
يشوع اسم عبري معناه “يهوه يخلص” أو خلاص الله وكان اسمه في الأصل هوشع (عدد 13: 8). وقد غيَّر موسى هذا الاسم ليصبح “يشوع” (عدد13: 16). وُلد يشوع في أرض جاسان في مصر، وهو ابن نون من سبط أفرايم، من الجيل الثاني عشر بعد يوسف، كان عمره فوق العشرين حينما بدأت رحلة الخروج من مصر بقيادة موسى.
استخدمه الله في مرحلة هامة من تاريخ الخلاص للشعب قديمًا، حين قاد الشعب وأدخله إلى أرض الميعاد التي وعد بها الله موسى والآباء.
خلفية تاريخية
عاش يشوع بدايات حياته في أرض مصر، حيث كان يعيش الإسرائيليّون حياة العبودية، وجاءت نشأته في هذا الجو الذي عانى فيه ومنه مرارة العبودية، كان حين يجلس إلى آبائه وأجداده ويسمع منهم قصص العلاقة الوطيدة بين الله وآبائهم، إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف، كان يعرف أن هناك عهدًا بين الله وشعبه، لكن عينيه حينئذ كانت لا ترى غير العبودية، والاستعباد، وشعبًا محتقرًا تزداد حياته صعوبة كل يومٍ.
وحين بلغ يشوع العشرين من عمره، كان موسى قد جاء ليقود الشعب في طريقه للحرية والخروج من أرض مصر والتحرر من الذل والعبودية التي يحياها، وتجدد الأمل في قلب يشوع، لقد آن الأوان للحرية. وعاش يشوع كل أحداث الخروج، ورأى كيف كان فرعون يَعِد موسى بالخروج ثم يرجع عن وعده، واختبر أيضًا كيف تدخل الله بيدٍ عظيمة في كل مرة يحنث فرعون بوعده، إلى أن تحقق الخروج من أرض مصر، وما أن فرح الشعب بهذا الانتصار، وقبل أن يتذوقوا حلاوة الحرية، كان فرعون بجيوشه خلفهم، والبحر الأحمر أمامهم، لكن كان الله يُعِدُ خلاصًا عظيمًا، لقد أمر الرب موسى بأن يمد يده على البحر، فيُشقّ البحر، ويصير طريقًا يعبر من خلاله الشعب، وإذ يخرج آخر رجل في الشعب يصير هذا الطريق الذي نجا من خلاله شعب الله، مقبرةً لأعدائه، يقول الكتاب المقدس “وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى اَلْبَحْرِ فَأَجْرَى اَلْرَبُّ اَلْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيَدةٍ كُلَّ اَلْلَّيِلِ وَجَعَلَ اَلْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَ اَلمْاَءُ فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَاَئِيلَ فيِ وَسْطِ اَلْبَحْرِ عَلىَ اَلْيَابِسَةِ وَاَلمْاَءُ سُورٌ لهَمُ عَنْ يمَيِنَهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِم وَتَبِعَهُمُ اَلمْصِرِيُّونَ وَدَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جمَيِعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتَهِ وَفُرْسَاَنِهِ إِلىَ وَسْطِ اَلْبَحَرِ وَكَاْنَ فيِ هَزِيعِ اَلْصُّبْحِ أَنْ اَلْرَّبَّ اَشْرَفَ عَلىَ عَسْكَرِ اَلمصِريّيِنَ فيِ عَمُودِ اَلْنَّاَرِ وَاَلْسَّحَابِ وَأَزْعَجَ عَسْكَرِ اَلمْصِرِيّينَ وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتهِمِ حَتىَّ سَاَقُوهَا بِثَقْلَةِ فَقَالَ اَلمْصِرِيُّونَ نهَرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ لأَنَّ اَلْرَّبَّ يُقَاتِلُ اَلمْصِريّينَ عَنْهُمْ فَقَاَلَ اَلْرَّبُّ لمِوُسىَ مُدَّ يَدَكَ عَلَى اَلْبَحْرِ لِيَرْجِعَ اَلمَاءُ عَلىَ اَلمْصِرِيّينَ عَلَى مَرْكَبَاتهِمِ وَفُرْسَانهِمِ فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلىَ اَلْبَحْرِ فَرَجَعَ اَلْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ اَلْصُّبحِ إِلىَ حَالِهِ اِلْدَّائِمِةِ وَاَلمْصِرِيُّونَ هَارِبُونَ إِلىَ لِقَائِهِ فَدَفَعَ اَلْرَّبُّ اَلمْصِريّين فيِ وَسْطِ اَلْبَحْرِ فَرَجَعَ اَلمْاءُ وَغَطَّى مَرْكَبَاتِ وَفُرْسَانَ جمَيِعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ اَلَّذِي دَخَلَ وَرَاءَهُمِ فيِ اَلْبَحْرِ لمَ يَبْقَ مِنْهُمْ وَلاَ وَاحِدٌ .. وَرَأَى إِسْرائِيلَ اَلْفِعلَ اَلْعَظِيمَ اَلَّذي صَنَعَهُ اَلرَّبُّ بِالمْصِرِيّينَ فَخَافَ اَلْشَّعْبُ اَلرَّبَّ وَآمَنُوا بِالرَّبَّ وَبِعَبْدهِ مُوسَى” (خروج 14: 21- 31). ظل هذا المشهد في ذاكرة يشوع، إلى حين اختبر هو نفسه هذا المشهد مرة ثانية حين عبر نهر الأردن هو وجميع الشعب بقيادته، بناء على أمر الرب (يشوع 1).
عرف يشوع أن الرب هو الله، وأن موسى يقود الشعب بناء على أوامر خاصة من الله، لذلك نجد يشوع يتقرب من رجل الله موسى ليتعلم منه، ولتزداد معرفته بالله أكثر، وحين جاء عماليق ليحارب الشعب، كان أمر موسى ليشوع بأن يقود هو الحرب ضد عماليق، واختبر يشوع في ذلك اليوم حلاوة الانتصار، وكان أمر الله لموسى بأن يكتب تذكارًا ويضعه في مسامع يشوع (خروج 17: 14)؛ كان الله يُعِدُ يشوع لتولى قيادة الشعب خلفًا لموسى، وكان يشوع قريبًا من موسى، بل خادمًا له، متعلمًا منه.
كان يشوع رجلًا يعرف أن الله هو سيد التاريخ، فلم يخش أو يخاف أن يذهب متجسسًا الأرض التي وعد بها الله شعبه، وكان لإيمانه بالله وثقته في وعوده، أن يرى هو وكالب ابن يفنة ما لم يره غيرهما، فكانت مكآفأتهما هي الدخول والتمتع بأرض الموعد، فلم يدخل أرض الموعد من جميع الشعب الذي خرج من أرض مصر غير يشوع وكالب.
وحين جاء موعد وفاة موسى، كان الله قد أعد يشوع تمامًا ليكون خليفة موسى والرجل الذي يحقق الانتصارات ويقسم الأرض بين الشعب بالحكمة. كان موسى رجلًا استخدمه الله ليقود شعبه في رحلة الخروج من أرض العبودية، وأما يشوع هو الرجل الذي استخدمه الله ليقود شعبه للدخول في أرض الراحة التي وعد بها الله. وفي دراسة حياة يشوع نستطيع أن نراه:
الخادم الذي أصبح قائدًا
يكتب الوحي المقدس عن يشوع أنه كان خادمًا لموسى (خروج 24 :13 قارن يشوع 1: 1). وهكذا نرى أن يشوع يبدأ حياته كخادم لرجل عظيم الشأن، له علاقة قوية بالله، ووُصِف بأنه كليم الله، ولذلك نرى موسى وهو يدِّرب يشوع كخادم وتابع له، فأصعده معه إلي جبل الله (خروج 24: 13)، مما أثر في ارتباط يشوع بالله، وثقته فيه، وعبادته له، يكتب عنه الوحي فيقول “وَإِذَا رَجَعَ مُوسَى إِلَى الْمَحَلَّةِ كَانَ خَادِمُهُ يَشُوعُ بْنُ نُونَ الْغُلاَمُ لاَ يَبْرَحُ مِنْ دَاخِلِ الْخَيْمَةِ” (خروج 33: 11). وعندما بلغ يشوع الأربعين من عمره اختاره موسى ليقود الجيش في معركة رفيديم ضد عماليق (خروج 17: 9) ورغم صعوبة الموقف، إلا أن يشوع أطاع قائده وآمن بأن إلهه سيحقق له الانتصار “فَهَزَم يَشُوعَ عَمَاليِق وَقْوُمَه بحِد اَلْسَيفِ” (خروج 17: 13).
عند وصول مسيرة الشعب إلي برية فاران اختار موسى -كقـول الرب- رجلًا من كل سبط وأرسلهم ليتجسسوا أرض كنعان، فكان يشوع ممثلًا لسبط أفرايم وكالب بن يفنة ممثلًا لسبط يهوذا، ومعهم عشرة رجال آخرين، وعند عودة الرجال قدم عشرة منهم تقريرًا مخيفًا عما رأوه، وقالوا إنه من الأفضل أن نعود إلى مصر، إلا أن رجلين وضعـا إيمانهما بالله هما يشوع بن نون وكالب بن يفنة، وأعطيا تقريرًا مختلفًا عن كل هؤلاء، يقول الكتاب المقدس عنهما “مَزَّقَا ثِيَابهُمَا وَكَلَّمَا كُلَّ جمَاَعِةِ بَنيِ إِسْرائِيلَ قَاَئِلْينِ اَلأَرْضُ اَلَّتي مَرَرَنَا فِيَهَا لِنَتَجَسَّسَهَا اَلأَرْضُ جَيِّدةٌ جِدًَّا جِدًَّا إِنْ سُرَّ بِنَا اَلرَّبُّ يُدْخِلُنَا إِلي هَذِهِ اَلأَرْضُ وَيُعْطِيَنَا إِيَاَهَا أَرْضًا تَفِيْضُ لَبَنًا وَعَسَلًا إِنمَا لاَ تَتَمَرَّدُوا عَلَى اَلرَّبِّ وَلاَ تخَاَفُوا مِنْ شَعْبِ اَلأَرْضِ لأَنهَمُ خُبْزُنَا قَدْ زَالَ عَنْهُم ظِلُّهُم وَالرَّبُّ مَعَنَا لاَ تخَاَفُوهُم” ( عدد 14 : 6–9). لقد أدرك يشوع وكالب عظمة الله وقدرته الفائقة والنصرة التي سيهبهم إياها. فكافأهما الله وأدخلهما إلي أرض الميعاد التي أقسم لإبراهيم واسحق ويعقوب بها. وشهد الله عنهما قائلًا هذه الكلمات “لَنْ يَرَى اَلَّنَاسِ اَلّذِينَ صَعَدُوا مِنْ مِصِر مِن ابِن عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًَا اَلأَرْضِ اَلَّتي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ لإِنهُم لمْ يَتَّبَعُونيِ تمَاَمَـًا مَا عَدَا كَاَلِبَ بْنَ يَفُنَة اَلقِنِـزِي وَيَشُـوعَ بْنَ نُونٍ لأَنهَمُا اِتَبَعَا اَلرَّبَّ تمَاَمَـًا” (عدد 32: 11–12).
كانت الأغلبية ترى صعوبة تحقيق الانتصار، وكانت نظرتهم للأمور واقعية أكثر من اللازم، لكن الأقلية التي رأت الموقف بمنظور الله، وعرفت قدرته وآمنت بوعده، علمت أن الانتصار سيكون لهم حليفًا.
قد تكون الظروف المحيطة بك مخيفة بحقٍ، فيا ترى، فيمن تضع ثقتك؟ هل في قوتك وقدرتك، أم تكون كيشوع الذي عرف وعد الرب وآمن به، فكان قويًا رغم ضعف من حوله، شجاعًا رغم خوف كل الشجعان.
إنَّ الله يدعونا أنْ لا نرهب ولا نرتعب، بل نؤمن به ونتمسك بوعوده لنرى كيف يهبنا انتصاره!
ولما قرب وصول الشعب بقيادة موسى إلي أرض الموعـد، قـال الرب لموسى “اصْعَد إِليَ جَبَلِ عَبَارِيمَ هَذَا وَانْظُر اَلأَرْضِ اَلَّتي أَعْطَيْتُ بَني إِسْرَائيِل وَمَتى نَظَرْتهَا تُضَمُّ إِليَ قَوْمِكَ أَنْتَ أَيْضًا كَمَا ضُمَّ هَرُونَ أَخُوكَ” وعرف موسى قصد الرب وأن حياته قرُبت علي الانتهاء، “فَكَلَمَ مُوسَى اَلرَّبَّ قَائِلًا لِيُوكِلَ اَلرَّبُّ اَلَه أَرْوَاَحَ جمَيِعَ اَلْبَشَرِ رَجُلًا عَلى اَلجْمَاَعَةِ يخَرُجُ أَمَامَهُم وَيَدْخُلُ أَمَامَهُم وَيخُرِجُهُم وَيُدْخِلُهُم لِكِيلا تَكُونُ جمَاعَةِ اَلرَّبِّ كَالغَنَمِ اَلّتيِ لاَ رَاعِيَ لهَا فَقَــاَلَ اَلرَّبُّ لمِوُسَى خُذْ يَشُوعَ بْنَ نُونٍ رَجُلًا فِيِه رُوحٌ وَضَعْ يَدُكَ عَلَيْهِ وَأْوقِفَهُ قُدَّامَ أَلِعَازَارَ اَلكَاهِنِ وَقُـدَّامَ كُلِّ اَلجَمَاعةِ وَأْوِصِه أَمَامَ أَعْيُنهِم وَاجْعَلْ مِنْ هَيْبَتِكَ عَلَيْهِ لِكَي يَسْمَعُ لَهُ كُلُّ جمَاَعةِ بَني إِسْرَائِيلَ فَيَقِفَ أَمَامَ أَلِعَازارَ اَلكَاهِنِ فَيَسْأَلُ لَهُ بِقَضَاءِ اَلأُورِيمِ أَمَامَ اَلرَّبِّ حَسَبَ قَوْلِه يخَرِجُونَ وَحَسَبَ قَوْلِه يَدْخُلُونَ هُوَ وَكُلُّ بَنيِ إِسْرَائِيلَ مَعَهُ كُلُّ اَلجَمَاعَةِ فَفَعَلَ مُوسَى كَمَا أَمَرَهُ اَلرَّبِّ اَخَذَ يَشُوعَ وَأَوْقَفَهُ قُدَّامَ أَلِعَازارَ اَلكَاهِن وَقُدَّامَ كُلُّ اَلجَمَاعَةِ وَوَضَعَ يَدَيِه عَلَيْهِ وَأَوْصَاهُ كَمَا تَكَلَّمَ اَلرَّبُّ عَنْ يَدِ مُوسَى” (عدد 27 : 12-23). وهكذا انتقلت القيادة إلي يشوع بن نون الذي “كَاَن قَدْ امْتَلأَ رُوح حِكْمَةُ إِذْ وَضَعَ مُوسَى عَلَيِه يَدَيِه فَسَمَعَ لَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَعَمَلُـوا كَمَا أَوْصَى اَلرَّبُّ مُوسَى” (تثنية 34: 9). وأصبح يشوع بن نون القائد الذي سيتولى مهمة قيادة الشعب والدخول به إلى أرض الموعد.
بدأ يشوع خادمًا وسار مطيعًا، متواضعًا، محبًا لله، مؤمنًا بقدرته وسلطانه، ممتلئًا من روح الحكمة، فاختاره الله قائدًا لشعبه مُوكِلًا إليه مهمة قيادة الشعب والدخول به إلي أرض الموعد والتمتع بمواعيد الله التي سبق فقطعها لإبراهيم واسحق ويعقوب.
إنَّ الله يعد القادة الذين يُوكل إليهم المهام العظيمة، وكلما كان الإنسـان أمينًا متواضعًا طيعًا في يد الله، كلما صنع الله منه بطلًا عظيمًا.
يشوع رجل الإيمان
نشأ يشوع وهو يرى أعمال الله العظيمة، وكيف ضرب الربُ فرعون وشعبه بالضربات المتنوعة، رأى معجزة شق البحر الأحمر، وكيف صار البحر نجاة لشعب الله وهلاكًا لأعدائه، رأى السحابة وعمود النار، ذاق المن والسلوى في صحراء جرداء، صعد إلي جبل الله برفقة موسى وهناك امتلأ من الإحساس بقوة وعظمة الإله الذي يعبده.
وها قد صار الآن يشوع قائدًا، كان عليه أن يقود الشعب طبقًا للخطة الموضوعة قبلًا، كان عليه أن يكمل المشوار الذي بـدأه موسى، ويُدخِل الشعب إلي أرض الموعد، كانت كلمة الرب إلي يشوع “مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ فَالآَنَ قُمْ اعْبُر هَذا اَلأَردُن أَنْتَ وَكُلُّ هَذا اَلشَعْبِ إِليَ اَلأَرْضِ اَلّتي أَنَا مُعْطِيَهَا لهَمُ” (يشوع 1: 2).
كان التحدي صعبًا، لكن وعد الله كان أعظم: “لاَ يَقِفُ إِنْسَانٌ فيِ وَجْهِكَ كُلُّ أَيَّاَمِ حَيَاتِكَ كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُونُ مَعَكَ لاَ أَهمْلِكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ تَشَدَّدَ وَتَشَجَّعَ .. أَمَا أَمَرْتُكَ تَشَدَّدَ وَتَشَجَّعَ لاَ تَرْهَبُ وَلاَ تَرْتَعِبْ لأَنَ اَلرَّبَّ إِلهَكَ مَعَكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ” (يشوع 5، 9).
آمن يشوع بوعد الرب واجتمع بالشعب، وكلَّمهم قائلًا “بَعدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ تَعْبُرُونَ اَلأَردُنَّ هذَا لِكي تَدْخُلوا فَتَمْتَلِكُوا اَلأَرْضِ اَلّتي يُعْطِيكُمُ اَلرَّبَّ إِلهَكُم لِتَمْتَلِكُوهَا” (يشوع 1: 10). “وَقَاَلَ يَشُوعَ لِلشَعْبِ تَقَدَّسُوا لأَنَ اَلرَّبَّ يَعْمَلُ غَدًا فيِ وَسْطِكُمْ عَجَائِبَ وَقَاَلَ يَشُوعَ لِلْكَهَنَةِ احمِلُوا تَابُوتَ الْعَهْدِ وَاعْبُروُا أَمَامَ اَلشَعْبِ فَحَمَلُوا تَاَبُوتَ اَلعَهَدِ وَسَاَروُا أَمَامَ اَلشَّعْبِ” (يشوع 3: 5-6). وابتدأ الرب يستخدم يشوع ليقدم للشعب نصرًا جديدًا، فقـال “اَليْومَ اَبْتَدئ أُعَظِّمُكَ فيِ أَعْيُنَ جمَيِعَ إِسْرَائِيلَ لِكَي يَعْلَّمُوا أَنيِ كَمَا كُنْتُ مَعَ مُوسَى أَكُـونُ مَعَكَ” (يشوع 3: 7). وهكذا تمكن يشوع من عبور الأردن، ولا شك أن الله هو الذي مهد الطريق وهو الذي أجرى المعجزة.
كان الأمر الثاني الذي بدا مستحيلًا هو أسوار أريحا العظيمة. فكيف له وجيشه أن يدخلوا إلي هذه المدينة الحصينة؟، لكن يشوع كان قد عرف أنه سيمتلك المدينة. وتأكيدًا له فقد ظهر له رئيس جند الرب وشدَّده ورسم الخطة التي يجب اتباعها لامتلاك المدينة، فقال “تَدُورُونَ دَائِرةَ اَلمدِينَةِ جمَيَعَ رِجَالُ اَلحَرّبِ حَوُلَ اَلمدِيَنةِ مَرّةً وَاحِدَةً هَكَذا تَفْعَلُونَ سِتَّة أَيْاَمِ وَسَبْعَةَ كَهَنةِ يحَمِلًونَ أَبْوَاقِ اَلهُتَافِ اَلْسَبْعَةِ أَمَامِ اَلتَابُوتِ وَفيِ اَليْومِ اَلسَابِعِ تَدُورُونَ دَائِرةَ اَلمدِينَةِ سَبْعِ مَرّاتٍ وَالَكَهَنَةِ يَضْرِبُونَ بِالأَبْوَاقِ وَيَكُونُ عِنْدَ امْتِدَادِ صَوُتُ قَرْنِ اَلهُتَـافِ عِنْدَ اسْتِمَاعِكُمْ صَوْتَ اَلْبُوقِ أَنَ جمَيِعِ اَلْشَعْبِ يَهْتِفُ هُتَافَا عَظِيْمَا فَيَسْقُطُ سُـورُ اَلمَدِيَنةِ فيِ مَكَانِهِ” (يشوع 6: 3–5). كانت الخطة غريبة وبسيطة، ولكن إيمان يشوع كان عظيمًا وعرف أن “غَيرُ اَلمُسْتَطاعُ عِنْدَ اَلّنَاسِ مُسْتَطَاعٌ عِنْدَ الله” (لوقا 18: 27).
هذا الأمر اختبره يشوع بقوة يوم قاد جيشه في حرب جميع ملوك الأموريين، وحين مالت الشمس للمغيب رفع صلاته الشهيرة “وَقَاَلَ أَمَامَ عُيُونِ إِسْرَائِيلَ يَا شمَسُ دُومِيِ عَلَى جِبْعُونَ وَيَا قَمَرَ عَلَى وَادِي أَيَّلُونَ فَدَامَتِ اَلشَّمْسُ وَوَقَفَ اَلقَمَرُ حَتىّ انْتَقَمَ اَلْشَعْبُ مِنْ أَعْدَائِهِ” (يشوع 10 :13). ومرة تلو الأخرى يختبر يشوع الانتصار، انتصار الإيمان. ومن انتصار إلي انتصار يتقدم يشوع مؤمنًا بأن الله هو الذي يدبر ويقود حياته.
إنَّ الحياة برفقة الله تنتقل بنا من انتصارٍ إلى انتصار، وحين نحيا معه، نتمتع بهذا الانتصار ونرنم مع الرسول بولس قائلين: “شُكْراَ لله اَلّذيِ يَقُودُنَا فيِ مَوْكِبِ نُصْرَتَه فيِ اَلمْسَيِحِ كُلَّ حِينٍ وَيُظْهرَ بِنَا رَائِحَةُ مَعْرِفَتَه فيِ كُلَّ مَكَانٍ” (2كورنثوس 2: 14).
يشوع في مواجهة الخطية
آمن يشوع بالرب وسلك أمينًا معه، وكان موقفه صارمًا ضد الخطية، فحرم ما حرمه الله، وعاش حياة تمجد هذا الإله القدوس. لقد نجح يشوع في تطهير الشعب وقيادته بعيدًا عن العبادة النجسة وعن التدين الظاهري، وعندما كان يكتشف أثرًا للخطية، لم يكن يستريح حتى يتخلص من موضع الداء ويُطهر الشعب من هذا المرض اللعين.
كشفت الهزيمة أمام عاي، عن صلابة يشوع في مواجهة الخطيئة، فوسط مسيرة النجاح التي حظي بها يشوع في قيادة شعب الرب، كانت عاي البلدة الصغيرة التي انكسر وانهزم أمامها رجل الانتصارات، يشوع. لم تكن عاي مدينة كبيرة، ولا ذات جيش قوي، وكانت الحرب معها بمثابة نزهة متوقع فيه الانتصار السهل، فلم يعبأ رجال يشوع بهذه البلدة، بل حين أرسل يشوع رجالًا ليتجسسوا عاي، “رَجِعُوا إِلىَ يَشُوعَ وَقَاَلوُا لَهُ لاَ يَصْعَدُ كُلُّ اَلشَعْبِ بَلْ يَصْعَدُ نحَوَ أَلفيِ رَجُلٍ أَوْ ثَلاَثَةِ آلاف رَجُلٍ وَيَضْرِبُوا عَاي. لاَ تُكَلِفَ كُلُّ اَلْشَعْبِ إِلىَ هُنَاكَ لأِنهَمُ قَلِيلُونَ” (يشوع 7: 3). وحدث أن الذين أُرسلوا لحرب عاي أنهم انهزموا شر هزيمة، وذاب قلب الشعب وصار كالماء، فما حدث كان صعب التصديق!
لكن يشوع لم يفشل، بل أتي في صـراع مع الله ليكشف له سر الهزيمة المرة، فنراه باكيًا مصليًا أمام الله، وكأنه يقول لله “آه يارب، ماذا حدث؟ أنت الذي وعدتنا بالنصرة، وأنت الذي قدتنا من مصر وعَبَّرت بنا الأردن، أنت الذي سحقت أمامنا أسوار أريحا، فلماذا هذه الهزيمة إذًا؟” وسرعان ما كشف الرب ليشوع سر الهزيمة. يقول الكتاب المقدس “فَقَاَل اَلرَّبُّ لَيَشُوعَ قُمْ لمِاذَا أَنْتَ سَاقِطٌ عَلى وجْهِكَ؟ قَدْ أَخْطَأ إِسْرَائِيلَ بَلْ تَعْدَّوا عَهْدِي اَلّذي أَمَرتهُم بِهِ بَلْ اَخَذُوا مِنْ اَلحَرَامِ بَلْ سَرَقُوا بَلْ أَنْكَروَا بَلْ وَضَعُوا فيِ أَمْتِعَتِهِم ..قُمْ قَدِّس اَلشَعْبِ وَقُلّ تَقَدَسُوا لِلغَدِ لأَنَهُ هكَذَا قَاَلَ اَلرَّبُّ اِلَهَ إِسْرَائِيلَ فيِ وَسْطَكَ حَرَامٌ يَا إِسْرَائِيل فَلا تَتَمْكَّن لِلثِبُوتِ أَمَامَ أَعْدَائِكَ حَتىّ تَنْزِعُوا اَلحَرامَ مِنْ وَسْطِكُمْ ..فَأَجَابَ عَخْانَ يَشُوعَ وَقَاَلَ حَقًْا إِنيِ قَدْ أَخْطَأَتَ إِليِ اَلرَّبِّ اِلَهُ إِسْرَائِيلَ وَصَنْعَتَ كَذا وَكَذا رَأَيْتُ فيِ اَلغَنِيْمَةِ رِدَاءً شِنْعَارِيًا نَفِيسًَا وَمِئَتي شَاقِل فِضَةٍ وَلِسَانُ ذَهَبٍ وَزِنَهُ خمَسُونَ شَاقلًا فَأشْتَهَيتُهَا وَأَخَذْتهُا وَهَا هي مَطْمُوَرةٌ في اَلأرْضِ فيِ وَسْطِ خَيْمَتي وَالفِضَةُ تحَتَهَا .. فَقَاَلَ يَشُوعَ كَيْفَ كَدَّرتَنَا؟ يُكَدِّرُكَ اَلرَّبُّ فيِ هَذا اَليْومِ فَرَجمَهُ جمَيِعَ إِسْرَائِيلَ بِالحِجَارَةِ وَأَحْرَقُوهُم بِالنَارِ وَرَمُوهُم بِالحِجَارَةِ وَأَقَامُوا فَوْقَهُ رُجمْةَ حِجَارَةٍ عَظِيْمَةٍ إِلي هذَا اَلْيومِ فَرَجِعَ اَلرَّبُّ عَنْ حمُوُ غَضَبِه وَلِذَلِكَ دُعِيَ اسْمُ ذَلِكَ اَلمكَانِ وَادِيَ عَخُورَ إِليَ هذَا اَلْيَوْمِ” (يشوع 7: 10-11، 13، 20-21، 24-26).
وهكذا تخلص يشوع -بلا مهادنة- من الخطية الموجودة وسط الشعب، خطية العصيان والطمع والسرقة واشتهاء الأشياء الممنوعة. خطية عصيان كلمة الله والتعدي علي الناموس، واشتهاء ما ليس لهم. وجاء أمر الرب بإزالة الخطية، وحرقها وتحطيمها.
عاش يشوع حياة الطهارة والنقاء والنصرة، عرف كيف يحفظ نفسه بعيدًا عن عبادة الأصنام، وكانت وصيته قبل موته لشعبه هي “اخشَوُا الرَّبَّ وَاعْبُدُوه بِكَمَالٍ وَأَمَانَةٍ وَانْزَعُوا اَلآلهِةَ اَلْذّينَ عَبَدُهُمْ آبَاؤُكُمْ فيِ عَبْرِ اَلْنَهْرِ وَفيِ مِصِرَ وَاعْبُدوا اَلرَّبَّ” أما عن نفسه فلم يكن أمامه سوى الله الذي سار معه منذ أن كان شابًا فعبده. وكان مثلًا في بيته، فحق له أن يقول “أَمَا أَنَا وَبَيْتيِ فَنَعْبُدُ اَلرَّبَّ” (يشوع 24: 14-15).
كانت ثقة يشوع في إلهه وإيمانه المطلق به، وعبادته لهذا الإله بالأمانة والحق، وعدم مهادنته للخطية بشتى صورها، هي المفتاح الذي قهر به أعداؤه، ورأى به اندحار الطبيعة وخضوعها لهذا الإله الحي.
وعاش يشوع بطلًا مدة عمره البالغ مئة وعشرة سنة، مات ودفن في تمنة سارح التي في جبل أفرايم شمالي جبل جاعش.
دروس من حياة يشوع:
- العظمة تبدأ حيث الاتضاع. بدأ يشوع خادمًا وصار قائدًا. وكأني به يختبر في حياته ما قاله السيد المسيح “مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيْكُم عَظِيْمًَا فَلْيَكُن لَكُم خَادِمًا وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيْكُم أَولًا فَلْيَكُن لَكُمْ عَبْدًَا” (متى 20: 26-27).
- إنَّ سر النصرة الحقيقة هو الإيمان والطاعة؛ الإيمان بقدرة الله، وطاعة أسلوب الله مهما بدا غريبًا أو بسيطًا. وهكذا عَبَرَ يشوع الأردن، واستولى على أريحا، وهزم جميع أعدائه.
- الخطية تجلب الهزيمة، والمرارة، والموت، هذا ما حدث مع عخان وأهل بيته.
- الله يستجيب الصلاة، ويسخر الطبيعة لنصرة أولاده الخائفين اسمه، فلقد دامت الشمس على جبعون والقمر علي وادي أيلون، في حادثة لم تحدث لا قبل ولا بعد هذا اليوم، الذي صلي فيه يشوع تلك الصلاة المذكورة في (يشوع 10).
- لا يمكن لإنسان أن يجمع بين عبادة الله وعبادة الأصنام في وقت واحد وما أجمل أن يهتف المؤمن مع يشوع قائلًا “أَمَا أَنَا وَبَيْتيِ فَنَعْبُدُ اَلرَّبَّ” (يشوع 24: 15).