أفسس | د. القس إبراهيم سعيد

شرح الرسالة إلى أفسس الإصحاح الثالث

تَفْسِير رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ

إبراهيم سعيد

الإصحَاحُ الثَّالِثُ

بولس يعرف عن نفسه

كشف الرسول في الأصحاحين السابقين عن جانب من أمجاد الفداء المسيحي العجيب، الذي أعده الله لبني البشر – يهوداً وأمميين على السواء، خالقاً منهم “إنساناً واحداً جديداً”، ليبني منهم “بناء مركباً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب”، ليكوّن منهم “مسكناً لله في الروح”.

 إلى هنا رأينا كلام الرسول عمومياً، لا يحمل إشارة إلى شخصه ولا إلى عمله، سوى في قوله: “لذلك أنا أيضاً إذ قد سمعت بإيمانكم… لا أزال شاكراً لأجلكم ذاكراً إياكم في صلواتي” (1: 15و 16).فلم يذكر شيئاً عن وظيفته الخاصة باعتبار كونه “الإناء المختار” لحمل رسالة الخلاص إلى الأمم، ولا عن آلامه التي تحملها في هذا السبيل من سجن وتعذيب وتشريد. والظاهر أن الموضوع الهام الذي كان يشغل فكره، كان أرفع من أن يحتمل إشارات شخصية. ولكن ما كاد الرسول يصل إلى كلمة “الأمم” التي يختتم بها أول عدد من هذا الأصحاح، حتى رأى لزاماً عليه أن يعرج بإشارة شخصية إلى وظيفته، وعمله، ورسالته التي أؤتمن عليها([1]).وقد لذّ له الحديث وطاب، حتى امتدّ به الكلام إلى نهاية العدد الثالث عشر، وبعد أن فرغ من هذه الإشارة الشخصية، استأنف حديثه الذي به استهل هذا الأصحاح: “بسبب هذا أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم (عدد 1)…(3). “بسبب هذا أحني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح” (عدد 14). وهكذا اختتم الرسول هذا القسم التعليمي من رسالته بصلاة لأجل المكتوب إليهم (3: 14- 21)، مثلما بدأه أيضاً بصلاة (1: 15- 23) فصلاة بولس في كل من هذين الموضعين، عماد هذا القسم من رسالته، لدرجة يعتبر فيها ما بينهما حلقة اتصال بين الصلاة الأولى، والثانية –كأن هذا القسم كله صلاة واحدة متصلة الحلقات.

 أولاً: بولس وإنجيل الأمم –أو بولس رسول الأمم (3: 1- 13)

ثانياً: بولس والمكتوب إليهم من الأمم –أو بولس متضرعاً لأجل الأمم (3: 14- 21)

أولاً: بولس وإنجيل الأمم : (3: 1- 13)

من خلال كلمات هذا الفصل، تتجلى لنا صورة مختلفة للرسول بولس –كل صورة منها تنمّ عن ناحية من نواحي حياته المتعددة الجوانب، فنرى في الطليعة: “بولس الأسير” (عدد1) و”بولس الخبير بالأسرار” (عدد 3و 4) “بولس الرسول” (عدد 5و 6) و”بولس الخادم الأمين” (عدد 7) و”بولس أصغر جميع المؤمنين” (عدد 8) و”بولس البشير” (عدد 8) و”بولس حامل النور” (عدد 9) و”بولس رجل الشدائد” (عدد 13) و”بولس رجل الصلاة” (عدد 14).

ولكي نلم بعض الإلمام بكلام الرسول في هذا الفصل. يجمل بنا أن ندرسه دراسة تحليلية. إن موضوعه الرئيسي هو: “بولس وسر إنجيل الأمم” والكلام فيه منقسم إلى أربعة أقسام، مسبوقة بكلمة تمهيدية (عدد 1) ومختتمة بكلمة ختامية (عدد 13)، ومن محاسن الاتفاق أن موضوع الكلام في المقدمة وفي الخاتمة يكاد يكون واحداً –فالمقدمة ترينا بولس في الأسر، والخاتمة تحدثنا عن بولس في الشدائد- والأسر والشدائد من مصدر واحد.

كلمة تمهيدية مجملة: بولس سجين إنجيل الأمم (3: 1)

أولاً: اتصال هذا “السر” ببولس (3: 2- 5):

 (1)عن طريق الإيهاب (3: 2)

 (2)عن طريق الإعلان (3: 3و 4)

 (3)وقت إعلان هذا السر (3: 5)

ثانياً: موضوع هذا “السر” (3: 6)

ثالثاً: موقف بولس إزاء هذا “السر” (3: 7- 9):

 (1)خادم له (3: 7)

 (2)مبشر به (3: 8)

 (3)حامل مصباحه (3: 9)

رابعاً: الغاية القصوى من إعلان هذا “السر” (3: 10- 12)

 “لكي يعرّف عند الرؤساء والسلاطين”:

 (1)بحكمة الله الممنوعة (3: 10)

 (2)بقصد الدهور (3: 11)

 (3)بسلام الله (3: 12)

كلمة ختامية مجملة: بولس في شدائد إنجيل الأمم (3: 13)

عدد 1 :

1بِسَبَبِ هَذَا أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الأُمَمُ،

كلمة تمهيدية مجملة –بولس سجين إنجيل الأمم يصلي لأجل الأمم “بسبب هذا أنا بولس أسير المسيح…”

-أ-علة صلاته: “بسبب هذا” –خط الرسول هذه العبارة، ولكنه قبل أن يُتمها، عرّج في كلامه على ذلك “السر” العجيب الذي ظل مستوراً عن الناس حتى جاء ملء الزمان فتجسد المسيح، وعاش، ومات، وقام. ومن مكان عليائه في المجد، أشرف على شاول الطرسوسي مضطهد الكنيسة فأخضعه لإرادته، ثم أشرق عليه بنوره العجيب وكشف له عن ذلك السر العظيم: وهو أن إله اليهود، هو هو إله الأمم أيضاً، وأن إنجيل الأمة الإسرائيلية المختارة هو بالذات إنجيل الأمم: “فلا يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حر… لأن الجميع واحد في المسيح يسوع”. “فالأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل”. هذا هو السر الذي أفضى به بولس إلى قارئيه في الأصحاحين اللذين مررنا بهما في هذه الرسالة –من اختيار، وتبنّ، وتقديس، وتمجيد، إلى مصالحة تمت بين الناس والناس، ثم بين الله والناس، إلى تلك الوحدانية المجيدة التي تؤلف من اليهود والأمم- على السواء- مسكناً مقدساً لله، في الروح، بالمسيح.

“بسبب هذا” الإعلان المجيد، أراد بولس أن يضع القلم عن يمينه ورقّ الكتابة عن يساره، ليحني ركبتيه لدى ربنا يسوع المسيح، مصلياً لأجل المكتوب إليهم، “ليحل المسيح بالإيمان في قلوبهم لكي يمتلئوا إلى كل ملء الله”. ولكنه قبل أن يلقي القلم جانباً أراد أن يُسِرّ إلى المكتوب إليهم بكلمة عن الحق المخوّل له، والسلطان الذي تقلده في مناداته بالإنجيل للأمم –كأن هذا الحق كان موضوع جدل ومناقشة ومنافسة بين أعداء الرسول، الذين هم أعداء إنجيل الأمم- ولعلهم من اليهود الذين ضاقت أفكارهم وقلوبهم عن أن تسع الأمم معهم في حيز الإنجيل الواحد، حاسبين عن خطأ وجهل، أن “يهوه” هو إله الإسرائيليين وحدهم، مثلما كانت آلهة الوثنيين مقصورة عليهم هم دون سواهم. وقد فاتهم أن “يهوه” هو “رب واحد للجميع لكل من يؤمن”، “لأنه لا فرق”. إذ “ليس عند الله محاباة”

-ب-رجل الصلاة، وأسير الإنجيل، هو المؤتمن على السر: “أنا بولس أسير المسيح يسوع”. تكلم بولس عن نفسه في هذا المقام بلهجة التوكيد: “أنا بولس”، لكنه توكيد المتواضع، الشاعر بنعمة الله عليه، لا توكيد الفخور المعجب بذاته. وإذا كان بولس فخوراً بشيء في هذا المجال، فهو إنما يفخر بالسجن، والسلاسل، والقيود التي تحمّلها في سبيل الإنجيل، بل يفخر بكونه “أسير المسيح يسوع”. أوَ ليس أسير المسيح أشرف من أسير الخطايا؟ وأرفع شأناً من أسير الذات؟ وأسمى مقاماً من أسير أحد ملوك العالم؟ بل أليس أسير المسيح خيراً من أمير مقاطعة وأرفع قدراً من زعيم دولة؟ إلا أن السجن في سبيل المسيح، أفضل من الجلوس على أفخر العروش. والاستعباد له هو نِعمَ الحرية، والسلاسل الحديدية التي تُغَلّ بها الأيدي والأرجل في سبيله، لهي أحلى من أغلى الحلي التي تزين أجمل المعاصم.

“بولس أسير المسيح يسوع” –هذه العبارة ترسم أمامنا صورة رجل نحيل الجسم، مرتد ملابس بسيطة، ويده اليسرى مغلولة بسلسلة من أحد طرفيها- وطرفها الثاني مُطوِّق مِعصَم أحد الجنود الرومان القائمين على حراسته. وغير خاف أن بولس صار أسير محبة المسيح قبل أن يلج أبواب السجن المادي لأجل المسيح. ولعله أصبح أسير الفادي منذ تلك اللحظة التي قال فيها: “يا رب ماذا تريد أن أفعل”؟ (أعمال 9: 6). وقد ظل طوال حياته أسير حب المسيح سواء أكان في السجون أم خارج السجون. أليس هو القائل: “إن محبة المسيح تحصرنا” (2كو 5: 12)؟ ألم يقل قبل ختام حياته: “إني حامل في جسدي سمات الرب يسوع” (غلاطية 6: 17)؟ كان كثيرون في أيام بولس أسرى في قصر قيصر، لكن بولس أسير المسيح يسوع (أعمال 23: 11). فهو لم يفقد حريته نتيجة تعديه على شريعة أو وصية، بل نتيجة إطاعته وصية المسيح القائلة: “اذهبوا إلى العالم أجمع”

“أسير المسيح يسوع” –نلاحظ أن الرسول، في هذه العبارة، قدّم وظيفة المسيح كفادٍ: “المسيح” على اسمه الإنساني “يسوع”.والظاهر أن كرازة بولس بأن الفادي هو “مسيح” الأمم، لا”مسيح” اليهود وحدهم، قد أثارت حفيظة اليهود عليه، فعملوا على طرحه في غياهب السجون.

-ج-تضحيات بولس لأجل المكتوب إليهم: “لأجلكم أيها الأمم”. إننا مدينون للوقا الطبيب بحادث دونَّه في سفر الأعمال (21: 26- 30) يلقي ضوءاً ساطعاً على قول بولس: “أسير… لأجلكم أيها الأمم”. “حينئذٍ أخذ بولس الرجال في الغد وتطهر معهم في الهيكل…فرآه اليهود من آسيا في الهيكل فأهاجوا كل الجمع صارخين يا أيها الرجال الإسرائيليون أعينوا. هذا الرجل الذي يعلّم في كل مكان ضداً للشعب والناموس وهذا الموضع حتى أدخل يونانيين أيضاً إلى الهيكل ودنّسَ هذا الموضع المقدس. لأنهم كانوا قد رأوا معه في المدينة تروفيمس الأفسسي فكانوا يظنون أن بولس أدخله إلى الهيكل. فهاجت المدينة كلها وتراكض الشعب وأمسكوا بولس وجرّوه خارج الهيكل وللوقت أُغلقت الأبواب”.

هذا ضرب من ضروب العذابات التي تحملها بولس من أيدي اليهود قصاصاً وتأديباً على تلك “الجريمة التي لا تغتفر” –تبشير الأمم بالإنجيل!! فكان هذا الاختبار عربوناً لآلام مبرّحة، عاناها رسول الأمم لأجل الأمم، وقد اختتمت هذه الآلام بسجنه الأخير في روما حيث قضى شهيد الحق والواجب، في سبيل إبلاغ الأمم رسالة الحق والخلاص. ومن المعلوم أن قضية تبشير الأمم قد اجتازت أزمة حادة موصوفة في أعمال ص 15. اطلب أيضاً أعمال 22: 21و 22.

هذا هو “سر إنجيل الأمم”. فكيف سُلمت مفاتيحه لبولس؟ هذا ما يعرفنا عنه الرسول في العدد التالي: أنه تقلد المفاتيح لا نتيجة مجهود من عنده، بل هبة إلهية مجانية –”مجاناً أخذتم. مجاناً أعطوا”.

عدد 2 :

2إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ

(1)بولس تقلد مفاتيح هذا السر، بتدبير من نعمة الله المعطاة بالإيهاب: “إن كنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم”

-أ-معرفة المكتوب إليهم برسالة بولس إلى الأمم: “إن كنتم” –استعملت “إن” هنا للتعليل لا للشك، فهي يقينية لا شرطية، مع أنها أُفرغت في قالب الشرط شكلاً. ومعناها: “ما دمتم قد سمعتم حقاً بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم”. والظاهر أن الرسول التجأ إلى هذا الأسلوب في التوكيد، تلطفاً منه، واتضاعاً، وتودداً نحو المكتوب إليهم الذين تربطهم به روابط البنوة المقدسة في الرب. وقد لا تخلو هذه العبارة من التهكم اللاذع المؤسس على شدة الثقة وقوة اليقين. أو قل إنه يقين أُفرغ في صيغة فرض (4: 21). وإن من يقرأ أعمال 19: 10و 26، لا يمكن أن يخالجه شيء من الشك في أن بولس كان معروفاً لدى أهل أفسس، وأن رسالته لم تكن موضوع شك عندهم، إلا إذا احتاج النهار إلى دليل، فمن المحقق أن “رسالته” إلى الأمم لم تكن بعد سراً مخفي، بل صارت هي نفسها بشارة ذاع خبرها وشاع، وملأ الأسماع، وقت كتابة هذه الرسالة. ويقول الدكتور كاندليش إن بولس، بقوله: “إن كنتم قد سمعتم” قد وجه الخطاب إلى فريق من غير أهل أفسس ممن لم يسمعوا يقيناً برسالته إلى الأمم، سيما وأن هذه الرسالة غير مقصورة على كنيسة أفسس، لكنها رسالة دورية بعث بها إلى كنائس أخرى، مع العلم بأن كثيرين من آسيا ومن أماكن أخرى مجاورة لها، تشككوا كثيراً في رسالة بولس إلى الأمم بنوع خاص، وفي رسوليته بنوع عام، بل كانوا يستحون بقيوده.

-ب-النعمة الجزيلة التي وهبها بولس، والقصد منها: “بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم”. إن كلمة “تدبير” تصور لنا رب بيت مدبر حكيم، يوزع بركاته السخية على كل واحد من أفراد بيته، بتدبير محكم ونظام دقيق، يضمن كفاية البركات للجميع، فيأخذ كل منهم نصيبه الحق. وهو يجود بنعم وفيرة على بعض الأفراد لكي يوزعوها هم على غيرهم. هذه الكلمة من مميزات كتابات الرسول. وهي تعني “التوكيل”، أو “التوزيع” أو “تسليم الوديعة” (انظر 1كو 4: 1و 2، 9: 17، كولوسي 1: 25، 1 بطرس 1: 10). هذا هو “التدبير” الإلهي المحكم بموجبه وُهب بولس نعمة جزيلة، وهي نعمة الكرازة للأمم، لا مجرد النعمة الخلاصية. فالإنسان بعد أن ينال النعمة المخلِّصة له، يُوهب درجة أرقى في مراتب النعمة لتخليص غيره. هذه هي النعمة التي قال عنها بولس في رومية 1: 5 “الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم”، وفي عددي 7و 8 من هذا الأصحاح الذي نحن بصدده الآن: “الذي صرت أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي حسب قوته، لي أنا أصغر جميع القديسين أُعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى”.

هذه هي النعمة التي حصل عليها بولس “إذ سُرّ الله الذي أفرزه من بطن أمه ودعاه بنعمته، أن يعلن ابنه فيه ليبشر به بين الأمم” (غلاطية 1: 16). غير أنه ليس من الضروري أن يمضي وقت ما، بين نوال النعمة المخلصة للكارز، والنعمة التي تعينه على تخليص غيره –وإن شئت قل: بين نعمة البشارة، ونعمة التبشير. لأن بولس نال النعمة الخلاصية، وأحيط علماً بتدبير الله الفدائي، وتقلد نعمة حمل بشارة الخلاص إلى الأمم، في وقت واحد. فكأن كل هذه الثلاثة الأدوار المجيدة قد تمت له في آن واحد، حين التقى به المسيح في طريق دمشق. ولكن النعمة المقصودة في هذا العدد بالذات، هي نعمة تبشير الآخرين. وكل إنسان ينال الدرجة الأولى في النعمة لا يمكنه أن يقف عند هذا الحد، لأننا خلصنا لنخلّص، وبُشرنا لنبشر. فبولس لم يُوهب هذه النعمة لكي ينعمَ بها، ولا لكي يتمتع بها تمتعاً ذاتياً، وإن يكن هذا التمتع روحياً، لكنه وُهبها “لأجل الأمم” فهي إذاً ليست له وإنما هي لهم: “لأجلكم” – هذا أسمى مجال التنعم بالنعمة، لأن “المروي هو أيضاً يُروي”.

——————

(2) يرى بعض المفسرين في تنقل الرسول من موضوع إلى موضوع آخر قبل إتمام الموضوع الأول، دليلاً على أنه لم يكن يكتب بخطه بل كان يملي رسالته إملاء.

(3) يعتقد جماعة من المفسرين، أن الرسول بعد أن قطع سياق كلامه في نهاية العدد الأول، عاد فأستأنف في العدد الثامن. ويظن آخرون أنه استأنفه في العدد الثالث عشر. يقول قوم آخرون إنه وصله ببدء الأصحاح الرابع. ولكننا نرجح الرأي القائل بأنه استأنف الكلام في العدد الرابع عشر سيما وأن الرسول كرر في بدء هذا العدد نفس العبارة التي استهل بها العدد الأول “بسبب هذا”…

الإعلان والسر

عدد 3

3أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ.

(2)بولس تقلد هذا السر –عن طريق الإعلان: “إنه بإعلان عرفني بالسر”.

الكلمتان الرئيسيتان في هذا العدد هما: “إعلان”. و”سر”. وحتى نعرف معنى أولاهما، ينبغي أن نعرف معنى ثانيتهما. لقد مرّت بنا هاتان الكلمتان في العدد التاسع من الأصحاح الأول، حيث قال الرسول عن الله: “إذا عرفنا بسر مشيئته”. “فالمعرفة” و”الإعلان” هما من مصدر واحد. فليرجع القارئ إلى الصفحة 61 من هذا الكتاب، ليعرف المعنى الأساسي لهاتين الكلمتين.

“إنه بإعلان عرفني بالسر” –أراد الرسول، أن يُفهم المكتوب إليهم، أن وديعة إنجيل الأمم لم تنته إليه نتيجة بحث عقلي قام به، ولا هي من مبتكراته الخاصة التي أوحت إليه بها غيرة نفسانية، ولا هي نتيجة اكتشاف اجتهادي قام به هو من عنديّاته، ولا هي تقليد أو رسالة تقلدهما من سُلفائه أو رؤسائه، وإنما هي إعلان خارجي عنه، خصّه الله به، وافتقده به في مراحمه، في وقت كان بولس لاهياً عنه، بل معرضاً عنه، بل معارضاً له.

غالباً جداً أفضى الله إلى بولس بهذا “السر” مجملاً، حين عرَّفه بحقيقة ذاته وصفاته يوم تجديده (أعمال 26: 17و 18). ثم كشف له عن مخبئات هذا السر، الكامنة بين ثناياه فعرفه ببعض مشتملاته وتفصيلاته أثناء الثلاثة الأعوام التي قضاها بولس في العربية، باحثاً، دارساً، متفكراً، متعبداً، كما يقول هو في موضع آخر: “لما سُر الله الذي أفرزه لي من بطن أمي ودعاني بنعمته. أن يُعلن ابنه فيَّّ لأبشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحماً ولا دماً. ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضاً إلى دمشق. ثم بعد ثلاث سنين صعدت أيضاً إلى أورشليم (غلاطية 1: 15- 18). هذا مطابق لاختبار نبي قديم: “قبلما صورتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبياً للشعوب” (إرميا 1: 5) فرسالة الإنجيل، وسلطة تقلدها، وطريقة المناداة بها، نزلت كلها على بولس عن طريق الإعلان المباشر.

إن طبيعة الرسالة بما فيها من جلال ممتاز، وطبيعة الرسول الذي كان زعيم شيعة اليهود الفريسيين المتعصبين فأصبح رسول الأمم، وطبيعة المرسل إليهم –الأمميين، كل هذا يجعل الإعلان الإلهي المباشر لازماً شديد اللزوم. لأن الأشياء العادية تتطلب وسائل عادية مثلها، لكن الأشياء الخارقة للطبيعة تتطلب وسائل من وراء الطبيعة نظيرها. وهل من المستبعد على الإله العلي الذي استخدم وسيلة ممتازة في إقناع بطرس بالإقلاع عن أفكاره الطبيعية المتمكنة منه والمتأصلة فيه (أعمال 10)، أن يستخدم مثل هذه الوسيلة أو أبلغ منها، لانتزاع جذور التعصب الفكري من ذهن بولس نحو الأمم، وزرع أشجار المودة والصفاء والتسامح عوضاً عنها‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌!! أما عن كون الرسول بولس مستودعاً لسر الإعلان الإلهي، فهذا ظاهر من ترديده كلمة: “إعلان” بين ثنايا رسائله وكتاباته (رومية 16: 25، غلاطية 2: 2). وأما عن كونه مهبطاً لهذا الإعلان، فهذا واضح من (2كورنثوس 12: 1و 7، غلاطية 1: 16)

-أ-موجز هذا السر: “كما سبقتُ فكتبتُ بالإيجاز”. يشير الرسول في هذه الكلمات إلى ما مرّ به، في الأصحاحين السابقين من هذه الرسالة. فالرسول لم يفصّل هذا السر تفصيلاً ولكنه ذكره موجزاً. وأتّى للغة البشر أن تحيط بما في هذا السر الجليل، من عرض، وطول، وعمق، وعلو!! فمهما أطال الرسول في شرحه وأطنب، لا يكون في إطنابه إلا موجزاً، ومهما أسهب في تفسيره، فلا يكن في إسهابه إلا قاصراً أو مقصراً.إن قوله: “كما سبقت فكتبت” مرادف لقولنا: “كما ذكرت آنفاً”

عدد 4 :

4الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ.

-ب-طبيعة كلام الرسول تشهد لسمو مصدره، وتؤيد رسالته: “الذي يحسبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح”. قال المسيح: “بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان”. وقال في موضع آخر: “…الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها. هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني… فتشوا الكتب… وهي التي تشهد لي”. وقال أيضاً: “من ثمارهم تعرفونهم”. على هذا المبدأ تُعتبر كلمات الرسول خير شاهد له أو عليه. ومع أنه لم يقدم للمكتوب إليهم شرحاً لبرنامج الفداء الذي أعده الله للمفديين بما فيهم الأمم، بل اجتزأ بخلاصة موجزة منه، إلا أن القليل ينمّ عن الكثير. فكما أن تحليل قطرة من مياه البحر يكشف عن ذات العناصر التي يتركب منها البحر كله، كذلك كلمات الرسول التي كتبها بالإيجاز، عن النصيب العظيم الذي جعله الله للأمم في برنامج الفداء، تتضمن جوهر الفداء بالذات. فيحق للمكتوب إليهم أن يجعلوا من هذا القليل الموجز خير دليل على المطول المعجز: ” الذي منه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح”. إن الفهم المراد هنا، هو فهم التمييز.”والسر” المقصود، هو الذي حدثنا عنه الرسول في العدد الثالث من هذا الأصحاح.

ولا يغرب عن بالنا، أن الرسول لم يرغب في الاستشهاد بأهل أفسس لدرايته بسر المسيح، حباً بهذه الشهادة في ذاتها، ولا طمعاً في المجد الذاتي الذي يناله من هذه الشهادة، لكنه كان ينبغي من وراء ذلك، إبلاغ رسالته إلى قلوبهم. فخيرهم هم لا خيره هو، كان مطلبه الأسمى. فهو لم يرغب إلى المكتوب إليهم، أن يشهدوا بمقدار ما أرادهم أن يحكموا لأنفسهم. ولم ينتظر منهم أن يؤخذوا بسمو مداركه، وإنما أرادهم أن يقتنعوا بصدق رسالته، وسلطانها الإلهي، ومبلغ فهمه لها –لأن رسالته لا تنفعهم إلا بمقدار إقناعهم بسمو مصدرها، وأنّى لهم أن يعرفوا “سر المسيح” إلا من شخص ذي خبرة ودراية؟ فالبصيرة الروحية النافذة –لا المعرفة العقلية المكتسبة- هي المقصودة بقوله: “درايتي بسر المسيح”. فليس هذا كلام الفخور بنفسه ومؤهلاته، بل كلام الشاعر بضعفه وقدرة المسيح.

إن “سر المسيح” مرتبط تمام الارتباط بعمله (2: 14) وبمجده، (1: 10). فجوهر خلاصه هو: “المسيح فيكم رجاء المجد” (كولوسي 1: 27) وموضوعه هو: “المسيح المعلن”. إن سراً عظيماً كهذا، لهو حقيق بأن يدعى “سر المسيح” أو “المسيح السر”. فلا يمكن أن يكون من مبتكرات بولس، ولا من ثمرات خياله. لأن سمو السر شاهد لسمو مصدره. فكما أن قوة انحدار المياه تشهد لعلو منبعها، كذلك عمق هذا السر وسموه يشهدان له بأنه صادر من أعماق قلب الإله السامي بسلطانه، والسخي بنعمته، والغني بمحبته.

يقول بعض المفسرين: إن كلمة “تقرأونه” تعني التلاوة بصوت مسموع كما من منبر الكنيسة مثلاً. ولسنا نجد في القرينة ما يؤيد أو يفنّد هذا الرأي.

عدد 5 :

5الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ:

(3)وقت إعلان هذا السر. ووسيلة إعلانه

هذا العدد يقسم نفسه إلى قسمين متقابلين، تفصل بينهما كلمة “كما”. فهما شبيهان كفتيّ الميزان، كلمة “كما” شبيهة “بقصبة الميزان”:

-أ-الزمن: “في أجيال أخر”…… “الآن”

-ب-درجة الوحي }…”قد أعلن بالروح”

 والإعلان } “لم يعرّف به”

…”لرسله القديسين

-ج-مهبط الوحي: “بنو البشر”…..وأنبيائه….”

-أ-المقابلة الأولى تحدثنا عن الزمن الذي فيه أُعلن هذا السرّ. “الآن” مقابل “الأجيال الأخر” التي كان فيها هذا السر مكتوماً ومختوماً. وقد أراد ب”الأجيال الأخر” الأزمنة السابقة لعصر الإنجيل، حين كان اليهود يعتقدون أن “يهوه” هو إلههم هم دون سواهم، وأن لا نصيب للأمم معهم في التبني والعهود والمواعيد، لأن “سر” إنجيل الأمم كان مكتوماً عنهم.

-ب-المقابلة الثانية ترينا أن هذا “السر” قد “أعلن” لبولس ولغيره من الرسل “بالروح القدس”، مع أن بني البشر لم “يُعرَّفوا به” في “الأجيال الأخر”. فالبشر قديماً لم يستطيعوا بمقدرتهم الفكرية، ولا باستنتاجاتهم العقلية، ولا بتصوراتهم الخيالية، أن يكتشفوا هذا السر ولا أن يكشفوه. وأنّى للعقل البشري أن يصل إلى كنه معلنات “الروح”! وكما أنه يستحيل على الطفل الرضيع أن يفهم العلوم الجامعية العويصة، كذلك تعذرَ على العقول البشرية الغير الناضجة أن تفهم هذا السر، لا لأنها لم تقوَ على فهمه أو كشفه فحسب، بل لأن وقت إعلان هذا السر لم يكن قد حلّ بعد، لأن “ملء الزمان” لم يكن قد حان، ولأن “الروح لم يكن قد أعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد”. ألا يستفاد من قوله: “كما قد أعلن” إن كلمة “كما” تشير إلى الدرجة الممتازة التي أعلن بها هذا “السر” في العهد الجديد مقابل تلك الدرجة الجزئية الضئيلة الشبيهة بالأشعة المتكسرة، التي أعلن بها هذا “السر” لفئة قليلة ضئيلة من أبطال العهد القديم، الذين كانوا بالنسبة للشعب، مثل قمم الجبال الشاهقة بالنسبة لحصباء الوادي؟ و”السر” ليس بجديد لكن إعلانه هو الأمر الجديد. كان في الماضي “مكنوناً” فأصبح الآن معلناً

-ج-المقابلة الثالثة تصف الفارق العظيم بين من خفي عنهم هذا السر: “بنو البشر” وبين من أعلن لهم بالروح: “رسله القديسين وأنبيائه بالروح”. إن كلمة “بنو البشر” تضم بين دفتيها جميع أهل “الأجيال الأخر” من يهود وأمميين. ومن المحتمل أن بعضاً من المستنيرين أمثال إشعياء وسمعان الشيخ قد رأوا بصيصاً من ضوء هذه المعلنات (أعمال 13: 47، رومية 15: 8- 12، إشعياء 56: 6و 7). ولكن أنى لضوء الفجر أن يواجه ضياء الشمس!! (1بطرس 1: 10- 12).

أما الذين شرفهم الله بهذا الإعلان المجيد، فقد وصفهم الرسول بقوله: “رسله القديسين وأنبيائه بالروح”. هذه العبارة تنم عن حقيقتين –

أولاهما: مهبط الوحي: “رسله القديسين وأنبيائه”-هؤلاء هم رسل العهد الجديد وأنبيائه (4: 11)- وبولس أحدهم بل على رأس القائمة مع أنه رضي تواضعاً منه أن يضع نفسه في ذيلها (1كورنثوس 15: 9). وإذا كان بولس أحد هؤلاء الرسل والأنبياء، أفلا يُلام على كونه تبرع لنفسه ولهم بكلمة: “قديسين” فكيف يتفق هذا مع ما هو مشهور عنه من الوداعة والتواضع؟ إن هذا اللبس لا يلبث أن يزول من أذهاننا متى ذكرنا المعنى الخاص الذي تنطوي عليه كلمة: “قديسين”. فهي لا تصف حالة كمالية منزهة عن كل شر وشبه شر، ولكنها تعني التخصص والفرز، والتكريس. فهؤلاء الرسل والأنبياء هم قديسون لأنهم أفرزوا لله في الروح وبالروح. فهم إذاً مقدسون في مقامهم ووظيفتهم ودعوتهم. وفي الوقت نفسه هم مُقدسون بالدم الثمين، ومتقدسون في الروح القدس، وهم أنقياء بسبب كلام المسيح، الذي هو كلمة الله الحي الباقي إلى الأبد. ولا تنس أن أهل أفسس وصفوا بهذه الكلمة: “قديسين” نسبة لدعوتهم العليا في السماويات في المسيح يسوع. وأن اليهود سموا “شعباً مقدساً” نسبة لكونهم شعباً مقتني من الرب وللرب.

الحقيقة الثانية: واسطة الوحي: “بالروح” هذا هو الروح القدس الذي ألهم الأنبياء والرسل فيه هم مقدسون، وبه هم ملهمون. وكلمة: “بالروح” يجوز أن تترجم حرفياً إلى: “في الروح”. لأن هذه المعلنات جاءتهم وهم “في دائرة الروح”. قد تعتبر كلمة: “بالروح” وصفاً لكلمة: “أعلن” –أي أن الروح هو واسطة الإعلان. وأن نعتبرها وصفاً لقوله: “لرسله القديسين وأنبيائه” فتكون وصفاً لحالة الرسل القديسين والأنبياء حينما تلقوا المعلنات الإلهية، بخلاف بني البشر –أو بني آدم- الذين كانوا على حالتهم الطبيعية فخفيت عنهم هذه المعلنات العميقة السامية. قال بنغال تعليقاً على كلمة: “أعلن”: أن الإذاعة بالإعلان هي سر الإذاعة بالكرازة”.

عدد 6 :

6أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ.

ثانياً: موضوع هذا السر: “إن الأمم شركاء”

هذه هي خلاصة “السر” الذي أعلن لبولس، بل جوهر السرّ: إن الأمم شركاء اليهود في بركات الإنجيل. وقد أوضح الرسول في هذا العدد ثلاثة أمور:

-أ-بركات هذا السر –ب-العامل الأساسي فيها –ج-العلة الثانوية فيها

-أ-بركات هذا السر: “الميراث، والجسد، ونوال موعده” –هذه إذاً شركة مثلثة يتساوى فيها الأممي واليهودي على السواء (1)شركة في الميراث. “شركاء في الميراث”. (2)شركة العضوية في الجسد الواحد: “والجسد”. (3)شركة التمتع بروح الموعد المقدس: “ونوال موعده في المسيح بالإنجيل”.

فالجانب الأول: “شركة الميراث” يعين نصيب الأمم مع اليهود في الله الآب (رؤ 2: 17، غل 2: 29، 4: 7). والجانب الثاني: ” شركة العضوية في الجسد الواحد” يبين نصيب الأمم مع اليهود في الابن الذي هو رأس هذا الجسد الغير المنظور (2: 15- 22). والجانب الثالث: شركة التمتع “بنوال موعده” القدوس، يقرر نصيب الأمم مع اليهود في الروح القدس، الذي هو “روح الموعد المقدس” (أعمال 1: 14). فإذاً هذه الشركة المثلثة الجوانب تعيّن النصيب المشترك الذي للأمم واليهود على السواء في الإله الواحد المثلث الأقانيم. فهم شركاء في الميراث الواحد الذي لهم من الآب، وفي الجسد الواحد الذي رأسه المسيح، وفي شركة الروح القدس الواحد (1: 3، 2: 12، عب 6: 4).

فما أجل هذا السر وما أمجده! قبلاً كان اليهود ينظرون إلى الأمم –ويا ليتهم ينظرون بغير أنفة وترفع- نظرتهم إلى سقط المتاع، المزدري والغير الموجود. نظرة كلها زراية، فيحتقرونهم. وكانوا ينظرون إلى الله نظرة تنم عن قلوب ضيقة فيحتكرونه لأنفسهم –فيظنون أنهم هم وحدهم ورثة مجده، ومنهم وحدهم تتألف الأمة المختارة فلا يختلطون بأحد ولا يمتزجون ولهم وحدهم شركة موعده. كل هذا كان قبل إعلان هذا السر المجيد الذي به صار الأمم ورثة مع اليهود في الله، فأصبحوا وإياهم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع (غلاطية 3: 26، رومية 8: 17). وقد أضحوا وإياهم أعضاء متآلفين في جسد المسيح الذي هو كنيسته الغير منظورة (2: 16). فبالنسبة لهذا الجسد الواحد، هم مساهمون. وبالنسبة لبعضهم البعض هم متحدون متآلفون –هذا هو المعنى الحرفي لقوله: “شركاء في الجسد”. وبالتالي صاروا وإياهم شركاء في نوال موعد الروح، الذي يأخذ مما للمسيح ويعطيهم سوية، “قاسماً لكل واحد بمفرده نصيباً كما يشاء” (1كورنثوس 12: 11). هذا حق في الحال لا في الاستقبال.

-ب-العامل الأساسي في نوالها: “في المسيح” –هذا هو العامل الأساسي في تمتع الأمم مع اليهود بهذه البركات المشتركة: اتحادهم وإياهم في المسيح. بل هذا مقامهم، وامتيازهم، ومجدهم. في المسيح صاروا أبناء الله فأضحوا شركاء مع بعضهم البعض في الميراث المقدس الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل. في المسيح صاروا أغصاناً في الكرمة الواحدة وأعضاء أحياء في الجسد الواحد. في المسيح صار لهم حق نوال الروح والامتلاء بالروح، لأن الروح هو رسول المسيح إلى كنيسته بعد صعوده، وهو معزيها بعد افتراقه عنها بجسده المنظور.

-ج-الوسيلة الثانوية: “بالإنجيل”. فالإنجيل هو الواسطة التي بها نُفذ التدبير الإلهي في فداء الأمم واليهود سواء بسواء، وبواسطته أظهر وأعلن بالكرازة والبشارة. بالإنجيل تسلم بولس هذا الإعلان، وبالإنجيل أعلن بولس هذا السر للأمم. وفي الإنجيل ولدهم (1كو 4: 15، رو 10: 8- 15، 16: 25).

هذا من جهة الله، وأما من جهة البشر، فما عليهم إلا قبول الإنجيل بالإيمان. وفي قبولهم إياه يقبلون كل البركات التي تصحبه.

يعتقد الدكتور موفات أن هذه الشركة المثلثة منحصرة كلها في الجانب الأخير –الموعد. فترجم هذا العدد على هذه الصورة: إن الأمم لهم شركة الميراث، وشركة الزمالة، وشركة المساهمة- في الموعد. أي أن الأمم وارثون مع اليهود، وشركاء لليهود، ومساهمون مع اليهود في الموعد الواحد. ولكننا لا نستطيع الأخذ بهذا الرأي لأن فيه إخفاء لكلمة “الجسد”، وإنما أوردناه لمجرد تبيان الأشياء بأضدادها. ولعل هذا المترجم ارتأى هذا الرأي لأن الرسول خلق في هذا العدد كلمتين لم تستعملا قط من قبل. كأنه وجد أن بردة الكلمات اليونانية الموجودة في وقته ليست بكافية ليخلعها على هذا الحق خلعاً، فخلق له كلمتين خلقاً!

موقف بولس إزاء إنجيل الأمم

(3: 7- 9)

بولس خادم لإنجيل الأمم (3: 7):

7الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ.

إن كلام الرسول هنا موازٍ لكلامه في كولوسي 1: 24- 29 حيث قال: “…الإنجيل الذي سمعتموه.. الذي صرت أنا بولس خادماً له”…، “الكنيسة التي صرت أنا خادماً لها حسب تدبير الله المعطي لي لأجلكم”… “الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل فيّ بقوة”

تكلم الرسول في هذا العدد عن ثلاث حقائق متتابعة –الحقيقة الأولى: تؤدي بنا إلى الثانية، والثانية تصل بنا إلى الثالثة لكنّ الثالثة قياس للثانية، والثانية قياس للأولى. في الحقيقة الأولى أرانا الرسول صلته بهذا الإنجيل: “الذي صرت أنا له خادماً”. وفي الحقيقة الثانية حدّثنا عن قياس كفايته لهذه الخدمة: “حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي”. وفي الحقيقة الثالثة أبان لنا كفاية قياس النعمة المعطاة له: “حسب فعل قوة الله”. ويقول الأسقف موليه –استناداً إلى دلالة الكلام في اللغة الأصلية- إن العبارة “حسب فعل قوته” لا تصف ما قبلها، بل تتخطاه وتعود إلى قول الرسول: “خادماً له” أي أن الرسول صار خادماً للإنجيل بمؤهلين –أولهما: نعمة الله الموهوبة له. وثانيهما: قوة الله العاملة فيه- فهو إذاً خادم بحق الدعوة الإلهية، ومؤيد بفعل قوة الله. فنعمة الله تعيّن سمو خدمته، وقوة الله تعيّن اقتدار خدمته. وربما كان أقرب إلى المنطق أن نأخذ بالرأي الأول المتفق والترجمة العربية، على اعتبار أن نعمة الله هي أساس دعوة بولس للخدمة، وأن فعل الله هو قياس نصيبه من النعمة.

الحقيقة الأولى: صلة بولس بالإنجيل: “الذي صرت أنا خادماً له”. إن كلمة: “الذي” تعود على آخر كلمة في العدد السابق: “الإنجيل”. ولا شك في أن كلمة “صرت” تنمّ عن تاريخ جليل حافل بالحوادث والعبر، هو تاريخ انتقال الرسول من ملكوت الظلمة إلى ملكوت ابن محبة الله، فأضحى الطرسوسي شاول، بولس الرسول. وأمسى عدو الأمم اللدود، صديقهم الودود وصار مضطهد رب الإنجيل خادماً للإنجيل. وقد يلذ لنا أن نعرف أن الكلمة المترجمة “خادماً” هي في الأصل “ديّا كونوس” ومعناها الحرفي “شماساً” وهي تفيد أمرين –أولهما: خدمة النشاط الفعال، والثاني: التبعية، فبولس خادم نشيط للإنجيل قاسى في سبيله أضعاف ما تحمّله أي شخص آخر في سبيل عملٍ كرّس له مواهبه وقواه. فما نشاط رجل المال في سبيل المال سوى بعض نشاط بولس الرسول في خدمة الإنجيل. وهو أيضاً يدين للإنجيل بحقّ التبعية، فهو خادم وعبد. لأن كل ما لبولس، للإنجيل (رو 1: 15)، فلا عجب إذا كان كل ما للإنجيل من نعم وبركات، لبولس.

إذا كان بولس الرسول قد خلع على نفسه وظيفة “شماس” فهل علم شمامستنا أنهم رسل؟ إننا نعني بالرسولية ما فيها من خدمة وتضحية وأمانة، لا ما فيها من مجد وجلال وزعامة!

الحقيقة الثانية: قياس كفاية بولس للخدمة: “حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي”. إن النعمة التي أهّلت بولس للخدمة، هي التي خلصته أولاً. وأن “موهبة النعمة” المشار إليها هنا، تتضمن تقليده رسالة الإنجيل، وتعضيده في تبليغها، وإلهامه بنور الحق الإلهي. فخدمة بولس كانت من حيث سعة مداها، وسمو رسالتها، وعمق تأثيرها، من عمل “موهبة نعمة الله المعطاة له” لا عن استحقاق ولا عن جدارة، بل لأن النعمة أرادت. وهل من إرادة للنعمة سوى النعمة؟!

الحقيقة الثالثة: كفاية قياس النعمة الموهوبة لبولس: “حسب فعل قوتّه” إن لهذه العبارة الأخيرة مثيلات في غير هذا الموضع: “حسب عمل شدة قوته” (1: 19)، “حسب عمل استطاعته” (فيلبي 3: 21)، “حسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوته” (كولوسي 1: 29). فالرسول يصف بها اختباره فعل قوة الله في حياته وفي خدمته. إن نعمة الله جزيلة وموهبة نعمته جزيلة كنعمته، ولكن لا سبيل إلى إيصال موهبة نعمة الله، إلى بولس، إلا عن طريق فعل قوة الله في بولس. فقوة الله خصصّت لبولس موهبة نعمة الله بقوّتها الفعالة، وفعلها القوي في حياته. إذاً فعل قوة الله في حياة بولس وخدمته، هو قياس نصيبه من موهبة نعمة الله المعطاة له. إن موهبة نعمة الله أُغدقت عليه بسخاء جزيل، وقوة الله عملت في حياته باقتدار جليل. يقول يوحنا الذهبي الفم: “لم تكن موهبة النعمة بكافية، لو لم يخصصها لي فعل القوة.

بولس مبشر بالإنجيل

 (3: 8):

8لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، في هذا العدد، ذكر الرسول أربع حقائق: -أ-مقامه: “أنا أصغر جميع القديسين” –ب-مؤهلاته: “لي أعطيت هذه النعمة” –ج-مهمته: “أن أبشر بين الأمم” –د-رسالته: “غنى المسيح الذي لا يُستقصى”.

-أ-مقامه: “أنا أصغر جميع القديسين”. هذه العبارة متممة لما قبلها. في بدء العدد السابق صدرت من الرسول إشارة عن نفسه إذ قال “الذي صرت أنا…”. فمرّ بكلمة “أنا” مرور الكرام على غير عادته. لأن بولس الكريم على غيره، بخيل على نفسه –إلا بألقاب التحقير والمذلة، فلم يسعه إلا أن يعود إلى “أنا” ليعطيها حقها الواجب، فعلقها على الصليب ليرفع المسيح على عرش القلب والحياة! فإلى كل من يداخله في نفسه شكّ من جهة وداعة بولس وتواضعه، وإلى كل من أساء فهم كلام بولس عندما سمعه يتحدث عن نعمة الله التي أوحت إليه بالسرّ الذي خفي عن غيره إلى هؤلاء ومن على شاكلتهم نسوق الحديث راجين منهم أن يقرأوا: الكلمات الآتية بإمعان: “لي أنا أصغر جميع القديسين” –مع العلم أن كلمة “قديسي” لا تعني تلك الطغمة الخاصة التي رفعتها بعض السلطات البشرية إلى مراتب الأملاك، وسمت بها إلى ما فوق الأفلاك، ولكنها تضمّ بين جوانبها أضعف المؤمنين بالمسيح، وأحقرهم شأناً، وأدناهم مقاماً، ممن تساورهم الهواجس أحياناً، وتعصف بهم الضعفات ألواناً. ومع كلّ، فإن بولس، أصغر جميع هؤلاء الأصاغر- ولكن في عيني نفسه فقط! لا في نظر الله ولا في عيون المنصفين من البشر. وغير خافٍ أن الرجل الأممي الذي قال عن نفسه: “لستُ مستحقاً” (لوقا 7: 6). وقال فيه المنصفون من البشر: “إنه مستحق” (لوقا 7: 4) قال فيه المسيح ربّ المجد: “لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا” (لوقا 7: 9) وجدير بالملاحظة أن الكلمة اليونانية المترجمة “أصغر” تعني حرفياً: “أصغر الأصغرين”- فلا مجال فيها لمزيد من التواضع.

ثلاث مرات وضع بولس تقديراً لنفسه بالنسبة إلى الآخرين –وفي كل مرة كان ينقص تقديره لنفسه عن المرة السابقة لها، مما يدل على أن بولس كان متصاعداً صعوداً متوالياً على سُلم النعمة. وكلما سما الإنسان في درجات النعمة والقداسة، هبطت نفسه في عينيه، فأضحت لا شيء.

في المرة الأولى –عام 59 م قال: “إني أصغر الرسل” (1كو 15: 9)

وفي الثانية –عام 64 م قال: “أنا أصغر جميع القديسين” (أفسس 3: 7)

وفي الثالثة –عام 65 م قال: “أنا أول الخطاة” (1تي 1: 15)

من هذا نرى أن تلك الأنانية النفسانية المعبر عنها بكلمة “أنا” كانت تصغر في عينيه تدريجاً. في البداءة قابلها بالرسل، فإذا هي أصغر منهم. ثم قابلها بالقديسين، فإذا هي أحقر منهم. أخيراً لم يجد بداً من مقابلتها بالخطاة فإذا هي في مقدمتهم!! طوباك يا بولس لأنك كلما صغرت في عيني نفسك عظمت في نظرنا –ولكن ماذا يهمك من نظرنا نحن الخطاة! فأنت أعظم في نظر الملائكة. ولكن ماذا يعنيك من الملائكة وهم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص؟ لا بل أنت عظيم في نظر الله وكفى بالله شهيداً!!

ليس من الضروري أن تكون هذه العبارات الثلاث: “أصغر الرسل”، و”أصغر جميع القديسين” و”أول الخطاة” معبرة عن ثلاث درجات متتابعة قد ارتقاها بولس في سلم الوداعة، فقد تكون ثلاثة تعبيرات متفاوتة لحقيقة واحدة.

تعوّد يوحنا الذهبي الفم أن يقول “يا رب احمل نفسي على التواضع واحفظها في هذا المستوى دواماً”.

-ب-مؤهلاته: “لي… أعطيت هذه النعمة”. هذا توكيد لما جاء في العدد الثاني من هذا الأصحاح. حسناً أُطلق على بولس لقب: “رسول النعمة”. فبالنعمة نال الخلاص (1تي 1: 14)، وبالنعمة دُعي للخدمة (غلاطية 1: 15)، وبالنعمة بلغ ما هو عليه (1كو 15: 10) وبالنعمة تأهب للكرازة وقام بها (أفسس 3: 8)، وبالنعمة “جاهد وتعب” (1كو 15: 11)

-ج-مهمته: “أن أبشر بين الأمم”. جميل بالرسول أن يفخر بكونه “مبشراً”. فهلاّ علم “المبشرون” أنهم رسل حاملون البشرى الطيبة المفرحة! “فما أجمل على الجبال قدمي المبشر” –ولكن على شرط أن يكون المبشر مرتقياً، وعائشاً، وسالكاً على جبال القداسة والشركة مع الله، فمن شواهق الجبال يأتيه العون.

إذا كان المنفرون الذين ينفخون في بوق النزاع والشقاق، يرفعون عيونهم إلى الجبال الأرضية الشاهقة، فما أحرى بالمبشرين بغنى المسيح الذي لا يستقصى، أن يرفعوا عيونهم إلى الجبال السماوية لينتظروا العون من رب البشارة. وإذا كان المنادون بأشياء تافهة ذاهبة، لا يستحون ببضاعتهم، فأجمل بحاملي غنى المسيح الذي لا يستقصى، أن يفتخروا بهذه الكنوز التي تصغر دونها أفخر كنوز الذهب.

إن كلمة “أبشر” تعني حمل الخبر المفرح وإذاعته. أليس المستفاد ضمناً من هذا، أن العالم في حزن عميق، بسبب ظلام الخطية، وجروحها الدامية، وطعناتها المميتة! هذه هي الحال التي كان عليها الأمميون قبل أن تصلهم رسالة الإنجيل، فكانوا واليهود سواء بسواء في الحالة الروحية.

-د-رسالته –أو- موضوع بشارته: “غنى المسيح الذي لا يُستقصى”. ما أغناك يا بولس وأنت حامل غنى المسيح الذي لا يُستقصى! بل ما أقواك لأنك قدرت أن تحمل “غنى المسيح الذي لا يُستقصى”! أشبه الرسول في هذا الموقف، بشخص كان يبحث عن لآلئ ثمينة، وبعد الجهد الجهيد، اهتدى إلى كنز ملئ باللآلئ الدريّة، والجواهر الكريمة. فما كاد يرى جانباً من هذا الكنز حتى تفتحت أمامه جوانب عدّة رأى فيها أكداساً من الجواهر، وأهراء من اللآلئ، فبُهر من فرط جمالها وضيائها، وأُخذ من وفرة عددها وفيض غناها، فخرج منادياً لكل من لاقاه: “غنى لا يُستقصى”!! “غنى لا يُستقصى”!. بل ما أشبهه بعالم مستكشفٍ مضى إلى بلاد بعيدة باحثاً ومنقباً عن مناجم. فما كاد يكتشف أول منجم حتى ظهرت له من ورائه مناجم غنية بمعادنها، لا حصر لها ولا عدّ، فكفّ عن الاستكشاف لأنه وجد في تلك البلاد الغنية كنوزاً لا تُستقصى. يفنى الزمان، وكنوزها لا تفنى، ويتقادم الجديدان وهي لا تزال جديدة في كل صباح، ثم عاد يهتف بملء فمه: “غنى لا يُستقصى! غنى لا يُستقصى”!!. غنىً لا حد لعرضه لأنه يغني الجميع من دون أن ينقص منه شيء. ولا حصر لطول مداه فالسنون تفنى وهو باقٍ! وتبلى الليالي وهو جديد. ولا نهاية لعمقه الذي لا يسبر له غور لأنه متأصل في أزلية الله. ولا غاية لعلوه لأنه يجري من تحت عرش الله. فهيهات لبشر أو لملاك أن يعرف “ما هو العرض والطول والعمق والعلو”.

المعنى الحرفي للكلمة اليونانية المترجمة “لا يستقصى” هو “لا يمكن أن يقتفى له أثر” – وبالتالي لا يمكن أن يسبر له غور. ولم ترد هذه الكلمة في العهد الجديد سوى مرة أخرى غير هذه – “ما أبعد طرقه عن الاستقصاء” (رومية 11: 33). وقد وردت ثلاث مرات في الترجمة السبعينية – الترجمة اليونانية القديمة للعهد القديم – أيوب 5: 9، 9: 10، 34: 24. فتُرجمت في الأولى، وفي الثانية “لا تُفحص”، وفي الثالثة “بدون فحص”.

“غنى المسيح الذي لا يُستقصى” – هذه خلاصة الإنجيل، بل نبعه الفياض الذي لا ينضب له معين. فلا خلاص بغير إنجيل، ولا إنجيل بغير مسيح، ولا مسيح بغير غنى لا يُستقصى. إن المسيح غنى في وداعته، غنى في قدرة فعالة، غنى في حكمة أقواله، لكنه فوق الكل غنى في محبته المضحية.

بولس حامل مصباح الإنجيل

 (3: 9)

9وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.

 يرسم أمامنا هذا العدد صورة قومٍ يحاولون السير في مسالك متعرّجة يكتنفها ظلام دامس، فيتخبّطون في ظلامها، وإذا بشخصٍ حكيم قد أشفق عليهم فسلّط نوراً كشافاً قوياً، فبدّد الظلمات وأنار الطريق، وأوضح السبيل للبصائر والأبصار. أما القوم المتخبّطون، فهم “الجميع” ـ أي كلّ البشر يهوداً كانوا أم أمميين. وأما السبيل الذي لم يكن واضحاً أمامهم فهو “سرّ” القصد الأزلي في افتداء الأمم. وأما النور الكشّاف الذي أضاء السبيل، فهو نور الإنجيل. وأما حامل النور فهو بولس الرسول.

 وردت كلمة “ينير” مرة أخرى في العهد الجديد “… وأنار الحياة والخلود بالإنجيل) (2تي 1: 10). وهي تعني أن الحقّ الذي كان غامضاً في ضوء فجر نبوّات العهد القديم، أضحى ساطعاً في نور شمس الإنجيل. ومن المحتمل أن بولس استعمل هذه الكلمة في هذه الرسالة بمعناها المتداول عند الأمم وقت كتابة الرسالة ـ أي كشف “السرّ” للمؤمنين من أعضاء جمعياتهم (أطلب تفسير 1: 9و18). إن كلمة “شركة” تعني “تدبير”. (أطلب تفسير العدد الثاني من هذا الأصحاح).

 إن لله قصداً أزلياً في خلق الجميع. لكن هذا القصد ظل “سراً” مكنوناً في فكره تعالى، ومخفيّاً عن أفكار البشر والملائكة، مدة أجيال طويلة. وفي ملء الزمان كشف الله عن هذا السرّ لأنبيائه ورسله القديسين فأوضح للجميع، أن الله الذي خلق جميع الخلائق والكائنات في المسيح، لم يخلقهم عبثاً، ولكنّه خلقهم لقصدٍ سامٍ شريف، إذ فداهم بالمسيح، ليحضرهم كاملين في المسيح، وليبلغهم إلى قياس قامة ملء المسيح. هذه هي الحكمة التي خفيت ثم أعلنت بالإنجيل.

رابعاً: الغاية القصوى من إعلان هذا السر (3: 10-13)

10لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ،

 عدد10 ـ (1) لكي يعرف عند الرؤساء والسلاطين بحكمة الله المتنوّعة. تحدّث الرسول في العدد السابق عن إطلاق نور الإنجيل الكشّاف أمام عيون جميع البشر من يهود وأمميين، لكي يستنيروا في معرفة قصد الله الأزليّ الذي ظلّ مستوراً عن البشر مدة أجيالٍ طويلة، فأعلن لهم في ملء الزمان. وبما أن البشر وحدهم ليسوا كلّ الخلائق العاقلة، ولكنّهم يؤلّفون مع الملائكة، كتلة الخلائق العاقلة، فلم يكن في إمكان الرسول أن يتغاضى عن نصيب هذه الطغمة الممتازة من نور الإنجيل الكاشف. هذا موضوع الكلام في هذا العدد.

 قال بطرس الرسول (1بط1: 12): إن فداء البشر هو موضوع أشواق الملائكة، وإنّ سرّ هذا الفداء هو الهدف الذي يوجّهون إليه جلّ محاولاتهم في سبيل استكشافه. لأن الشيء الذي يستحقّ أن يكون موضوع تفكير الله، حقيق بأن يكون موضوع تفكير الملائكة ومشتهى آمالهم. وإذا كان الله قد أراد أن ينير جميع البشر في ما هو شركة السرّ المكتوم، قد أراد أيضاً ـ تفضّلاً منه ـ أن يعرّف الملائكة بحكمته المتنوّعة التي ظهرت في تدبير هذا السرّ، وفي إخفائه، وفي إعلانه. أبان الرسول في هذا العد أربع حقائق:

 أ- وقت كشف هذا السرّ: “الآن” ـ أي في “ملء الزمان”، الذي هو عصر الإنجيل.

 ب- لمن يُذاع هذا السر: “عند الرؤساء والسلاطين في السماويات”. ورد ما يماثل هذه العبارة في 1: 21 من هذه الرسالة. وهي تعني الملائكة المتشوّقين إلى معرفة أسرار الفداء (1بط1: 12)، ومتلهّفين إلى كشف الغوامض، كما نراهم سيّما في الرؤيا الأخيرة من سفر دانيال. فلئن كانوا أوسع معرفةً واطّلاعاً من بني الإنسان، إلاّ أنهم محدودون في هذه المعرفة، فلا يتّصل بعلمهم إلاّ ما يسمح لهم الله به. ومن الطبيعي أن يهتمّ الملائكة بمعرفة “أسرار” الفداء، لأنها تعلن لهم الحكمة الإلهية التي رتّبت كلّ شيء في وقته، وفي محلّه اللائق به. فلا خطأ ولا إسراف. ومن المحتمل أن الملائكة يبغون الاطّلاع على “أسرار” فداء البشرية لأنها تُنير أمامهم السبيل فيما يجهلون من معاملات الله لهم. لأن إله البشر هو إله الملائكة. فمتى ظهرت حكمته في إحدى نواحي سياسته، كانت هذه حجّة دامغةً على حكمته الممتازة في كلّ أعماله. أما مقام الملائكة ومكانهم، فقد عبّر عنهما الرسول بقوله: “في السماويات”. قد أوضحنا المراد من هذه العبارة في تفسير 1: 3 فليطلبها القارئ هناك.

ج- أداة إذاعة هذا السرّ للملائكة: “… الكنيسة”. هذه مرة ثانية وردت فيها هذه الكلمة في رسالة أفسس، وفيما بعد نلتقي بها في نهاية هذا الأصحاح، وستواجهنا ستّ مرات أخر في مختتم الأصحاح الخامس. ومن الملاحظ أن بولس لم يستعمل هذه الكلمة في رسالة أفسس للدلالة على جماعة محلية ـ مع أنه استعملها مرتين من أربع مرات في كولوسي ـ لكنّه أراد بها هنا الكنيسة غير المنظورة الجامعة لكلّ المؤمنين في كلّ أمة وفي كلّ جيل.

عندما يتمّ عمل نعمة الله في الكنيسة، ويلبس المفديّون حُلل البرّ والبهاء والمجد، التي حاكتها لهم النعمة، ووشّحتها بدم الفادي الكريم، وطرّزتها بأشعة أنوار مجد الآب العظيم، وجمّلتها بضياء قداسة روح الله القدّوس ـ عندما يتمّ كلّ هذا ويذكر الجميع ما كانوا عليه من حقار، ودنس، وصغار، عندئذاك يدوّي في الفضاء صوتٌ جامعٌ، مترنّماً بمجد الله الذي يستحقّ كلّ إكرامٍ وسجود. لأنه صنع من التراب تبراً، ومن الفحم ماساً، ومن الأشواك ورداً وريحاناً، فيعرف الملائكة، بواسطة هذا الاستعراض الجليل الذي فيه استعلن أولاد الله، أن كلّ أعمال الله بحكمةٍ قد صُنعت.

مع أن الجمال الإلهي الذي زان به الله كلّ مؤمن، يُظهر شعاعاً من أنوار مجد نعمة الله، إلاّ أن جمال كلّ فرد على حدة، غير كافٍ في ذاته لأنه إنما يكشف جانباً ضئيلاً من هذا المجد. كذلك شأن كلّ كنيسة أو طائفةٍ إذا أخذت على حدة، فإنها غير كافية لإظهار هذا المجد كلّه. فمن الضروري لإظهار كمال هذا المجد الإلهي، أن يتجمّع كلّ المؤمنين معاً، في كلّ عصر ومصر، لكي يترنّموا بأنشودةٍ واحدة على أوتار كثيرة متباينة، لكنّها مجتمعة لتكوّن نغمةً واحدة: “مستحقّ أنت أن تأخذ المجد والكرامة”.

د- موضوع هذا الكشف أو الإعلان: “بحكمة الله المتنوّعة”. إن الكلمة اليونانية المترجمة في العربية إلى “متنوّعة” تُقال وصفاً للألوان الجميلة في باقة زهر، أو في قطعة من “الشبكة” المطرّزة والموشّاة بألوانٍ كثيرة. ولعلّ بولس كان خبيراً بهذا الفنّ الجميل لأنه كان في صناعته “خيّاماً”. والكلمة تعني حرفياً “الكثيرة الألوان”، حال كونها حكمة واحدة. ما أشبهها بالنور، بل ما أشبه النور بها! فهو جامع في ذاته السبعة الألوان التي يتكوّن منها قوس قزح. هي حكمة متنوّعة، لأنّها توحّد الوسائل المتباينة والمتشابكة، التي يستخدمها الله في تنفيذ مقاصده، وهي متمشية مع حالات البشر وحاجاتهم المتنوّعة. فهي تظهر في المنح وفي المنع. في الإعلان وفي الإخفاء، في إجراء عدالة الله وفي إظهار رحمته. فما أحكمها في التوفيق بين تعطّفات الرحمة، ومطاليب العدالة، وفي الجمع بين الأمميين واليهود في تدابير الفداء العجيب الذي بانت فيه الحكمة بأسمى معانيها (1كو1: 24 و30).

 لم ترد هذه الكلمة “المتنوّعة” في العهد الجديد سوى هذه المرة. لكن كلمة أخرى تحمل ظلاً من معناها، وردت في رسالة بطرس الرسول الأولى “نعمة الله المتنوّعة” (1بط 4: 10). وهو يريد النعمة في مظاهرها المتنوّعة ـ النعمة المخلّصة، والمعلّمة، والمعزية، والمقوية، والمسندة (تيطس2:11-13، 2كو12: 9).

 ما أحلى ما قاله غريغوري نازينازي في هذه “الحكمة المتنوّعة”: “قبل التجسّد، استطاعت الملائكة أن ترى حكمة الله في مظهر واحدٍ بسيط، لكنّهم بعد التجسّد قد رأوها في مظاهرها المتنوّعة ـ إذ خلقت من الموت حياة، وصاغت من الهوان مجداً، وضفرت من إكليل الشوك والعار، تاج مجدٍ وفخار”. يا لها من حكمة متنوّعة، صادرة عن غنى عظيم لا يُستقصى، فصاغت من جهالة الكرازة حكمةً جليلة خالدة.

11حَسَبَ قَصْدِ الدُّهُورِ الَّذِي صَنَعَهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. 12الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ

 عدد11 ـ (2) لكي يعرّف عند الرؤساء.. بقصد الدهور.

إن قوله: “قصد الدهور” تعبيرٌ عبريّ في صيغته، يُراد به “القصد الدهريّ ـ أو ـ القصد الأزليّ”، على مثال القول: “صخر الدهور” الذي هو “الصخر الدهريّ” أو “الصخر الأبديّ” (إشعيا26: 4). “قصد الدهور” هو القصد الأزليّ الذي لم يكن ارتجالياً ولا وليد ساعته ولا مؤقّتاً لكنه مدبّر منذ الأزل بتدبير محكم، يمتدّ إلى الأبد، لأنه مظهر إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. ولعلّ الرسول أراد أن يبيّن في هذا العدد أن حكمة الله المتنوّعة الألوان، ليست “متلوّنة” طبق الظروف الطارئة والأحوال المفاجئة، كما لو كانت بلا قصد معيّن، لكنّها تعمل وفق قصدٍ معيّن منذ الأزل، فتلحظه المشيئة الإلهية، وتحفّ به القدرة الإلهية حتى يُنفّذ بحذافيره. ومتى جاء الوقت المعيّن، سوف تُظهر كنيسة الأبكار المفديين، لجمهور الملائكة أمجاد الفداء العجيب الذي دبّره الله بتجسّد المسيح، وحياته، وموته على عود الصليب. هذا هو المسيح ربّنا ومخلّصنا الذي كان معروفاً في أيام جسده. فكنيسة المفديين هي مظهر مشيئة الله وفيها تتحقق مقاصده الأزلية. هذه هي الكنيسة في مجدها وجلالها لا في ضعفها وأمحالها. فلا صفحة الخلق وما تجلّى فيها من قدرة وجلال وإبداع، ولا صفحة العناية وما تعلنه من أسرار الحكمة الإلهية، بكافية لإظهار حكمة الله المتنوّعة. ولكن صفحة الفداء وحدها، التي تتجلّى فيها كنيسة المفديين عند استعلان أبناء الله، هي التي تكشف للرؤساء في الأرض وفي السماء، عن سرّ الفداء العجيب الذي دبّره الله في المسيح ونفّذه بالمسيح. لأنّ محبة الله قد تجلّت بأسمى مظاهرها “في المسيح يسوع ربّنا” (رومية8: 39).

إن قول الرسول “الذي صنعه في المسيح” قد يشير إلى تكوين هذا القصد منذ الأزل في شخص المسيح، بمعنى أن كلّ المقاصد الإلهية المتعلّقة بالخلق والفداء ـ سيّما الفداء ـ قد دبّرها الله في المسيح: فيه خلق الكلّ وفيه فدى الكلّ. وقد يشير أيضاً إلى تحقيقه في شخص المسيح وفي جسده الروحيّ الذي هو كنيسته المجيدة، المفتداة والمقدّسة بالدم الثمين. وقد تكون الإشارة منصبّةً على الأمرين كليهما ـ أي على تكوين القصد الإلهي منذ الأزل، وتنفيذه وتحقيقه على مرّ الأجيال. ويميل الدكتور كاندلش إلى الرأي الثاني، بحجّة أن الرسول أورد في هذه المناسبة اسم فادينا كاملاً “المسيح يسوع ربّنا”. ونعتقد نحن ـ مع سائر المفسّرين ـ أن المعنى الأول هو المقصود.

عدد 12 ـ

12الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ.

(3) لكي يعرّف عند الرؤساء.. بدالّتنا نحن البنين.

ردّد الرسول في هذا العدد ما سبق فقرّره في 2: 18، كي يبيّن أن دالّتنا نحن البنين ـ يهوداً كنّا أن أمميين ـ هي موضوع إعجاب الملائكة وتعجّبهم ليس في الدهر الآتي فقط بل في هذا الزمان. لأن هذه نعمة حالية يحظى بها المؤمنون في الحاضر. وقد ذكر الرسول هنا ثلاث حقائق عن هذه الدالّة:

الحقيقة الأولى: مظاهر الدالّة التي لنا نحن المؤمنين: “جراءة وقدوم”. إن “الجراءة” المقصودة هنا هي جراءة التكلّم عندما نظهر أمام الله في الصلاة ونملأ أفواهنا حججاً، إذ نفضي إليه بكل ما يُخالجنا من مخاوف وأشواق، ونعترف له بما وقعنا فيه من زلاّت، ونخاطبه بما تكنّه صدورنا من لواعج وطلبات، من غير حاجةٍ إلى وسطاء وشفعاء، لأنّ المسيح هو شفيعنا الأوحد ومحامينا الأكمل. ويُراد بـ “القدوم” حرية المثول بين يديه في كلّ ساعة ولحظة، من غير داعٍ إلى استئذان، ولا حاجة إلى انتظار ظهور صولجان الملك، كما كانت تعمل رعية ملوك الأوثان (أستير3: 2)، ولا لزوم للتقدمات والمحرقات التي كان يقدّمها رؤساء الكهنة قبل مثول الشعب في حضرة الله (كولوسي2: 15، عبرانيين10: 35، 1يوحنا2: 28، عبرانيين4: 16).

الحقيقة الثانية: طبيعة هذه الدالّة: “عن ثقة”. إن “الجراءة” التي تحدّث عنها بولس هنا، ليست جراءة المجترئ الوقح الذي لا يعبأ بشيء ولا يبال بتقدير الموقف. وأن “القدوم” الذي وصفه ليس قدوم المقتحم المتصلّف العابث بكلّ شخص، وإنما هي جراءة الواثق، وقدوم المطمئن. هي جراءة الأبناء الواثقين من محبة أبيهم، فيدنون منه وفي قلوبهم يقين، وعلى عيونهم ملامح الرجاء الوطيد، وحواليهم جو سلام وأمن، مفعم بالثقة المتبادلة (رومية8: 38). إن موضوع هذه الثقة هو المسيح نفسه، لا الإيمان به.

الحقيقة الثالثة: أساس هذه الدالّة: “بإيمانه”. هذا تعبير يوناني قديم يُراد به “الإيمان بالمسيح” أو “الإيمان في المسيح”. وقد وردت هذه الصيغة عينها في مرقس11: 22 “ليكن لكم إيمان بالله” وترجمتها الحرفية : “ليكن لكم إيمان الله” أي “الإيمان الذي في الله”. وقد يكون القصد منها الإيمان الذي يولّده المسيح، ويُنشئه، ويربّيه في قلوبنا من جهته. فهو إيمان المسيح لأنه نتيجة عمله في حياتنا (أطلب رومية3: 22، غلاطية2: 16 و20، فيلبي 3: 9، كولوسي2: 12). فنحن إذاً نلج باب ملكوت المسيح بالإيمان بالمسيح، ثم “نحيا ونتحرّك” ونتقدّم في هذا الملكوت بالإيمان بالمسيح. وغالباً تعني هذه العبارة: الإيمان الذي موضوعه المسيح، وغايته المسيح. فالمسيح هو موضوع إيماننا، وهو غايته، وهو نفسه موضوع الثقة التي تكلّم عنها الرسول في العبارة السالفة. لأنّ الثقة الحقيقية التي تولد الجراءة والقدوم لا تقوى بنظرنا إلى أنفسنا، ولا بالتأمّل في اختباراتنا الماضية، ولا بالتفكير في مؤهّلاتنا الحاضرة. ولكنها تنمو وتتزايد وتتقوّى، بالنظر إلى يسوع وحده.

13لِذَلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ الَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ.

عدد 13 ـ كلمة ختامية مجملة: بولس في شدائد إنجيل الأمم (3: 13) في رسالة معاصرة لهذه (كولوسي1: 24) قال بولس لقارئيه: “… الآن أفرح في آلامي لأجلكم..”. فإذا كانت آلام بولس لأجل رعيّته تُنشئ في قلبه فرحاً، فمن الواجب أن تُنشئ في قلوبهم رجاءً وفخراً.

وردت كلمة “أطلب” في الأصل بصيغة قوية بمعنى “أتوسّل” وهي الصيغة التي تستعمل أحياناً في الصلاة لله. فلا غرابة إذا مال واضعو الترجمة الإنجليزية المنقّحة إلى حسبانها صلاة موجّهةً إلى الله لا طلباً مقدّماً إلى المكتوب إليهم. كأنّهم أرادوا أن يفهموا كلام الرسول على هذه الصورة: لذلك أطلب من الله أن لا أكلّ في شدائدي لأجلكم”. لكن ختام الآية: “التي هي مجدكم” مضافاً إليه غرّة هذا الأصحاح، يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الكلمة “أطلب” لا تحمل صلاةً مرفوعة إلى الله، بل تتضمّن رجاءً مقدّماً إلى المكتوب إليهم فهي من نوع قوله في رومية12: 1 “أطلب إليكم أيها الأخوة”.

أما “الكلل” المشار إليه في قوله “أن لا تكلّوا” فهو وليد الفشل والملل من فرط الآلام وطولها بسبب عدم معرفة القصد منها. وقد وردت هذه الكلمة عينها في لوقا18: 1 “ولا يُملّ” وفي 2كو4: 16 “لذلك لا نفشل”.

كان المكتوب إليهم معرّضين لهذا الكلل، لحداثة إيمانهم، من جهة. ومن جهةٍ أخرى لعدم معرفتهم غاية هذه الآلام وتغافلهم عن دلالتها. هذا ما أراد الرسول أن ينبّههم إليه بقوله لهم: “شدائدي التي هي مجدكم”. فبدلاً من أن تحرّض فيهم عوامل الفشل، ينبغي أن تولّد فيهم بواعث الشكر والفخر، لأنها تاج إكليلهم ومجد فخارهم. فالأشياء الزهيدة تُنال بأسهل الطرق وأهون الوسائل. لكنّ الأشياء الثمينة لا تُنال إلاّ باقتحام الأهوال وركوب متن الأخطار. ولا بدّ للشهد من إبر النحل. فالإسفنج موجود بكثرة على سطح الماء. لكن من طلب اللآلئ عليه أن يغوص في أعماق اللّجج. وبما أن إنجيلهم كلّف حامله كلّ هذه المتاعب والمشاقّ، فإن في هذا برهاناً جليّاً على أنه إنجيل كريم، وعلى أنّهم هم قوم لهم قيمة في نظر الله، لدرجةٍ استحقّوا فيها كلّ هذه التضحيات والآلام. وكم من ألمٍ يبعث في النفس خير أمل، فيقتل فيها شرّ ملل.

يُعتبر الفصل الذي مرّ بنا في هذا الأصحاح، شرحاً وإيضاحاً لموقف الرسول بالنسبة للمكتوب إليهم، كما أجمله في قوله: “أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم” (3: 1). لكنّه في سبيل إيضاح هذه الحقيقة أفضى إلينا ببيانٍ عظيم وبلاغٍ خطير، عن فلسفة التاريخ المقدّس، فكشف لنا عن سرّ الدهور “الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح”.

في المرحلة التي مرّت بنا من هذه الرسالة، رأينا عمل المسيح في مصالحة اليهود بالأمم، وضمّهما معاً في عهد الفداء. وها قد شرع الرسول يستعرض معاملة الله للبشرية جمعاء، معلناً أن قصد الله، واحدٌ في كلّ أجيال الدهور، وأن هذا القصد مدرسة جليلة يتعلّم فيها الجميع ـ حتى ملائكة السماء.

صلاة بولس الثانية لأجل المكتوب إليهم

حلول المسيح في القلب وبعض نتائجه: القوة والإدراك وكمال الملء

(3: 14-21)

مرتين في هذه الرسالة رأينا بولس الرسول مصلّياً لأجل المكتوب إليهم: المرة الأولى في 1: 16-23، والثانية في ختام هذا الأصحاح، وبها يبلغ الرسول ذروة هذه الرسالة فيختتم القسم التعليميّ منها، ليستهلّ القسم العمليّ، بقوله “فأطلب إليكم أنا الأسير”. في الصلاة الأولى يطلب بولس لأجل المكتوب إليهم أن يُعطوا معرفةً وحكمةً. وفي الصلاة الثانية طلب لأجلهم قوةً وإدراكاً وملئاً كاملاً. في قلب كلّ صلاةٍ منهما، طلبٌ رئيسيّ: – في الأولى “روح الحكمة” (1: 17)، وفي الثانية “قوّة الروح” (3: 16): في الأولى طلب الرسول لأجلهم “معرفة الله”، وفي الثانية طلب “معرفة المسيح”. الفكرة الرئيسية في الصلاة الأولى هي: “نحن في المسيح”، وفي الصلاة الثانية: “المسيح فينا”. قياس الطلبات التي طلبها بولس في الصلاة الأولى هو: “حسب عمل شدّة قوّة الله” (1: 12)، وقياس الطلبات المتضمّنة في الصلاة الثانية هو: “بحسب غنى مجد الله”… “أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا” (3: 16و20).

يجمل بنا في المقابلة بين هاتين الطلبتين، أن نذكر أوجه الشبه الرباعية في كلّ منهما:

(1) الصلاة في كلّ منهما موجّهة إلى الله الآب: “أبو المجد” (1: 17)، “أبي ربّنا يسوع المسيح” (3: 14). (ب) تتضمن كلّ منهما طلبة بنوال عطيّة الروح القدس: “……كي يعطيكم… روح الحكمة والإعلان في معرفته” (1: 17)، “لكي يعطيكم أن تتأيّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن” (3: 17). (ج) دائرة عمل الروح في كلّ منهما واحدة: فهي في الصلاة: الأولى “عيون الأذهان” (1: 18) وفي الصلاة الثانية: “الإنسان الباطن” (3: 16). (د) الغاية القصوى في كلّ منهما تكاد تكون متشابهة: فهي في الصلاة الأولى: “لتعملوا ما هو رجاء دعوته” (1: 18)، وفي الصلاة الثانية: “حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين… وتعرفوا” (3: 18).

فالمعرفة والقوة مرتبطتان تمام الارتباط في هاتين الطلبتين فالصلاة لأجل “معرفة القوة المقتدرة” (1: 19) تتطوّر فتصبح صلاةً لأجل “نوال القوة المقتدرة” (3: 16)، فتُمسي وسيلة يصبح الإنسان بها قادراً على أن يعرف (3: 19). فالمعرفة تساعد على القوة والقوة تعين على المعرفة.

تتضمّن رسائل بولس التي كتبت أثناء سجنه في رومه: فيلبي وكولوسي، وأفسس، أربع صلوات رئيسية رفعها الرسول لأجل المكتوب إليهم: الصلاة الأولى نجدها في الأصحاح الأول عن رسالة فيلبي، والصلاة الثانية في الأصحاح الأول من رسالة كولوسي، والصلاة الثالثة في الأصحاح الأول من رسالة أفسس، والصلاة الأخيرة هي التي نحن بصددها الآن.

موضوع الصلاة الأولى (فيلبي1: 9-11): المحبة الفطنة المميزة.

وموضوع الصلاة الثانية (كولوسي1 :9-12): السلوك النيّر.

وموضوع الصلاة الثالثة (أفسس1: 15-23): الإنارة الروحية.

وموضوع الصلاة التي نحن بصددها (أفسس3: 14-21): الملء الإلهي.

حسناً قال الدكتور الكساندر مكلارن في هذا الصدد: لم يرتقِ بولس في كتاباته إلى الذروة التي بلغها في صلواته. وهو لم يبلغ في كلّ صلواته تلك الذروة التي بلغها في هذه الصلاة المؤلّفة من طلبات متدرّجة.

فلا جدال في أن هذه الصلوات الأربع، من أهم الصلوات التي رفعت إلى عرش النعمة على ممر الدهور. وإذا جازت المفاضلة بينها، فإن أعظمهنّ هي الأخيرة، لأنها تتضمن الشيء الكثير من محتويات سابقاتها. ولأنّ موضوعها هو الذروة العليا التي يمكن أن يبلغها أفضل مصلّ. أفليس بكافٍ للمصلّي أن يبلغ إلى قياس ملء الله. وحلول المسيح في قلبه، وتأييد قوّة الروح القدس له في الإنسان الباطن؟! إنّ مقام هذه الصلاة بالقياس إلى رسائل بولس، كمقام صلاة المسيح المدوّنة في يوحنّا 17، بالقياس إلى البشائر الأربع.

تنقسم هذه الصلاة في مبناها ـ أما معناها فلا يقبل التقسيم والتجزئة إلى ثلاث أقسام رئيسية:

أولاً: مقدمة الصلاة (3: 14و15):

14بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، 15الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ.

(1) موقف المصلّي ـ نفسياً: “بسبب هذا” (3: 14أ).

(2) موقف المصلّي ـ جسدياً: “أحني ركبتيّ” (3: 14ب).

(3) المصلّى إليه في نسبته إلى المسيح: (3: 14ج).

(4) المصلّى إليه في نسبته إلى عشائر السموات والأرض: (3: 15).

ثانياً: غرض الصلاة: “لكي يمتلئوا إلى كلّ ملء الله” (3: 16-19).

(1) طلبات إعدادية لهذا الغرض (3: 16-19 أ):

ـ أ ـ القوة الإعدادية لهذا الغرض (3: 16و17):

16لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، 17لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ،

(1) تأييدهم بالقوة روحه في الإنسان الباطن (3: 16).

(2) حلول المسيح بالإيمان في قلوبهم (3: 17).

ـ ب ـ المعرفة الإعدادية لهذا الغرض: (3: 18و19 أ):

18وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، 19وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ.

(1) “حتى تستطيعوا أن تدركوا… ما هو الغر ض…” (3: 18).

(2) “وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة” : (3: 19 أ).

(3) تحقيق هذا الغرض: (3: 19 ب وج):

 (أ) حقيقة هذا الغرض: “…لكي تمتلئوا” (3: 19ب).

 (ب) قياس هذا الغرض: “… إلى كلّ ملء الله” (3: 19ج).

ثالثاً: نشيد التجميد: (3: 20و21):

20وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، 21لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.

 (أ) موضوع تجميدنا ـ “المسيح..” (3: 20).

 (ب) أساس ثقتنا في تمجيدنا ـ “هو القادر” (3: 20).

 (ج) علّة تمجيدنا: الله ـ إظهار مجده في كنيسته، وفي رأسها الأعلى.

 (د) مدى تمجيدنا له “إلى جميع أجيال دهر الدهور” (3: 21).

أولاً: مقدمة الصلاة:

14بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ

 عدد 14 ـ (1) موقف المصلي ـ نفسياً: “بسبب هذا” (عدد 14 أ).

 “بسبب هذا”: تعرّفنا هاتان الكلمتان عن موقف بولس الرسول إزاء المكتوب إليهم. وهما ترجعان بنا إلى كلمتين مثلهما وردتا في غرة هذا الأصحاح: “بسبب هذا”. فما هو هذا الشيء الذي أشار إليه بولس بقوله: “هذا”؟ يتّضح لنا “هذا” الأمر، متى رجعنا إلى الأصحاح السابق، وذكرنا الموضوع الذي كان يشغل ذهن الرسول هنالك ـ ألا وهو نعمة الله المتفاضلة على الأمم، “الذين كانوا قبلاً أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لهم، وبلا إله في العالم. ولكن الآن في المسيح يسوع، صاروا قريبين بدمه الثمين”.

 “فبسبب هذه” النعمة التي أجزلها الله على الأمم، جاعلاً بولس أداةً صالحةً لإبلاغها إليهم عن طريق الكرازة بالإنجيل للأمم ـ أو بإنجيل الأمم، صار لزاماً على بولس أن يحني ركبتيه أمام الله، طالباً منه أن يملأ الأمم بمعرفة هذا السرّ الذي كان مخفياً فأعلن، وأن يتأيّدوا بالقوة بالروح في الإنسان الباطن، حتى يمتلئوا إلى كلّ ملء الله.

 (2) موقف المصلّي ـ جسدياً: “أحني ركبتيّ” (عدد 14ب).

 يمكننا أن نقدّر رهبة هذه العبارة وجلالها، متى ذكرنا أنها نادرة الورود في العهد الجديد. فالظاهر أن القيام للصلاة كان “الموقف” المألوف في ذلك العصر، بدليل قول المسيح: “ومتى صلّيت فلا تكن كالمرائين. فإنهم يحبّون أن يصلّوا قائمين في المجامع” (متى6: 5)، وقول البشير “أما الفريسيّ فوقف”.. “وأما العشّار فوقف” (لوقا18: 11و13). ولكن الركوع كان يُلجأ إليه للتعبير عن التأثّر العميق في مواقف دقيقة خطيرة، كما فعل مخلّصنا في بستان جسثيماني حيث “انفصل عن التلاميذ نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلّى”. وكذلك فعل بولس عند توديعه قسوس الكنيسة التي وجّهت إليها هذه الرسالة، حين “جثا على ركبتيه مع جميعهم وصلّى” (أعمال20: 36). وبمقابلة ما جاء في لوقا22: 41 “جثا على ركبتيه وصلّى” بما جاء في مرقس14: 35 “وخرّ على الأرض وكان يصلّي” وبما جاء في متى 26: 39 “ثم تقدّم قليلاً وخرّ على وجهه وكان يصلّي”، جاز لنا أن نستنتج أن جبهة الساجد كانت تلامس الأرض في الصلاة، دليلاًَ على التخشّع التام. ويقول المؤرّخون إنّ الكنيسة الأولى منعت السجود على هذه الصورة في يوم الربّ بحجّة أن يوم الربّ يوم فرحٍ وبهجة، فمن المناسب أن يُمتنع فيه التذلل.

 ويلوح لنا، أن بولس اختار السجود “موقفاً” له في صلاته هنا، لخطورة الموضوع الذي جعله هدفاً لصلاته. ولعلّه تحصّن بما جاء في إشعياء45: 23، فاقتبسه في رومية14: 11، وفيلبي2: 10، وعمل بموجبه هنا، :”بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع. إنه لي تجثو كلّ ركبةٍ ويحلف كلّ لسانٍ”.

 ومع أن حالة المصلّي الجسدية لا تدلّ بالضرورة على حالته الروحية، إلاّ أن الجسد والروح ليسا عدوّين متنازعين، لكنّهما صديقان متلازمان وأخوان متآخيان، فما يؤثّر في أحدهما يكون له أكبر الأثر في أخيه.

 (3) المصلّى إليه في نسبته إلى المسيح: “لدى أبي ربّنا يسوع المسيح” ـ هذا تعبير يُراد به إظهار صلة الله الآب بالمسيح في عهد الفداء، وبالتالي صلته بنا نحن المؤمنين في هذا العهد المقدّس. فالمسيح موصوف هنا، باعتبار كونه وسيطنا وشفيعنا.

عدد:15 :

15الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ.

ـ (4) المصلّى إليه في نسبته إلى كلّ عشيرةٍ في السموات وعلى الأرض: (3: 15).

 الكلمة اليونانية المترجمة “عشيرة” (باتريا) في هذا العدد، هي من ذات الأصل المشتقّة منه كلمة “اب” (باتر) الواردة في العدد السابق، وهي مجانسة لها في اللّفظ، ويجوز أن تترجم كلّ العبارة حرفياً إلى: “لدى الآب الذي منه تسمى كلّ أبوّة في السموات وعلى الأرض”. فالمستفاد من هذا، أنّ الأبوّة الإلهية هي النموذج الأساسي والمثل الأعلى لكلّ أبوّة في السموات وعلى الأرض. فليس بكافٍ أن الأبوّة الإلهيّة اتّحدت كلّ المؤمنين معاً وصاغت منها أخوّة واحدة، لكنّها اتّحدت عشائر السموات بعشائر الأرض وصاغت منهم عشيرةً واحدة. كلّ هذا تمّ في المسيح، كما قال بولس في موضع سابق “لتدبير الأزمنة ليجمع كلّ شيءٍ في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك ـ المسيح” (1: 10، كولوسي1: 20).

ويجمل بنا هنا أن نذكر المواضيع التي ذكر فيها الرسول “أبوّة الله” في رسالة أفسس. فقد أشار بولس إلى أبوّة الله سبع مرات أخر في هذه الرسالة: “سلام من الله أبينا وربّنا يسوع المسيح” (1: 2)، مباركٌ الله أبو ربّنا يسوع المسيح” (1: 3)، “أبو المجد” (1: 17)، “في روح واحدٍ إلى الآب” (2: 8)، “إلهٌ وآبٌ واحد” (4: 6)، “في اسم ربّنا يسوع المسيح لله الآب” (5: 20)، “محبة بإيمان من الله الآب” (6: 23).

لا أبوّة حقيقية خارج المسيحية، لأنّ المسيحية هي الديانة الوحيدة التي أعلنت للبشر أبوّة الله بصورة قاطعة صريحة: فلا غرابة إذا كانت أجلّ صلاةٍ في المسيحية، هي تلك التي مطلعها: “أبانا الذي في السموات”.

ثانياً: غرض الصلاة (3: 16-19)… “لكي تمتلئوا”

 عدد 16:

16لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ،

 ـ (1) طلبات إعدادية لهذا الغرض (3: 16-19).

 ـ أ ـ القوة الإعدادية لهذا الغرض (3: 16و17):

 (1) تأييدهم بالقوة روحه في الإنسان الباطن (3: 16):

 يحدّثنا الرسول في هذا العدد عن خمس حقائق:

 ـ أ ـ مصدر القوّة : “لكي يعطيكم”، ـ ب ـ قياس القوة: “بحسب غنى مجده”، ـ ج ـ عمل القوة: “أن تتأيّدوا”، ـ د ـ معدن القوة: “بالقوة روحه”، ـ هـ ـ دائرة فعل القوة: “في الإنسان الباطن”.

أ ـ مصدر القوّة: “لكي يعطيكم” ـ يستفاد من هذه العبارة، أنّ القوة الروحية صادرة “من فوق من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظلّ دوران”. فهي ليست نتيجة انفعال بشري، ولا هي وليدة إيحاء نفسانيّ ذاتيّ. وإنما هي هبة من الله وعطيّة جزيلة منه تعالى. حقاً قال المسيح في هذا الصدد: “فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه”.

 ب ـ قياس القوّة: “بحسب غنى مجده” ـ إن “مجد الله” هو مظهر جلال ذاته وكمالاته، و”غنى مجده” هو ذلك المجد في أكمل صوره وأجمل مظاهره، وأجلّها، وأرفعها، وقد أشار بولس إلى “غنى” هذا المجد في رسالةٍ أخرى معاصرة لهذه، حين قال: “فيملأ إلهي كلّ احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع” (فيلبي4: 19).

 قد يُتاح لنا أن نعرف شيئاً عن معنى “المجد” متى قابلناه بالنعمة. فالنعمة هي المجد في البزرة، والمجد هو النعمة في البلوغ. فالله الذي هو غنيّ في النعمة، غنيّ أيضاً في المجد. وإذا كنّا غير قادرين على أن نحيط علماً بغنى نعمته، فكم بالحريّ يكون إعجابنا بغنى المجد!! هذا هو قياس العطايا التي طلبها بولس لأجل المكتوب إليهم. فما أحكمه حين يكتب. وما أحكمه حين يصلّي. فقد بلغ في طلبته هذه أقصى المراد من قول الكتاب: “فغر فاك فأملأه”. لأنه لم يطلب لهم مجرّد ملء، بل طلبه لهم في أعلى قياس “حسب غنى مجد الله”.

 ج ـ عمل القوّة: “أن تتأيّدوا” ـ الكلمة اليونانية المترجمة “تتأيّدوا” تعني القوة والنشاط والثبات (لوقا1: 80، 2: 40، 1كو16: 13) فقد طلب بولس لأجل المكتوب إليهم أن يمتلئوا قوةً وشجاعة كيلا يخافوا ولا يتهيّبوا الاختبارات الروحية الراقية التي تتهيّبها الطبيعة البشرية عادةً، سيّما عند حلول الإله القدّوس في القلب، وسكنه فيه على الدوام، وتسلّطه على جميع حواسّ الإنسان.

 د ـ معدن القوّة: “بالقوّة بروحه”. إن القوة المقصودة هنا، هي القوة الروحية التي هي وليدة حلول روح الله القدوس في القلب: “ولكنكم ستنالون قوّة متى حلّ الروح القدس عليكم” (أعمال 1: 8). إنّ للروح القدس مقاماً فريداً في هذه الرسالة. فتأييده لنا في الإنسان الباطن يجعل حلول المسيح في قلوبنا مستديماً. فهو “قائمقام” المسيح في القلب. ففي رسالة رومية8: 9 يقول بولس: “إن كان روح الله ساكناً فيكم”، بينما نسمعه يقول في العدد التالي: “إن كان المسيح فيكم”! فالروح (عدد9) حالّ محلّ المسيح (عدد10) (راجع أقوال المسيح في يوحنا14: 16و18و21و23، 16: 7، 17: 11). فمع أنّ المسيح يقول لتلاميذه إنه “ليس بعد معهم في العالم”، وأنه “خير لهم أن ينطلق” إلاّ أنه قال في موضعٍ آخر “إنه يأتي إليهم” في شخص روحه القدّوس الذي سيحلّ في قلوبهم، ويأخذ مما له ويخبرهم. وفي الرسائل السبع التي يستهلّ بها سفر الرؤيا، نسمع صوت المسيح في نبرات الروح للكنائس.

 هـ ـ دائرة فعل القوّة: “في الإنسان الباطن” ـ الكلمة المترجمة “في” تعني: “في أعماق” كأن فعل الروح يتخلّل كلّ الأركان في أعماق الإنسان الباطن. ويُراد بـ”الإنسان الباطن”، الطبيعة الإلهية الجديدة التي تخلق في المؤمن بعد التجديد (رومية7: 22، 2كو4: 16)، ومع أنّ المراد “بالإنسان الباطن” بوجهٍ عام، الإنسان الروحيّ الغير المنظور، إلاّ أنها تعني ـ في رسائل بولس بنوعٍ خاص ـ الإنسان الجديد.

عدد 17:

17لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ،

ـ (2): حلول المسيح بالإيمان في قلوبهم (3: 17):

 الطلبة السابقة ممهّدة لهذه الطلبة، كما أن هذه الطلبة ممهّدة للطلبة التالية. فتأييد المؤمنين بالروح القدس في إنسانهم الباطن، ممهّد لحلول المسيح بالإيمان في قلوبهم.

 في هذا العدد تتجلّى أمامنا ثلاث حقائق: (أ) حلول المسيح، (ب) موطن حلول المسيح، (ج) وسيلة المتمتّع بحلول المسيح.

 (أ) الحقيقة الأولى: “حلول المسيح في القلب”: من المهمّ أن نذكر أن المكتوب إليهم ـ وبالتالي المصلّى لأجلهم ـ أمميون. وقد ينفعنا أن نذكر أن الرسول حدّثهم فيما سبق من هذه الرسالة (1: 13، 2: 10) عن حقيقة كونهم “في المسيح”، فمن الطبيعي أن يريهم في هذه الآية، الحقيقة الأخرى المكمّلة لها: وهي ـ حلول “المسيح فيهم”.

 لقد قرر الرسول في رسالته إلى كولوسي (1: 27)، أنّ حلول المسيح في قلوب الأمميين هو منتهى العجب في قصد الله الأزليّ: “الذين أراد الله أن يعرّفهم ما هو غنى مجد هذا السرّ في الأمم الذي هو المسيح فيكم رجاء المحبّة”. فحلول المسيح في قلب المؤمن، في هذه الحياة، هو رجاء المجد في الخلود.

 وردت كلمة: “المسيح” ـ في الأصل ـ معرّفة بأداة التعريف، كعادة الرسول في هذه الرسالة، فلعلّه أراد “مسيا” النبيّ، والكاهن، والملك (1: 10و12و20، 2: 5و13، 3: 4و18و19، 4: 7و12و13و20، 5: 2و5و14و23و25، 6: 5). إنّ الروح القدس الحالّ في قلب المؤمن يشهد له باستمرار، بحلول المسيح الدائم فيه، فيمتلئ المؤمن شجاعةً وثباتاً وإقداماً لعلمه أن المسيح حيّ في كلّ حين، “فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام”.

 إن كلمة “يحلّ” تعني الاستقرار المتسمرّ، والسكن الدائم. فهي مجانسة للكلمة التي ترجمت إلى “مسكن” في 2: 22 من هذه الرسالة. وقد وردت في 2بطرس 3: 13 بهذا المعنى عينه: “ولكننا بحسب وعده ننتظر سمواتٍ جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البرّ”.

 (ب) الحقيقة الثانية: موطن حلول المسيح: “في قلوبكم”. هذه العبارة مجانسة لقوله: “الإنسان الباطن” في العدد السابق. وإن شئتَ قلْ، إن القلب هو مركز الدائرة في الإنسان الباطن، وهو عرشه الأعلى، الذي يتبوّأه المسيح نبياً، وكاهناً، وملكاً. وبما أنّ القلب، في لغة الكتاب، هو مركز الفهم، والشعور، والعزيمة، والوجدان، فمن الواجب إذاً أن نحبّ المسيح بالعقل، والعاطفة، والإرادة، والضمير (تكوين20:5، تثنية4: 39 وإشعياء6: 10، مرقس11: 23، لوقا21: 14، أعمال11: 23، رومية5: 3، 1كو2: 9، يعقوب1: 26، 1يوحنا3: 20، أفسس1: 18). لا يكفي أن يكون المسيح في عقولنا، بل يجب أن يكون في قلوبنا. ولا يكفي أن يكون في أيّ مكانٍ من قلوبنا، بل على عرشها.

 (ج) وسيلة التمتّع بحلول المسيح: “بالإيمان”. هذا هو الإيمان الحيّ، المتجدّد كلّ يوم، الذي هو وسيلة تبريرنا، وتقديسنا، وتمجيدنا. ليس هذا إيمان من يرى المسيح مرة فيكتفي بهذه اللّمحة كمن يلقي نظرةً على صورةٍ جميلة ثم يتحوّل عنها، وإنما هو إيمان النظر المستديم، والتملّي المستمر بطلعته البهيّة، فلا تتحوّل عنه عين الإيمان لحظةً. وبقدر ما يكون إيماننا بالمسيح مستمراً، يكون حلوله في قلوبنا مستديماً. هنا ينطبق القول الجليل: “بحسب إيمانك يكون لك”. إن هذا الإيمان هو الثقة التي بها نقبل المسيح، وندخله إلى قلوبنا بالطاعة والولاء له (يوحنا14: 21و23 ورؤيا3: 14). هذا هو الإيمان الشخصيّ، العملي، الفعّال.

 يميل بعض المفسّرين إلى اعتبار كلمة: “في المحبة” التي في العدد الآتي جزءاً من هذا العدد. ونميل نحن إلى إبقائها في موضعها.

 عدد 18:

18وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ،

 ـ ب ـ المعرفة الإعدادية لهذا الغرض (3: 18و19 أ):

 (أ): إدراك العرض والطول والعمق والعلوّ (3: 18):

 قرّر الرسول في هذه الآية ثلاث حقائق متعلّقة بالمؤمنين: الحقيقة الأولى: مؤهّلاتنا: “وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبة”. الحقيقة الثانية: معيّتنا: “مع جميع القديسين”. الحقيقة الثالثة: دراستنا: “حتى تستطيعوا أن تدركوا ما هو الطول…”.

 الحقيقة الأولى ـ مؤهّلاتنا: “وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبة”. لا يمكننا أن ندرك شيئاً عن المحبة إلاّ إذا كنّا متأصّلين ومتأسسين في المحبة. فالمحبة درس عمليّ لن يقوى على تفهّمه إلاّ من يمارسه عملياً. وهي سلّم رفيعة لن يبلغ الإنسان منها درجةً عليا إلاّ بعد اجتيازه الدرجة التي تحتها. وهي مدرسة راقية لن يفهم الإنسان درساً منها إلاّ بعد تمكّنه من الدروس السابقة. وقد استعمل الرسول كلمتين للتعبير عن هذا التمكّن: “متأصّلون” “ومتأسّسون”. الكلمة الأولى مستعارة من النبات، والثانية مستعارة من البناء. فالمستفاد من الكلمة الأولى، هو: أنّ المؤمنين أشجار حية. والمستنتج من الكلمة الثانية: أنهم “هيكل حيّ” (2: 22). الاستعارة الأولى: “متأصّلون” يدعمها ما جاء في مزمور1: 3، 92: 12، 13 وأرميا17: 8 عن المؤمن: “يكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه” “الصديق كالنخلة يزهو كالأرز في لبنان ينمو مغروسين في بيت الربّ في ديار إلهنا يزهرون” “يكون كشجرةٍ مغروسة على مياه وعلى نهر تمدّ أصولها ولا ترى إذا جاء الحرّ ويكون ورقها أخضر وفي سنة القحط لا تخاف ولا تكفّ عن الإثمار”. والاستعارة الثانية: “متأسّسون” يدعمها ما جاء في كولوسي2: 7 “متأصّلين ومبنيين فيه وموطّدين في الإيمان”، وكولوسي1: 23 “إن ثبتم على الإيمان متأسّسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل”.

 أما التربة التي فيها يتأصّلون وعليها يتأسّسون، فظاهرة في قوله “في المحبة”. ولقد تساءل الأسقف موليه عمّا إذا كانت هذه محبة الله للناس أم محبة الناس لله؟ فالتمس الجواب من ألفورد الذي قال: “هي المحبة بوجهٍ عام”. فهي دائرة واحدة: نصفها الأول محبّة الله للناس، ونصفها الثاني محبة الناس لله. أو هما دائرتان متراكزتان، الدائرة الداخلية هي محبة الله للناس، والدائرة الخارجية هي محبة الناس لله، فالأولى أساس الثانية وعلّتها، والثانية مظهر الأولى وثمرتها. غير أن المحبة الأولى هي أقرب إلى قصد الرسول من الثانية (1: 4)، فهي غذاء الحياة الروحية، وقوامها، وتاج مجدها، وإكليل عمادها.

 إذا كنا متأصّلين ومتأسسين في المحبة، فنحن متأصّلون ومتأسسون في المسيح لأن “محبة الله” أُعلنت لنا “في المسيح يسوع ربّنا” (رومية8: 39).

 هذه هي المؤهّلات التي على المؤمن أن يكون حاصلاً عليها إذا أراد أن يدرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو. ولن يحصل على هذه المؤهّلات إلاّ بالإيمان بالمسيح (عدد 17). فالاختبار المتضمّن في غرّة هذا العدد (عدد 18)، مؤسس على الاختبار الموصوف في العدد السابق (عدد 17)، وممهّد للاختبار المذكور في نهاية هذا العدد (عدد18).

 (ب) الحقيقة الثانية: معيّتنا: “مع جميع القديسين”. في هذا العدد، ينظر الرسول إلى المؤمن، لا كأنه فرد مستقلّ بذاته، بل باعتبار كونه عضواً في جسم حيّ، بل جزءاً لا يتجزّأ من جسد المسيح الحيّ، الذي هو الكنيسة (رو12: 5). فمع أن كلّ عضو في الجسم، يقوم بنصيبه في إدراك شيء من العرض والطول والعمق والعلوّ، إلاّ أن نصيبه وحده من هذا الإدراك محدود غاية المحدودية، فلا يُتاح له أن يرى غير جزءٍ يسير من كلّ جانب. فلن يمكنه أن يدرك كلّ “الحقّ” من جميع نواحيه إلاّ إذا ضمّ ما عرفه هو، إلى ما عرفه سائر القديسين، سواء أكانوا عائشين على هذه الدنيا ـ فيتّصل بأشخاصهم، أم مستريحين في عالم الخلود فسجّلوا اختباراتهم في بطون الكتب والأسفار. إنّ “الحقّ” السماوي كقطعة من “الماس” لها أوجه كثيرة ولكلّ وجهٍ جمال خاص، وإشعاع ممتاز، فلا يمكن أن يلمّ المرء بجمال الماسة الكامل، إلاّ إذا نظر إليها من جميع وجوهها. وبما أن “الحقّ الإلهيّ” أوسع من أن يحيط به إنسان فرد، مهما يكن فذاً، فمن الضروري له أن يغني موسوعة معلوماته، بمعلومات الآخرين، وأن يخصب تربة اختباراته بخلاصة اختبارات “جميع القديسين”.

 قصد الرسول بكلمة “قديسين” ما أراده بها في غرّة هذه الرسالة، فأطلب تفسيرها هناك.

 من هذا يتبيّن لنا أن معرفة المقاصد الإلهية، حقٌّ يملكه جميع المؤمنين معاً (كولوسي1: 26)، وأن جميع القديسين كتلة واحدة، حية، لا تتجزّأ.

 (ج) الحقيقة الثالثة: دراستنا: “حتى تستطيعوا أن تدركوا… ما هو العرض والطول والعمق والعلوّ”. الكلمة المترجمة “يدرك” تعني في اللغة الأصلية الفهم العقليّ المبنيّ على التحقيق والتمييز بالبصيرة. وقد وردت في أعمال4: 13، 10: 34، 25: 15. إنّ هذا الإدراك يستلزم قوة خاصة ممهّدة له، كما يتبيّن من القول “حتى تستطيعوا”، وكما جاء في العدد السابق “أن تتأيّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن”. هذا إدراك روحيّ لا يقوى عليه إلاّ الروحيّون المستنيرة عيون أذهانهم.

 أما موضوع هذه الدراسة التي على المؤمنين أن يدركوها، فظاهر في قوله: “ما هو العرض والطول والعمق والعلو”. فما هو هذا الأمر الذي على المؤمنين أن يدركوا عرضه، وطوله، وعمقه، وعلوّه؟ يعتقد الدكتور أرمتاج روبنسون أن موضوع هذه المعرفة هو تدبير الفداء الذي سبق الرسول فذكره في الأصحاح الأول من هذه الرسالة: “لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين”. فقوله: “ما هو رجاء دعوته” يعين الطول. وقوله: “غنى ميراثه” يعين العرض. والعبارة: “نحونا نحن المؤمنين” تفيد العمق. وقوله: “ما هي عظمة قدرته” يُرينا العلو. ولكننا نعتقد مع غالبية المفسّرين. أن موضوع هذه المعرفة، هو ما ذكره بولس في العدد التالي: أعني المحبة الإلهية التي عبر عنها الرسول بقوله : “محبة المسيح الفائقة المعرفة”. هذه هي المحبة التي سبقت هذا القول، ولحقته، فلا غرابة إذا كان الرسول لم يُعد ذكرها بعد قوله: “أن تدركوا مع جميع القديسين”، لا تغافلاً ولا تجاهلاًَ، بل لأن حذف المعلوم جائز.

 ويقول الدكتور جراهام سكروجي متسائلاً: “هل يقصد الرسول كنيسة المسيح ـ التي هي هيكل الله؟ إن كان الأمر كذلك، فإن عرضها هو جميع الأمم التي تنضوي تحت لوائها، وطولها هو قصد الله السرمديّ من جهتها، وعمقها هو مهاوي الشرّ والرذيلة التي منها اختيرت وأخذت، وعلوّها هو الأمجاد السماوية التي رتّبها الله لها. أم هل يعني بولس تدبير الله الفدائي، باعتبار كونه قصداً شاملاً، وأزليّاً، مغيّراً، وفعّالاً؟ غالباً جداً يقصد الرسول “محبة الله الفائقة المعرفة”. وعلى هذا الاعتبار نحسب أن عرض المحبة هو سعتها ورحابتها حتى ضمّت العالم بين ذراعيها: “هكذا أحبّ الله العالم”. وطولها، هو مدى صبرها وطول أناتها على الخطاة حتى يبرّروا، ويتقدّسوا، ويتمجّدوا. فهي محبة ممتدّة من الأزل إلى الأبد: “محبة أبدية أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة”. وعمقها هو مقدار تنازلها إلى مهاوي الأرض السفلى، حيث طوّحت الخطيّة بالناس في ظلمات الشرّ واليأس. وليس في إمكان أحدٍ أن يقدّر عمق اتّضاع محبة المسيح إلاّ إذا استطاع ـ وهيهات ـ أن يقيس المسافة الشاسعة الممتدّة بين العرش… والمذود، بل بين العرش… والصليب. وقد يُقاس عمق محبة الله بمقدار البذل الذي تكبّدته: ” هكذا أحبّ الله… حتى بذل”. وأما علوّها فهو ذات عمقها من حيث القياس ـ إذا صحّ أن لهذه المحبة قياساًَ. فمن المعلوم أن عمق الشيء هو علوّه، إلاّ أن العمق ينظر إليه من أعلى إلى أسفل، وأما العلو فينظر إليه من أسفل إلى أعلى. فعلوّ المحبة الإلهية يُقاس بمقدار الفارق العظيم بين الحالة التعيسة التي كان عليها الخطاة قبل أن تدركهم المحبة، وبين الحالة المجيدة السامية التي رُفعوا إليها بعد أن انتشلتهم المحبة من وهدة الشرّ والرّذيلة والهلاك.

 اهتمّ كثير من المفسّرين الأقدمين بالتعليق على هذه الآية: فسفريانوس (في القرن الرابع) رأى صورة الصليب مرتسمةً عليها ـ لاهوت المسيح هو العلو، وناسوته هو العمق، وخدمة الكنيسة التبشيرية في اتّساعها وطولها تُشير إلى العرض والطول. وإيرونيموس (في القرن الخامس) حسب أن العلوّ يعني الملائكة الأطهار. والعمق يعني الملائكة الساقطين، والطول يعني جمي البشر الصاعدين على درجات التقدّم إلى الكمال، والعر ض يعني جميع البشر الهابطين إلى دركات الشرّ والضّلال، بانياً هذه العبارة الأخيرة على قول المسيح: “واسعٌ هو الباب ورحبٌ الطريق الذي يؤدّي إلى الهلاك كثيرون هم الذين يدخلونه” (متى7: 13). وفوتيوس (في القرن التاسع) يعتقد أن الرسول يقصد “سرّ الخلاص المجانيّ بالمسيح للأمم، ولسائر الجبس البشريّ. فهو طويلٌ لأنه مقضيّ به منذ الأزل، وعريضٌ لأنه يضمّ الجميع، وعميقٌ لأنّ المسيح نزل بسببه إلى أقسام الأرض السفلى، وعالٍ لأن المسيح صعد بعد إتمامه إلى السموات العليا.

 معرفة محبة المسيح الفائقة المعرفة

 (3: 19)

19وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ.

أ ـ نوع المعرفة: إن المعرفة المقصودة هنا، هي من طراز جديد راقٍ، ذات مستوى روحيّ سام. هي القوة المميّزة التي تمتاز بها الطبيعة المتجددة، وبها تتذوّق حلاوة محبة المسيح الفائقة المعرفة، فهي معرفة روحيّة للمحبة التي تعجز دونها المعرفة الطبيعية ـ هي معرفة قلبية للمحبة التي لا تقوى على إدراكها المعرفة العقلية، فلا يعرف لغة القلب سوى القلب. ولا يميّز محبة الله سوى القلب المتجدد بنعمة الله.

ب ـ موضوع المعرفة: “… محبة المسيح”. هذه هي المحبة التي أحبّ بها المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها (5: 25). وهي المحبة التي أحبّ بها كلّ فردٍ في الكنيسة: “الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي” (غلاطية2: 10، أنظر أيضاً رومية8: 35و39، 2كو5: 14، رؤيا1: 5). وبما أنّ الرسول طلب لأجل أهل أفسس أن يعرفوا: “مع جميع القديسين”، فواضح أنه أراد محبة المسيح للكنيسة كمجموع أولاً، ثم كأفراد.

وصف الرسول هذه المحبة بقوله: “الفائقة المعرفة”. مهما يكن نوع هذه المعرفة، عقلية كانت أم روحية، فهي قاصرة عن أن تدرك محبة المسيح التي تتحدّى كلّ قياس. فكلما عرف الإنسان من هذه المحبة الفائقة، أدرك أنه لا يعرف عنها شيئاً، وكلّما ارتقى إلى قمّة منها، عرف أنه أمام جبلٍ أشمّ. وكلّما ذاق قطرةً منها، تحقّق أنه أمام بحرٍ خضمّ ـ من الآن إلى الأبد يجد أمامه درساً لم يعرفه عنها بعد. إنّ في هذا دليلاًَ على لاهوت المسيح المجيد، وسموّ محبّته الفائقة الوصف والإدراك، فما من محبة بشرية ـ مهما سمت أوصافها ـ ينطبق عليها هذا الوصف الجليل: “الفائقة المعرفة”. ولن يعدل “محبة المسيح الفائقة المعرفة”، سوى سلام الله “الذي يفوق كلّ عقلٍ” (فيلبي4 :7). “وليس أحدٌ يعرف الابن إلاّ الآب” (متى11: 27).

ج ـ غاية الغايات: “لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله” ـ هذه هي الذروة القصوى التي بلغتها صلاة الرسول في هذه الرسالة. بل هي الغاية المجيدة التي بجانبها تُحسب كل الغايات السابقة مجرّد وسائل مؤدية إليها: “(…لكي يعطيكم أن تتأيّدوا”.. “ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم”.. “حتى تستطيعوا أن تدركوا”.. “وتعرفوا محبة المسيح” ـ هذه كلّها وسائل تمهيدية لغاية نهائية ـ هي: “لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله”. بل هذا هو قلب صلاة بولس، وكلّ ما سبقه ليس سوى مقدّمات.

في كولوسي1: 9، صلّى بولس لأجل المكتوب إليهم قائلاً: “من أجل ذلك نحن أيضاً منذ يوم سمعنا لم نزل مصلّين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته”. لكنّه في هذه الرسالة وفي هذه الآية التي نحن بصددها، طلب لأجلهم ما هو أفضل ـ إذ قال: “لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله”. فالامتلاء من معرفة مشيئة الله أمرٌ عظيم، ولكن أعظم منه بما لا يقاس، الامتلاء إلى كلّ “ملء الله”.

“لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله” ـ ترسم هذه العبارة في أذهاننا صورة وعاء متّصل بموردٍ عظيم فيّاض. وسيظلّ متّصلاً به حتى يمتلئ إلى كلّ ملئه. أما الوعاء فهو الكنيسة ـ أفراداً أو جماعة. وأما هذا المورد العظيم فهو الإله جلّ وعلا. فطلب الرسول أن يمتلئ كلّ فردٍ إلى كلّ ملء الله، والفرد يمتلئ كلياً أو جزئياً حسب استعداده وقابليته وتشوّقه، لتمتلئ كلّ ملكةٍ فيه بالنعمة، وبالروح القدس، وبالتالي يمتلئ بكلّ بركات الله.

“إلى كلّ ملء الله” هذا هو الحدّ الغير المحدود، والقياس الذي لا يُقاس، والنهاية اللاّنهائية التي إليها تمتلئ النفس. على أنه لا يستنتج من هذا، بالضرورة، إن في إمكان النفس أن تصل إلى هذا الملء ـ إن في الحال أو في الاستقبال، بل المستفاد منه أن أمام النفس مجالاً سامياً متّسعاً إلى ما لا نهاية، إليه تتسامى النفس وترتقي متدرّجةً في مدارج القداسة والأمجاد، وكلّما ارتقت وجدت أمامها مجالاً أسمى وخيراً أعلى. فتنمو طوال الأبدية إلى هذا الحدّ الغير المحدود، إذ لا نهاية لنموّها، وهنيئاً لها بهذا النهاية اللانهائية، لأن وقف النموّ يؤدي إلى الجمود، والجمود هو أول درجات الانحلال، والانحلال يختتم بالزوال.

“إلى كلّ ملء الله” ـ إلى كلّ الغنى الإلهي ـ غنى النعم والصفات والطبيعة، فيصير المؤمنون شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 1: 4). إنّ كلّ ملء الله هو في المسيح، وكلّ ملء المسيح، لنا نحن المؤمنين (كولوسي 2: 9و10).

إن قياس امتلائنا، عملياً، ليس ملء الله، بل قابليّتنا نحن واستعدادنا. يقول الدكتور سكروجي: إنّ حرف الجر المترجم “إلى” يجوز أن يُترجم إلى “في” فيكون ملء الله هو البيئة الروحية المقدّسة التي فيها نحيا ونتحرّك ونوجد، وفيها نمتلئ. ويجوز أيضاً أن تترجم إلى حرف الجرّ “بـ” فيكون ملء الله هو موضوع امتلائنا. ولكننا نميل إلى الاحتفاظ بالترجمة العربية: “إلى”، فيكون ملء الله هو الحدّ الأقصى الذي إليه نرتقي، ونتقدّم، وننمو في امتلائنا.

إن الصفات الإلهية المطلقة: مثل العلم بكلّ شيء، والقدرة على كلّ شيء، والوجود في كلّ مكان، لا يمكن أن تكون من نصيب البشر، ولا يمكنهم أن يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية في الصفات الأدبية. وفي هذه أيضاً يختلفون عن الذات العليّة في النوع والكميّة. ولكن لن يُتاح لهم شيء من هذا، إلاّ متى حلّ المسيح بالإيمان في قلوبهم، وملأها إلى التمام، ونحن جميعاً ناظرين مجد الربّ بوجهٍ مكشوف كما في مرآة نتغيّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الربّ الروح” (2كو3: 17).

في هذه الحياة لا يمكننا أن ننمو فنبلغ كلّ ملء الله، لأننا كنبات منقول من تربته الأصلية إلى تربة غريبة عنه، فنموّه معطّل، وارتقاؤه معرقل. لكننا إذ نبلغ السماء ونتحرر من المادة وأغلالها، ننمو تدريجياً إلى كمال القصد الإلهيّ الذي أراده الله فينا، وبنا، وبواسطتنا.

نشيد التمجيد  (3: 20و21):

(1) أساس التمجيد (3: 20):

20وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا،

 إن الغاية القصوى التي أوصلنا إليها الرسول في العدد السابق. تضطرّنا إلى أن نقف حيارى، متسائلين “ومن هو كفء لهذه الأمور؟” ولكن الرسول إنسان تحت الآلام مثلنا، فلا شكّ أنه قدّر هذه الصعوبة الكبرى التي قامت في أذهاننا، وفي أذهان المكتوب إليهم، بل في ذهنه هو نفسه، فأسرع إلى إزالة هذه الصعوبة بقوله: “والقادر أن يفعل..”. حقاً أن طلبة الرسول في العدد السابق: “لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله”، قد فاقت حدّ التصوّر، وتخطّت حدود ملكات الفكر، فأقدم الرسول على معالجة هذه العقبة بقوله: “والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر”. فأساس التمجيد هو قدرة الله، أو قل هو الإله المقتدر، وقياس قدرته، هو “القوة التي تعمل فينا”.

(أ) الإله المقتدر: “والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء..”. لا غذاءً للإيمان يعادل الارتكاز على الله المقتدر، والارتكاز على قدرته الفائقة: “والقادر أن يفعل”. هذا هو مسك الختام في خير مقام (أعمال20: 32، رومية 16: 25، يهوذا 24). فلا ترياق للشكّ ولا علاج للضعف مثل التفكير في قدرة الله، والتمسّك بها في الملمّات (متى19: 26، رو4: 21، 11: 23، 14: 2، 2كو8: 9، في3: 21، عب7: 25).

هذا ارتقاء تدرّجي: الدرجة الأولى “والإله القادر أن يفعل”. الدرجة الثانية: “والإله القادر أن يفعل فوق كلّ شيء. الدرجة الثالثة: “والإله القادر أن يفعل.. أكثر مما نطلب”. الدرجة الرابعة: “والإله القادر أن يفعل.. أكثر جداً مما نطلب”. الدرجة الخامسة: “والإله القادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جداً مما.. نفتكر”.

 (ب) قياس قدرة الله: القياس الأول: القدرة الإلهية الفائقة حدّ الطلب والفكر: “والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر”. الكلمة المترجمة “أكثر جداً” هي في الأصل كلمة واحدة مركّبة صاغها الرسول للتعبير عن خصب المعاني، وغزارة المادة التي ازدحم بها عقله الجبّار، الذي ألهمه روح الحكمة والإعلان في معرفة الله (أفسس3: 10، 5: 13). والكلمة المترجمة “نفتكر” تعني حرفياً “ندرك” أو “نفهم” أو “نعي” (متى15: 17). هذا مما يدعو إلى شكر الله وحمده: أننا مهما فكّرنا وطلبنا فلا يمكننا أن نصل إلى حدود إمكانيات القدرة الإلهية، ولا أن نستنفد بعض الموارد الإلهية المذخرة لنا.

 القياس الثاني: القدرة الإلهية بحسب عملها فينا: “بحسب القوة التي تعمل فينا” ـ هذه قوة الروح القدس. لقد أشار الرسول إلى فعل هذه القوة في رسالته إلى كولوسي1: 29 بقوله: “الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوة”. لكنه في رسالته إلى كولوسي تكلّم عن القوة في فعلها الاختباريّ، وفي هذه الرسالة ـ أفسس ـ تكلّم عن فعل القوة في إمكانياتها. أمام هذه الممكنات الإلهية الجليلة، ليس لنا إلا‍ أن نسلّم حياتنا وقلوبنا تسليماً تاماً ليكون المجال متّسعاً أمام هذه القوة لتعمل بنا وفينا كما تشاء وأنّى تشاء. فإذا ما اشتكى أحدهم من ضيق التنفّس، فليس الضيق في الهواء بل في صدره. “ها أنّ يد الربّ لم تقصّر عن أن تخلّص” لكن خطايانا صدّت تيار عملها، وعدم إيماننا حال دون تنفيذ مراميها في حياتنا. لم يقدر المسيح أن يصنع معجزات في الناصرة بسبب عدم إيمان أهلها.

 عدد21:

21لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.

ـ الحمدلة الختامية (3: 21).

 في هذه الحمدلة، تتجلّى لنا أربع حقائق عن المجد الإلهي:

(أ) ماهية المجد: “المجد”. (ب) مآل المجد: “له”. (ج) دائرة إظهار المجد: “في الكنيسة في المسيح يسوع”. (د) دوام المجد: “إلى جميع أجيال دهر الدهور”. آمين.

(أ): ماهية المجد: “المجد” ـ هو كمالات الصفات الأدبية، المنعكسة من الجلال الإلهي على البشرية المفتداة، والعائدة إليه تعالى. فهي منه منبعثة، وإليه تعود. ويمكننا أن نعرف حقيقة المجد متى قابلناه بالنعمة. فالمجد هو النعمة في نضوجها وكمالها، والنعمة هي المجد في بذرته ونشأته.

(ب) مآل المجد: “له المجد” ـ أي لله الآب. فالمجد لله طبيعياً وذاتياً، سواء أرغبنا نحن أم لم نرغب. والمجد لله، باعتبار كونه واجباً مقدّساً علينا أن نؤدّيه لعزّته. هذا هو مطلع قصيدة الفداء العجيب، يوم ميلاد مخلّصنا المجيد. “المجد لله في الأعالي”. وهو قلب قصيدة الفداء، الذي فاه به الفادي: “أنا مجّدتك على الأرض”. وهو خاتمة قصيدة الفداء التي يترنّم بها جمهور المفديين الذين انتقلوا من أرض الشقاء إلى سماء الخلود: “أنت مستحقّ أيها الربّ أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة. لأنّك أنت خلقتَ كلّ الأشياء وهي بإرادتك كائنة وخُقلت” (رؤيا4″ 10-11).

(ج) دائرة إظهار المجد: “في الكنيسة في المسيح يسوع” ـ اختلف المفسّرون في ترجمة هذه الجملة، وبالتالي في تفسيرها: فمنهم ـ أ ـ لوثر وميخائيليس وروزنملير وأولزهوزن يترجمونها إلى: “في الكنيسة التي هي في المسيح يسوع”. وب ـ ثيوفلاكت وجروتيوس وكلفن يترجمونها: “في الكنيسة بواسطة المسيح يسوع” أي أن المسيح هو واسطة تجلّي المجد الإلهيّ في الكنيسة. وج ـ ماير وألفورد وأليكوت يتفقون والترجمة العربية في هذا الوضع: “في الكنيسة في المسيح يسوع” ـ أي أن الكنيسة هي الدائرة الخارجية التي يتجلّى فيها المجد الإلهي، لكن المسيح هو الروح الداخليّ والعامل الأساسي في تجلّي هذا المجد في الكنيسة. فلن يُتاح للكنيسة أن تظهر المجد الإلهي إلاّ بقدر ما تكون في المسيح، مستمدّة حياتها وكيانها وكمالها منه. ود ـ روبنسون وموليه وغيرهما من المفسّرين المعاصرين يترجمونها إلى: “في الكنيسة وفي المسيح يسوع” أي أن المجد الإلهي يظهر في الجسد الذي هو الكنيسة، وفي المسيح الذي هو الرأس. فالكنيسة في المسيح، والمسيح متمم رسالته بالكنيسة (1: 23). وفي اعتقادنا أن الرأيين الأخيرين هما أصوب الآراء.

هذه هي المرة الثالثة التي ذُكرت فيها كلمة “كنيسة” في هذه الرسالة: في المرة الأولى (1: 23) أشار بولس الرسول إلى الكنيسة باعتبار كونها “الجسد” الذي يكمّل فيه الرأس. وفي المرة الثانية (3: 10) ذكر الرسول الكنيسة باعتبار كونها “المرآة” التي عليها تنعكس أشعة حكمة الله المتنوّعة. وفي هذه المرة الثالثة (3: 21) تكلّم عن الكنيسة باعتبار كونها “مظهر” تجلّي المجد الإلهي.

(د) دوام المجد الإلهي: “إلى جميع أجيال دهر الدهور” ـ أو بعبارة أخرى ـ إلى أبد الآباد. إن هذه العبارة تنمّ عن سلسلة طويلة مكوّنة من حلقات متراصّة متماسكة. بكلّ حلقة منها ينتهي جيل خاص بتدبير معيّن، وكل هذه الحلقات تكوّن معاً سلسلة الآباد التي لا نهاية لها ولا حدّ.

والظاهر أن العبارة: “دهر الدهور” عبرية الأصل (مزمور72: 5و102: 24) وهي مرادفة لقولنا “أبد الآبدين”. فإذاً، إظهار هذا المجد الإلهي في الكنيسة ليس مقصوراً على الكنيسة المجاهدة على الأرض، لكنه يمتدّ إلى الكنيسة الممجدة في السماء.

“آمين”. هذه كلمة عبرية معناها “استجب”، وهي من مصدر “أ م ن” ومعناه الحرفي “أيّد”. “آمين” ـ هذه كلمة واحدة، لكن يخيّل إلينا أنها خلاصة أناشيد الأجيال كلّها، متجمّعة ومركّزة في هذه الكلمة الواحدة كأنّ كلّ جيل في كلّ دهر يضمّ صوته إلى أصوات الأجيال الأخرى لتلتئم كلّها في مقطع خاص، فتتجمّع كلّ هذه الكلمة الواحدة. آمين.

آمين ـ بهذه الكلمة تختتم صلاة الرسول في هذا الأصحاح،

فيختتم بها القسم التعليمي من هذه الرسالة الجليلة، ويستهل القسم العملي

آمين.

الأصحاح الثاني
الأصحاح الرابع

د. القس إبراهيم سعيد

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية سنة 1919م.
* عُين راعيًا للكنيسة الإنجيلية ببني مزار عام ۱۹۱۷م، ثم أستاذًا مقيمًا بكلية اللاهوت الإنجيلية عام 1925.
* أسس الكنيسة الإنجيلية في قصر الدوبارة، وأصبح راعيًا لها في مارس 1940.
* منحته كلية سترلنج في ولاية كنساس بأمريكا درجة الدكتوراه الفخرية عام 1955م.
* عُين رئيسًا للطوائف الإنجيلية ورئيسًا للمجلس الملي الإنجيلي في 30 يناير 1957.
* كان رئيسًا لرابطة الكتَّاب المسيحيين في الشرق الأدنى (فرع مصر).
* رأس السنودس عام 1964 وكان أمينًا عامًا له في المدة 24-1926.
* له عدد كبير من المؤلفات و الترجمات الهامة التي أثرت المكتبة المسيحية لا سيما شرح بشارة لوقا - شرح بشارة يوحنا -شرح رسالة أفسس - أصحاب السعادة – فتح السفر المختوم- شرح أصول الإيمان (مع القس اندراوس واطسن)، لماذا أؤمن؟ منبر الشباب - ميلاديات -كتاب عظيم للنفوس المضطربة الطريق الأوحد - شخصية المسيح.
* انتقل إلى المجد في 5 مايو 1970.
زر الذهاب إلى الأعلى