المسيح يدخل أورشليم

يحتفل المسيحيون بأحد الشعانين كل سنة. كل سنة، تسير الجموع نحو اورشليم حاملة سعف النخل وهاتفة هوشعنا هوشعنا مبارك الآتي باسم الرب، سبحي يا اورشليم الرب. ويلبس الناس الثياب الجميلة ويكتسي الاولاد بثياب العيد وتسير الفرق الموسيقية (الكشاف) مع الطبول والثياب المميزة. يسير الفتيان والفتيات بانتظام رافعين رؤوسهم ومبتسمين للكاميرات.
وتتفاخر هذه الفرق بالشخص الافضل الذي يستطيع أن يرمي العصا إلى اعلى حد بدون ان تقع على الأرض. ويقف الناس في الشوارع متفرجين على العروض المختلفة. يا له من يوم مميز واحتفال كبير. ولكن لماذا نحمل سعف النخل؟ فلا يوجد وصية كتابية تحثنا على حمل الشعانين ولا يوجد امر رسولي بهذا الشأن. ومهم لنا ان ندرك ما هي رسالة الرب لنا في هذا الموضوع وفي هذا العيد.
متى بدأ المسيحيون باستخدام سعف النخل في احتفالاتهم بأحد الشعانين أو بأحد دخول يسوع الانتصاري إلى اورشليم؟ يبين لنا يوحنا أن اليهود حملوا سعف النخل عندما دخل يسوع إلى اورشليم (يو 12: 13). ويختلف المؤرخون في تحديد زمن بداية مسيرة الشعانين. يظن بعضهم انها ابتدأت في القرن الرابع ويظن آخرون انها لم تكن موجودة قبل القرن الثامن حين استخدم المسيحيون شجر النخل او الزيتون او الصفصاف في مسيرة الشعانين. لم يكن احتفال الشعانين موجودا في المسيحية في القرون الثلاثة الأولى حين عانت الكنيسة اضطهادات كثيرة. اما اليهود فقد حملوا سعف النخل في عدة مناسبات وكما يحدثنا يوحنا حمل اليهود الذين استقبلوا المسيح في اورشليم سعف النخل. بكلمات اخرى ان تقليد حمل سعف النخل هو تعبير كنسي وليس وصية الهية ونحن بحاجة إلى فهم قلب الله والبحث عن أفضل وسائل التعبير عن هذا العيد.
حبة حنطة أم سعف نخل؟
لماذا حمل الناس سعف النخل في اول أحد شعانين؟ نستطيع ان نربط سعف النخل بعيد المظال (السكوت) حين يصلي الحجاج مزمور 118 نفس المزمور الذي نستخدمه في أحد الشعانين. يهز الذكور منهم سعف النخل في أياديهم اليمنى وتحمل أياديهم اليسرى فاكهة حامضة (برتقال او ليمون) ليدلوا على الحصاد. ولكن ما هو الربط بين سعف النخل والفصح؟ لا يوجد ربط في العهد القديم بين الفصح وسعف النخل إلا أننا نستطيع أن نفهم استخدامات سعف النخل من كتابات المكابيين. إليكم ملخص القصة التي ربما تكون خلف استخدام اليهود لسعف النخل عند دخول يسوع إلى اورشليم.
حوّل انطيوخس ابيفانس الهيكل إلى مركز للعبادة الوثنية سنة 167 ق. م. ذابحا الخنازير على مذابح الهيكل (1مك 1: 29-64/ 2مك 6: 1-9). فثار المكابيون واستردوا الهيكل سنة 164 ق. م. طهروا الهيكل وبنوا مذبحا جديدا (1مك 4: 36-61/ 2مك 10: 1-8). واحتفلوا لثمانية ايام (1مك 4: 56/ 2مك 10: 6) جاعلين الاحتفال عيدا سنويا (1مك 4: 59/ 2مك 10: 8). حمل المكابيون سعف النخل محتفلين بتحرير الهيكل وتقديسه لله (2مك 10: 7). وارتبطت ذكرى سعف النخل بتقديس الهيكل. فلا عجب ان تربط الأناجيل الإزائية دخول يسوع إلى اورشليم بتطهير الهيكل (راجع مت 21: 1-17/ مر 11: 1-19/ لو 21: 28-48). فليس من المستغرب ان يتبع قدومه إلى أورشليم دخوله إلى الهيكل وطرده اولئك الذين جعلوا بيت الله مغارة لصوص. طرد المكابيون الوثنين حين قدسوا الهيكل وهوذا المسيح يطرد اليهود من الهيكل.
يؤكد عمل المسيح ان المكان الذي يحمل اسم الله يجب ان يعكس حضور الله. أدرك اليهود إن الله إله قدوس وتفاعلوا مع هذه القداسة عن طريق تكريس كهنة ومكان مخصص لعبادة الله وعن طريق تكريس زمان مخصص لعبادته. هناك بعض الصحة في هذه المبادئ. فمن المفيد ان نعبد الله في بيوت العبادة غير تاركين اجتماعنا كما لقوم عادة، ومن المفيد ان نخصص اوقاتنا لقراءة كلمة الله وللصلاة. ولكن علينا ان نحذر من التركيز على العادة ونسيان الهدف من وراءها. لهذا قد تصبح هذه المبادئ الجيدة قيودا مضللة. فننسى ان كل العالم وكل مكان هو هيكل لله. الله حاضر في كل مكان. الله موجود في الشارع وفي بيوتنا وفي غرف نومنا وحتى عندما نأخذ حمامًا. تتقدس كل هذه الاماكن بحضور الله وتتنجس بحضور الخطية مثلها مثل ابنية الكنائس. فالمكان المخصص لعبادة الله هو نموذج لما يجب ان يكون عليه العالم كله. الله في المركز والله هو المحرك لشعب الهيكل. الله ساكن في وسط الشعب ويقبل عبادتهم من كل القلب وليس فقط عبادة الشعائر او الصلاة في ازمنة محددة مثل يوم الشعانين او في الاعياد والآحاد. يريد الله ان ينقل شعب الهيكل فلسفة الهيكل إلى كل العالم فيصبح كل العالم مكانا متوافقا مع حضوره. لقد ركز الشعب على الإفراز في القداسة ونسوا الخطة الإلهية الرامية إلى تقديس كل العالم. وبهذه المناسبة اتوجه إلى احبائنا المسلمين واحبائنا اليهود ان يسألوا أنفسهم عن مفهومهم للمكان المقدس وهل قداسة المكان تنتفي عن المواقع الأخرى في العالم ولماذا؟ أضف إلى ذلك، كل زمان هو زمان عبادة فحتى يوم السبت هو يوم عمل عند الله. كما قال المسيح عن يوم السبت انه فيه ابي يعمل وانا اعمل (يو 5: 17). يجب ان تذكرنا راحتنا أو توقفنا عن اعمالنا اليومية بمركزية الله وان كل لحظة من حياتنا تخلو من المعنى والثمر إن لم يكن الله فيها وهدفها.
ولكن القضية أكثر من تطهير للهيكل، يدل عمل يسوع على دينونة رجال الدين واسرائيل. يربط متى ومرقس قصة تطهير الهيكل بشجرة التين التي لا تعطي ثمرا ويربطها لوقا ببكاء يسوع على اورشليم وبالكرامين الذين قتلوا ابن صاحب الكرم (لو 20: 9-19). وبينما تربط الاناجيل الازائية دخول اورشليم بشجرة التين التي لا تعطي ثمرا، يربط يوحنا هذا الدخول بحبة الحنطة التي ستعطي ثمرًا كثيرًا.
يربط يوحنا دخول المسيح إلى اورشليم بحبة الحنطة. اراد الجموع ان يربطوا المسيح بسعف النخل ليفكروا بالانتصار والحرية والقوة العسكرية، اما يوحنا فتكلم عن حبة الحنطة. وبدلا من الحديث عن الجلوس على الكراسي الملوكية تحدث عن الوقوع إلى الارض. وبدلًا من المقولة ايها الملك عش للأبد، نسمع يوحنا يقول سيموت الملك. وبدلا من سعف النخل الطويلة نسمع يوحنا يحدثنا عن حبة حنطة صغيرة. تبدو اغصان النخل في ايدي الناس حية وخضراء ولكنها ميته لأنها منفصلة عن الشجرة اما حبة الحنطة فتبدو ميتة ولكنها حية بالرغم من منظرها. مقاييس الرب تختلف عن مقاييسنا.
تتميز حبة الحنطة بقلة امكانياتها بمقاييس العالم ولكن ليس بمقاييس الرب. يحدثنا يوحنا عن حبة حنطة وعن سعوف النخل. فهي حبة واحدة ووحيدة. إنها الاقلية امام الاكثرية. ولكنها مثل المرأة التي القت فلسين. شهد المسيح لها انها القت أكثر من كل الاكوام المعدنية الرنانة. حبة الحنطة مثل الغلام الذي قدم خمسة ارغفة وسمكتين. اطعمت هذه التقدمة بنعمة المسيح آلاف الناس. حبة الحنطة مثل الام الامينة التي عندها طفل واحد ولكنها اعطته كل شيء وخصصت له كل امكانياتها مؤمنة ان طفلها عطية من الله. الم تفعل مريم العذراء هذا الامر؟ وقد يحتقر الناس حبة الحنطة ولكن الرب سيكرم كل كأس ماء بارد قُدم باسم المسيح.
ستأتي حبة الحنطة بثمر كثير. بالرغم من تواضع حبة الحنطة إلا انها ستكفي ان تطعم كل العالم لأنها ستأتي بثمر كثير. يحب الناس الثمر السريع وكنائس الفُشار (البوب كورن) التي تضعها في المكروويف لدقيقة أو دقيقتين فتعطيك ثمرا كثيرا. قد يكون الثمر السريع مثل الاكل السريع (الفاست فود) الذي يفتقر إلى قدرته على التغذية الصحيحة. اما طريق الثمر في الكتاب المقدس فهو الوقوع إلى الارض والموت عن الذات. انه طريق حمل الصليب ومواجهة تحديات الانقسامات والفروقات وتحديات الشهوة والغيرة والحسد. لن تكون حبة الحنطة مثل شجرة التين التي لم يُوجد فيها ثمر او مثل سعف النخل التي لن تحيا ثانية. هل انت مثل سعف النخل التي لها مظهر الحياة وهي ميتة؟ هل عندك الاعياد واللباس والاحتفالات بدون المسيح الذي يعطي الحياة؟ او هل انت مثل شجرة التين التي لم تعط ثمرًا بالرغم من كل استثمارات الله فيها؟ دعونا نكون مثل حبة الحنطة التي تقع إلى أسفل وتموت لتجلب الحياة والثمر الكثير؟ وقوع حبة الحنطة وموتها هي الطريقة التي سيتمجد بها يسوع حين يطرح رئيس هذا العالم خارجا. بدون موت يسوع لن يصير ملكا على حياتنا فموته هو خطة الله. بدون معالجة مشكلة الخطية لن تكون هناك بركة الخلاص وثماره. لا نستطيع ان نحتفل بالمسيح ونحن عبيد للخطية. لن يكون هناك مُلك حقيقي ليسوع ما دام ابليس رئيسا. لن يكون يسوع ملكا على الجموع ما دام ابليس جالسا على العرش. وبدون تحطم عرش ابليس، لن تستطيع الجموع ان تقف امام تحديات اسبوع الآلام بل ستصرخ في نهايته اصلبه اصلبه اي اصلبوا يسوع المسيح.
جحش أم فرس؟
دخل يسوع اورشليم راكبا على جحش. لقد كان قراره مرتبطا بعدة امور. اولا، حدد يسوع هويته كملك وبرنامجه الملوكي بواسطة استخدامه للجحش. كان قراره مرتبطا بنبوة زكريا 9: 9-10. يقول زكريا: “ابتهجي جدا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت اورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن اتان. واقطع المركبة من افرايم والفرس من اورشليم وتقطع الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى اقاصي الأرض”.
من الأفضل ترجمة زك 9: 9 كالتالي: ابتهجي يا صهيون، اهتفي يا اورشليم. هوذا ملكك يأتي اليك. هو بار وعنده الخلاص. متواضع وراكب على حمار وعلى جحش ابن اتان.
وهكذا نجد ان ركوب المسيح للحمار مرتبط بالتواضع. تقول احدى القصص ان الأتان التي ركبها يسوع كان عندها شخصيتها المميزة. كانت ذكية وعارفة الطريق إلى اورشليم ومدركة اهميتها. سًرت الأتان عندما رأت الجموع تفسح الطريق امامها وبدأت تفكر بأهمية انجازاتها وضرورة اهتمام الناس بها. ربما فكرت بأهمية سنها او اهمية شهادتها او اموالها. الم يقل المسيح انه محتاج لها (مت 21: 3). بدونها لا يستطيع ان يتقدم. الم يخلع الرسل ثيابهم والبسوها (مت 21: 7)؟ فكسوتها اهم من كسوة رسل المسيح أنفسهم. الم يجلس الله الابن عليها؟ لقد فرش الناس ثيابهم في الطريق امامها ورحبوا بها بأغصان النخيل فقد تكون مخلصهم السياسي. رفعت الحمارة رأسها مفتخرة بنفسها ثم رفعت جسمها الامامي ومالت فانزلق يسوع (سحل) ولم يعد يجلس على ظهرها. حينها تركها كل الناس. لقد تكبرت الحمارة واعتقدت انها مركز العيد بدلا من ان تكرم يسوع وخطته. فما هو مركز العيد؟ هل هي الثياب التي نخلعها ونلبسها؟ هل هي سمات الفرح؟ هل هي العلاقات الاجتماعية والترحيب؟ ببساطة، يسوع هو اهم ما في العيد.
ايضا، يرتبط ركوب المسيح للحمار بالسلام. لقد اراد الاسرائيليون حرب التحرير والتخلص من الاعداء بقوة السلاح. نسوا ان المسيح سلك درب السلام وأصر عليه. قال يسوع “من لطمك على خدك الايمن فحوّل له الآخر ايضا، ومن اراد ان يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء ايضا. ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين” (مت 5: 39-41). يستخدم الناس يدهم اليمنى للضرب. فكيف تضرب اليد اليمنى الجانب الايمن من الشخص المضروب؟ يجب ان يستخدم الضارب الجزء الخارجي من اليد وليس كف اليد. هذا النوع من الضرب يحوي الاهانة أكثر من الايذاء الجسدي. طلب المسيح من تلاميذه ان يحولوا الجانب الآخر متحدين فكر الضارب ومصممين على انسانية المضروب. اضاف المسيح ان الجندي الروماني يحق له قانونيا ان يسخّر اليهودي ليحمل امتعته ميلا واحدا فقط. ولكن اليهودي يستطيع ان يتحدى هذا الظلم بالمسير ميلين وبالتالي مخاطبة ضمير المعتدي وانسانيته. لم يرغب الاسرائيليون بفلسفة الحمار او بفكر السلام ومسالمة الامم بل ارادوا لاهوت الفرس او الحرب، الحرب مع كل الامم واخضاعهم.
ولكن المسيح اختار فلسفة الحمار. فكما يخبرنا سفر زكريا ان الله سيقطع الفرس من اورشليم وسينهي الحرب. سيجلب السلام للأمم فهو رئيس السلام. ما هو الطريق إلى هذا السلام؟ كيف تحصل على السلام في عالم مليء بالمشاكل السياسية والاجتماعية؟ كيف تحصل على السلام في عالم يسوده الموت ويرفض الناس فيه الإيمان؟ الجواب بسيط. عبر عن هذا الجواب فنان في مسابقة لرسومات السلام. رسم البعض الحقول الهادئة او مغيب الشمس وتميزت احدى الرسومات بوجود اضطرابات كثيرة فيها وضغوطات في ازمة السير وأناس يصرخون وفي وسط كل هذه الازمات كان هناك طفلا صغيرا ينظر إلى وجه امه مبتسما وفرحا. كان عنده السلام في وسط عالم الضيق. قال يسوع سيكون لكم في سلام وسيكون في العالم لكم ضيق. إن سلامنا في المسيح في وسط صعوبات العالم. ولقد عبر اليونانيون عن هذا الفكر حين قالوا نريد ان نرى يسوع (يو 12: 21). قال اليونانيون هذا القول لفيلبس معبرين عن اهمية رؤية يسوع. وسأل فيلبس المسيح ارنا الآب وكفانا (يو 14: 8). أكد المسيح لفيلبس ان رؤية يسوع تكفي. فمعرفة يسوع هي العلاج الحقيقي لاضطراب القلوب (يو 14: 1).
كيف تستطيع ان ترى يسوع اليوم؟ عليك ان تؤمن انه مات على الصليب لأجلك. عليك ان تؤمن ان موته هو الوسيلة الوحيدة لخلاصك. عليك ان تسير وراء النور فتصير ابنا للنور (يو 12: 36). يحارب نور المسيح ظلام الخطية والشهوة. وينير المسيح درب من يؤمن به. إن ظلام الدنيا كله لا يستطيع ان يطفئ نور شمعة واحدة ولن يستطيع ان يطفئ نور المسيح. فآمنوا بالنور واغلبوا الظلام حينها تدخلون اورشليم السماوية النازلة من السماء من عند الله (رؤ 21: 2). ستمشي شعوب المخلصين بنور اورشليم ولا يكون فيها ليلا بل يكون المسيح سراجها ومجد الله نورها (رؤ 21: 23-26).
في الختام، دعونا نتذكر ان المسيح اختار طريق حبة الحنطة وليس طريق سعف النخل. اختار ان يقع ويموت ويضحي بنفسه متواضعا ليعطنا حياة. اختار المسيح فلسفة الحمار المتواضع ورفض لاهوت الفرس المحارب. فهو وديع ولطيف بالرغم من انه عنده كل السلطان كملك الملوك. لن يتم الانتصار الحقيقي والدخول إلى اورشليم السماوية بدون الصليب. دخولنا إلى حالة الانتصار لن يتم بدون عبورنا طريق الصليب. فكما مات المسيح يجب ان نموت عن ذواتنا وكما سلك المسيح طريق السلام متواضعا يجب أن نسلك.