المسيحيون واللغة العربيةتراثنا

دور المسيحيين في ترجمة التراث إلى اللغة العربية

بانحدار الخلافة الأموية وسقوطها، اعتلى عرش الإسلام آنذاك الخليفة أبو العباس 750 – 754م، الذي كان له الدور الأكبر في إنشاء الدولة العباسية، وتبوأ بنو العباس الحكم من سنة 750م إلى 1258م متعاقبين على الملك. وكما يقول د. وليم الخازن في كتابه (الحضارة العباسية) لم يستعد العرب بعد تلك الحقبة أياً من نفوذهم وتأثيرهم ومركزهم القيادي ولا نشاطهم الفكري.

ويرى د. وليم الخازن، بشأن الحضارة العباسية، إن هذه الحضارة كانت نتيجة التفاعل بين كل من العلوم الدخيلة والحضارة العربية التقليدية، ولذلك فقد تعايشت في هذه الحضارة وفي دويلاتها الكثير من الجنسيات المختلفة كالعرب والترك والفرس والبرابرة وغيرهم الكثير والكثير. في الوقت الذي كانت تسعى فيه

 هذه الحضارة إلى العموم والشمولية وتحاول ان تتخطى النزعة الفردية وقد اعتمد الحكام من بني العباس على العنصر غير العربي في كثير من المجالات. ونظراً لهذا الجو العام فقد تميزت تلك الحضارة هذه بالكثير من الميزات المختلفة، فوصلت إلى أبهة الفرس ومجدهم ونظمهم وآدابهم ومهارة أهل السند في العقاقير والطب وصناعة أهل الصين وفلسفة اليونان وآدابهم وحساب الهند وعلومهم الفلكية والطبية وغيرها.

وأمام ذلك يؤكد الأب البير أبونا أن الخلفاء في البلاط العباسي فى إداراتهم اعتمدوا على الكوادر المسيحية المثقفة. فقد استطاع أولئك المثقفون المسيحيون بإمكاناتهم العلمية وخبراتهم الادارية أن يدخلوا بلاط العباسيين وأن يطلعوا أسيادهم الجدد على الفلسفة والعلوم في جميع تخصصاتهم مثل الكتابة والترجمة والطب. وبلا شك فقد كان كل من اليهود والمسيحيين في ظل المجتمع العباسي هذا يتمتعون بقدر كثير من الحرية والاستقلال وذلك بفضل العهود والاتفاقات التي فرضتها كفاءتهم على الخلفاء العباسيين.

وقبل أن يندهش الباحث من هذا الجو العام الممزوج بكل من الحرية والبحث عن العلم، يؤكد د. محمد السيد نعيم ان خلفاء بنى العباس كان أكثرهم ذوي نشأة غير عربية، ولذلك يقول إنه لم تكن عندهم عصبية عربية تشبه تلك العصبية التي كانت موجودة في الدولة الأموية؛ وهذه النشأة قادت الكثير منهم إلى البحث عن العلم أينما وجد وقد آمنوا بما قاله الرسول “الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها أين وجدها” ويؤكد هذا الجو العولمى آنذاك ما قاله د. فليب حتى “إن هذه الدولة العباسية لم تكن عربية صرفاً بل كانت من كل الأجناس”. ويمكننا أيضاً القول مع د. فليب إن في هذا الوقت قد سقطت العروبة. فقد كان العرب آنذاك عنصراً من العناصر الكثيرة التي احتوتها تلك الدولة.

من أين أتت هذه اليقظة الفكرية؟

يرى الأستاذ أحمد أمين أن العرب عندما أتوا من الجزيرة العربية وتحضروا بعد البداوة، وجدوا أنفسهم أمام أشياء كثيرة ليست فى ألفاظهم ولا يستعملونها. وقد شمل ذلك كل مرافق الحياة، من أدوات الزينة وأنواع المأكل والملبس وآلات الغناء والدواوين ونظامها. ويؤكد أيضاً الأستاذ أمين أن مظاهر الحياة العقلية عند العرب في الجاهلية هي اللغة والشعر والأمثال والقصص، أما العلم والفلسفة فلا أثر لهما عندهم، لأن الطور الاجتماعي عندهم لم يكن يسمح لهم بعلم ولا فلسفة. وفى حين لم يكن العربي المُسلم يحمل معه في الأصل تراثاً عظيماً من العلم والفلسفة والأدب من الصحراء ليتثقف به، يرى د. فليب حتى أن ” العربي المسلم” حمل معه رغبة قوية ملحة في الاطلاع على ما هو جديد. ومن هنا أتى دور ترجمة العلوم من الحضارات الأخرى للغة العربية. فكيف يُسد احتياج العربي المسلم بينما كُتب العلم مكتوبة بلغة لا يفهمها!

من هم الذين ترجموا؟

يرى الباحث أن الاحتياج الأكبر في هذا الوقت كان احتياجاً لمن يُترجم كل هذه العلوم، التي شاء الخلفاء والظروف المجتمعية لدى العرب أن تصنعها. والسؤال الآن الذي يطرح نفسه هو: كيف لعربي أتى من مجتمع بدوي وبلغة غير قابلة لاستيعاب علوم اليونان أن ينقل كل هذه العلوم إلى لغته؟! وأمام هذا يقول الأستاذ أحمد أمين “إذا نظرت إلى اللغة العربية والأدب العربي في ذلك العهد رأيته نتيجة طبيعية لحياة العرب آنذاك، فالألفاظ في منتهى الدقة والسعة إذا كان الشيء الموضوع له اللفظ من ضروريات الحياة في المعيشة البدوية ولكن إذا انتقلت من هذا وذهبت مثلاً إلى لفظ السفينة رأيت اللغة العربية في غاية التقصير” ويتابع فيقول “تركنا العرب في الجاهلية وليس لهم علم ولا فلسفة ولم يكن من بينهم من يصح أن يسمى عالماً إلا قليل”. وفى موضع أخر يؤكد على أنهم “العرب” قد واجهوا في ذلك العصر صعوبة شديدة في نقل علوم الأقدمين إلى اللغة العربية.

وبجانب كل هذا ظهرت مشكلة أخرى أمام هؤلاء المترجمين ألا وهي قلة ما كتب أصلاً بالعربية في الموضوعات التي تناولتها الكتب المترجمة وذلك بتعريف المترجمين بالمصطلحات التي يجب استخدامها ونقلها من اليونانية إلى العربية.

وهنا يستمر تساؤل الباحث مَن هؤلاء المترجمون الذين صنعوا كل هذا؟ مَن هؤلاء الذين أفاضوا على الحضارة العربية بهذا السيل الغامر من العلوم في المجالات المختلفة؟ مَن؟ مَن؟

والإجابة على هذا السؤال نجدها عند الدارسين المخلصين للتاريخ وللعلم، أمثال الأستاذ أحمد أمين فنجده يقول ” كان أغلب القائمين بهذه الحركة (حركة الترجمة) النصارى النساطرة”. ويؤكد هذا أيضاً الدكتور سمير خليل فيقول ” فى حقل النقل قام المسيحيون بنقل 90% من الفكر اليوناني المعروف في ذلك الوقت”.

دور المسيحيين في حركة النقل في العصر العباسي:

إذا جاز للباحث كما يرى د. وليم الخازن أن يصدر حكماً عاماً على المسيحيين في العصر العباسى، فإنه يقول إن وضعهم كان متأرجحاً بين الشدة والرخاء بحسب الأوضاع والعهود والخلفاء.

وفي حين كان الإلمام باللغة اليونانية نادراً في ذلك العصر بين طبقات العرب وجد الخلفاء المسلمين أنفسهم أمام الاحتياج لكل من يعرف اليونانية. والطبيعي أنهم لم يجدوا غير المسيحيين الذين كانوا في ذلك الوقت خير من يمثلون العلم وخير من تمتلئ صدورهم بالمعرفة واللغات. وهنا يجدر التركيز على دور المسيحيين الطليعي الرفيع الشأن في الحركة العلمية وحركة الترجمة فى الحضارة العربية عند بنى العباس؛ وبفضل هؤلاء انتقل العلم اليوناني إلى العرب، الذين نقلوه بعد ذلك إلى اوربا. وكان أكثر هؤلاء المترجمين أو النقلة هم السريان النساطرة لأنهم كانوا الأقدر على الترجمة من اليونانية وكان أشهرهم: آل بختيشوع وآل حنين وقسطا بن لوقا وغيرهم، ومن أشهر النقلة من الفارسية إلى العربية إبن المقفع، والفضل بن نوبخت وموسى ويوسف إبنا خالد وكثير غيرهم، ومن الذين نقلوا عن اللغة الهندية منكة الهندى وإبن دهن ومن الذين نقلوا عن اللغة الكلدانية ابن وحشية.

ويمكن للباحث تقسيم هؤلاء المترجمين إلى ثلاثة أدوار فى أوقات متلاحقة:

الدور الأول: من خلافة المنصور إلى عهد الرشيد 136- 193 هـ (إبن المقفع. جورجيس بن جبرائيل. يوحن بن ماسوية).

الدور الثانى: من عهد المأمون 168 إلى سنة 300 هـ (يحى البطريق. الحجاج بن يوسف. قسطا بن لوقا البعلبكى. عبد المسيح بن ناعمة. حنين ابن اسحق وابنه اسحاق. ثابت بن قرة. حبيش الاعسم بن أخت حنين).

الدور الثالث: من أتى بعد هؤلاء (متى بن يوسف. سنان بن ثابت بن قرة. يحي بن عدي. ابن زُرعه).

بين دور المسيحيين في حركة النقل في العهد العباسي ودور المسيحيين العرب في القرن الحادي والعشرين (دعوة لإحياء الذات):

  • التخلي عن التعصب الديني والتصالح مع الهوية (ازمة الهوية): يرى كل من يفكر في واقع المسيحيين في الوطن العربي اليوم أن المسيحيين يرفضون أن يطلق عليهم الآخرون لفظ مسيحيين عرب؛ فمسيحيو مصر يقولون اننا فراعنة ولسنا عرباً. ومسيحيو العراق يقولون إننا أشوريين ولسنا عرباً، ومسيحيو إيران يقولون اننا فرس ولسنا عرباً، رغم أن فرضية وجود جنس سامي “نقى السلالة” في ظل الحضارة العربية، لا وجود له الان؛ لذا وقبل كل شيء علي الباحث أن يفرق بين العرب والمسلمين ولا يخلط الاوراق فليس كل مسلم عربياً وليس كل عربي مسلماً. ويجب على المسيحيين العرب ان يتصالحوا مع هويتهم ويرضوا بها ويحترموها. ويقرون ويعترفوا أنهم عرب الان، ويذهبوا إلى ما ذهب إليه المسيحيون النساطرة من حب لتلك الحضارة، والتخلي عن النزعة العصبية للدين دون الحضارة، حتى إنهم ترجموا إلى اللغة العربية من كتب العلوم المختلفة أكثر من تأليف وترجمة كتب الدين المسيحي، وذهب بعضهم إلى كتابة كتب لها علاقة بالدين الإسلامي. وكثير منهم كان يعمل جنباً إلى جنب مع غير المسيحيين من المسلمين وغيرهم، ومع غيرهم في الجنسية ايضاً مثل العربي كالكندى والسريانى كحنين بن اسحاق وابى بشر متى بن يونس، والتركى كالفارابى والفارسى كابن المقفع. فالدعوة الأن اولاً للمسيحيين العرب ان يتصالحوا مع هويتهم العربية.
  • التأصل في المسيحية (التشبع بالثقافة المسيحية): بنظرة الباحث الثاقبة إلى دور المسيحيين فى ترجمة التراث القديم وخاصة اليوناني إلى العربية، يرى أن هذا لم يله هؤلاء العلماء عن مسيحيتهم أو عن التأصل في التعاليم الكتابية، وهذا ما يُرى عبر تاريخهم من اهتمام بالدفاع عن إيمانهم المسيحى، والتصدى لكل من يسئ فهم مسيحيتهم ومحاولة تعريف المجتمع بها. وبما أن الباحث يصل فى عهد المأمون إلى ذروة مجهود هؤلاء النصارى في ترجمة العلوم، فإنه مع نظرة دقيقة يرى أن هذا العهد أيضاً لم يخل من الكثير من المحاورات الاسلامية المسيحية بخصوص العقيدة؛ وإن دلَّ هذا فإنما يدل على أن الاهتمام بالعلوم والمعرفة وتثقيف الذات من قبل المسيحيين لم يلههم عن مسيحيتهم ولن يفعل ذلك.

فإن على المسيحيين العرب اليوم أثناء بحثهم عن دورهم العلمي في الحضارة العربية ألاّ يطرحوا هويتهم المسيحية وإيمانهم الذي يميزهم باعتبارهم مسيحيين عرب. فالذي يميز هؤلاء أنهم عرب مسيحيون. ولا يجب عليهم أن يطرحوا أي هوية داخل هذه الهوية المزدوجة (عرب، مسيحيون).

  • دعوة للعلم والتعلم (فرض الذات): يا له من افتخار يفتخر به كل مسيحي يحب العلم ويبحث عنه ويدنو نحو الثقافة. ويا لها من خيبة أمل في كل من يرى نفسه مسيحياً ويأبى العلم ويرفض الذهاب إلى الكتب والمعامل، بل يرى أن للعلم حدوداً يجب ان يقف المرء عندها؛ فمسيحيو القرون الاولى من الحضارة العربية كانوا أصدقاء للعلم والمعرفة وملازمين لها، حتى أن الباحث يرى أنهم فرضوا أنفسهم على الحضارة العربية وذهبوا بإمكاناتهم إلى أضرحة القادة والحكام. وهنا يأتي السؤال هل للمسيحيين العرب اليوم من علم يفرضوا به أنفسهم على واقعهم اليوم؟ هل من شيء يقدمه المسيحيون العرب الآن؟ أم إنهم سيظلون يرثون لحالهم، بأن لا مكان لهم بين أحضان المجتمع العربي. ويفضلون الانسحاب والهجرة إلى الخارج؛ ففرض الذات الآن هو الدليل على أن المسيحيين العرب قادرون على الكثير من خلال ما يمتلكونه من علوم ومعرفة وشخصية قادرة على صنع الكثير. والدعوة الأن موجهه إلى المسيحيين العرب أن يهتموا بالعلم والثقافة التي هي صميم إيمانهم.

ومن هنا وجب على الباحث أن يدعو المسيحيين الذين اراد الله ان يجعلهم ضمن نسيج هذه الامة العربية ليكونوا نوراً للشعوب وضياء للأمم بعلمهم وثقافتهم وحبهم لعروبتهم واستعادة ما كان لهم من ريادة في شتى المجالات، وهذا لكونهم ينتمون ايضاً لذاك الذي مذخر لهم فيه جميع كنوز الحكمة والعلم.

زر الذهاب إلى الأعلى