأت عن تحول لغة المجتمعات المسيحيَّة، فكلمات الرؤيَّة تقول: “إن القرّاء في البيعة لا يفهمون ما يقرأونه … تبطل كتب كثيرة من الكنيسة” إنَّ التحول السريع للتغيير اللغويّ كان له نتائج جادة في التعليم والبناء المسيحيّ في كنائس اعتادت الصلاة والتوجيه بلغة معينة، وفجأة تموت هذه اللغة! فعلى سبيل المثال، في القرن الحادي عشر في مصر، كان الكتاب المقدّس والطقوس ومعظم الكتب المسيحيَّة بالقبطيَّة- لكن الناس نسوا القبطيَّة. ومن وجهة نظر المعلمين المسيحيّين والقساوسة،كانت المشكلّة قد تفاقمت بالنظر إلى أنَّ اللغة العربيَّة كانت ملونة بطابع إسلاميّ، كانت لغة تعكس التعاليم الإسلاميَّة. وعندما فقد المسيحيّون جدارتهم في اللغة القديمة وتبنوا اللغة العربيَّة، بدأوا يمتصون التعاليم الإسلاميَّة تقريباً كما تُمتص عناصر الغذاء في الجسم. هذا ما قاله أحد المؤلفين الأقباط من القرن الحادي عشر، كما أرى، قال:

ذكرت في كتابك الذي أرسلته إليَّ أنَّك في حيرة عظيمة من تثليث أقانيم الله وتوحيدها، لا تعلم كيف تكون ثلاثة وكيف تكون واحداً. وسألتني أنْ أوضح لك تحقيق ذلك، وتحقيق تأنس ابن الله وصلبه وما سبب ذلك. وقد أجبتك إلى ما سألت، وأوضحت لك في هذا الكتاب تحقيق التوحيد والتثليث. أقول إنَّ السبب في كتمان هذا السر في هذا الزمان عن المؤمنين، اختلاطهم مع الحنفاء، وضياع لغتهم القبطيَّة التي منها كانوا يعرفون مذهبهم، وصاروا لا يسمعون ذكر الثالوث بينهم إلا قليلاً، ولا لابن الله ذكر بينهم، إلا على سبيل المجاز. بل أكثر ما يسمعون أنَّ الله فرد صمد. وبقيّة هذا الكلام يقوله الحنفاء، فتعود به المؤمنون، وتربوا عليه، حتى صار يصعب عليهم ذكر ابن الله، ولا يعرفون له تأويلاً ولا معنى لكي نوضح الأمر ببساطة، في أثناء فترة التحول اللغويّ لم يعد كثير من المسيحيين يفهمون ما يقال في الكنائس. لكن فهموا جيداً ما يقال داخل المساجد، فلم يكن من الغريب أنَّ الكثيرين منهم تحولوا إلى الإسلام، وهي عمليَّة بدأت بصورة جادة في بعض أجزاء الإمبراطوريَّة العباسيَّة في أواخر القرن الثامن، ثم في مصر بعدها بقليل، بحسب الدراسات الإحصائيَّة التاريخيَّة للبروفيسير (ريتشارد بيوليت).

اللغة العربيَّة كلّغةٍ مسيحيَّةٍ

وبذلك، وبأواخر القرن الثامن، بدأ المعلّمون والقساوسة المسيحيّون يتجاوبون بجديَّةٍ مع تعريب المجتمعات المسيحيَّة، عن طريق خلق أدب مسيحيّ باللغة العربيَّة. كان الكثير من هذه النصّوص المسيحيَّة العربيَّة مترجمة من اليونانيَّة والسريانيَّة وخصوصاً الكتاب المقدس، وسير القديسين والشهداء، وتعليم آباء الكنيسة. وبهذه الطريقة أتيحت للمسيحيين قراءة مجموعة كبيرة من النصّوص الرئيسيَّة باللغة العربيَّة.

لكن، لم يكن الأدب المسيحيّ العربيّ المبكر فقط أدبا مترجماً، لكن وبنفس أهميَّة هذه الترجمات لمستقبل المسيحيَّة في الشرق الأوسط، بدأ المفكرون المسيحيّون في تكوين أعمال عن اللاهوت والتهذيب المسيحيّ باللغة العربيَّة بنهايَّة القرن الثامن.

وسوف ألقي نظرة على سمات بعض هذه الأعمال في مقالي الثاني. لكن دعونا الآن ننظر إلى مقدمة بحث لاهوتي مسيحيّ عربيّ عنوانه “في تثليث الله الواحد” هذا العمل محفوظٌ في مخطوطة كُتبت حوالي سنة 800م وحفظت في دير سانت كاترين في جبل سيناء (سيناء عربيّ 154). يجب أنْ نضع في أذهاننا أنَّ الكاتب هو لاهوتيّ مسيحيّ، كتب لكي يشرح العقيدة المسيحيَّة، كما نسمع من لغة مقدمة كتابه.

الحمد لله الذي لم يكن شيء قبله،

وكان قبل كلّ شيء،

الذي ليس شيء بعده،

وهو وارث كلّ شيء،

وإليه مصير كلّ شيء،

الذي حفظ بعلمه علم كلّ شيء،

ولم يسع لذلك إلا علمه،

الذي إلي علمه انتهى كلّ شيء،

وأحصي كلّ شيء بعلمه.

نسألك اللَّهم، برحمتك وقدرتك،

أنْ تجعلنا ممن يعرف حقك،

ويتبع رضاك،

ويتجنب سخطك،

ويسبح بأسمائك الحسنى،

ويتكلّم بأمثالك العليا.

أنت الراحم، الرحمن، الرحيم.

على العرش استويت،

وعلى الخلائق عليت،

وكلّ شيء مليت.

تخير، ولا يخار عليك،

تقضي، ولا يقضى عليك،

تستغني عنا، ونفتقر إليك.

قريب لمن دنا منك،

مجيب لمن دعاك وتضرع إليك.

فأنت، اللهم، ربُّ كلّ شيء،

وإله كلّ شيء،

وخالق كلّ شيء.

أفتح أفواهنا،

وانشر ألسنتنا،

وليَّن قلوبنا،

واشرح صدورنا،

لتسبيح اسمك الكريم،

العليّ العظيم،

المبارك المقدَّس.

فإنَّه لا إله قبلك،

ولا إله بعدك.

إليك المصير،

وأنت على كلّ شيء قدير.

من فاتحة هذه الصلاة نجد تعبير “الحمد لله” ثم تسبيح الله باعتباره “الرحمان الرحيم، على العرش استويت”، وفي الخاتمة نقرأ “إليك المصير، وأنت على كلّ شيء قدير” إنَّ الفقرة تمتلئ بالكثير من الاقتباسات القرآنيَّة، القريبة والبعيدة. فخلال المقال، يتضح أنَّ الكاتب المسيحيّ المجهول الهويَّة قد تذوق وتشبّع باللغة القرآنيَّة، واستخدمها بطريقة، أعتقد شخصيّاً، أنَّها غير مصطنعة أو متكلّفة، لكنها نابعة من القلب.

في هذا النصّ، والكثير من النصّوص الأخرى، نرى أنَّ اللغة العربيَّة لم تصبح اللغة المستخدمة بواسطة المسيحييّن فقط، عندما كانت ظروف حياتهم اليوميَّة تتطلب ذلك، لكنها أصبحت لغة مسيحيَّة. ومنذ بدايات القرن الثامن، اكتشف المفكرون والمعلّمون المسيحيّون في فلسطين وسيناء أنَّ لغة القرآن من الممكن استخدامها في تسبيح اسم الله، وطلب وجهه، ولشرح إيمانهم، والدفاع عنه.

د. القس مارك سوانسن

أستاذ زائر في كلية اللاهوت الإنجيليّة.
باحث ومؤسس قسم التراث العربي المسيحي في كلية الاهوت الإنجيلية في مصر.
عضو المجلس الاستشاري، المجموعة المسيحية في الشرق الأوسط.
دكتوراه، المعهد البابوي للدراسات العربية e d'Islamistica (PISAI)، روما.
زر الذهاب إلى الأعلى