الإله المصلوب وعقيدة الثالوث

الكاتب جورجين مولتمان ترجمة القس حنا مجلي
جورجين مولتمان Jurgen Moltman واحد من الرموز الرئيسية في اللاهوت المعاصر. وفي كتابه “الإله المصلوب “The crucified Godيتعامل مولتمان مع أولئك الذين رفضوا فكرة الله بسبب الآلام والمعاناة الإنسانية التي يتعرض لها البشر. فقد قدَّم مولتمان صورة كتابية لذاك الإله المتألم المصلوب الذي يُقدَّم إلى أولئك المتألمين، عزاء ومشاركة في آلامهم، بإدراكه لآلام الابن المتجسد لحظة ترك المسيح يواجه الآلام والموت على الصليب[1].
وحينما تناول مولتمان ما أعلنه سابقًا مجمه نيقية عن أنّ الله غير متغيِّر كخليقته. أكدَّ أن هذه المقولة ليست مطلقة عن الله، لكنها عبارة نسبية. فالله غير خاضع لإلزام ما هو ليس إلهيًا. وهذا لا يعني، أن الله ليس حُرًا في أن يُغيِّر نفسه أو أن يكون متغيِّرًا من خلال شيء آخر.
وبينما أصرَّ الآباء الأُوّل على عدم قابلية وقدرة الله على الألم والمعاناة جاء تأكيدهم على وجود شكلٍ من المعاناة والألم ـ المعاناة والألم الفعَّال، معاناة وألم الحب، الانفتاح الإرادي الحُر لإمكانية أن يكون الله متأثرًا بتأثير خارجي. فإذا كان الله بالفعل غير قادر على أن يتألم، سيكون أيضا غير قادر على أن يحب كإله، (بحسب المنطق الأرسطي). فكل مَنْ كان قادرًا أنْ يحب قادر أيضًا لأنْ ينفتح على اختبار الألم والمعاناة، لأنَّ الحب يرافق ويصاحب المعاناة. مع ملاحظة أنّ الله لا يتألم ويعاني مثل خليقته! ذات الكيان غير الكامل. فالله يحب من ملء كيانه، ويتألم ويعاني من ملء حبه الحُر.
هذه الاختلافات التي قد صُنعت في اللاهوت بين كيان الله وكيان الإنسان لا تُخبرنا شيء عن العلاقة الداخلية بين الله الآب والله الابن، ومن ثمَّ، لا يُمكن أن تنطبق على حدث الصليب الذي حدث بين الله الآب وابنه الإله الكامل والإنسان الكامل في ذات الوقت. فالمسيحيون الذين اعتنقوا التيار الإنساني Humanists، يفسرون موت المسيح ذاك الإله والإنسان الكامل God’s perfect manوالمعصوم من ارتكاب الخطية بأنه إتمام وتحقيق الطاعة أو الإيمان، وليس بكونه تُرِكَ من الله، أو عجزٌ من الله على تخليص ابنه من الآلم والمعاناة والموت.
لقد حاول اللاهوتيون المسيحيون في أنّ يجدوا إجابة على “صرخة يسوع من على الصليب”، وأن يجيبوا ـ بإدراكٍ أو بعدم إدراك ـ لماذا تركه الله؟، كما حاول الملحدون أيضًا أن يجيبوا على هذا السؤال بنفس الطريقة لكن بتجريد السؤال من أساسه. إلا أن صرخة يسوع على الصليب كانت ومازالت هي أعظم وأكثر الإجابات المسيحية إقناعًا.
يجب أنْ يتحدث المسيحيون عن الله في ضوء تخليه عن يسوع على الصليب، فهذا هو الذي يُمْكِن أن يمدهم بالتبرير الكامل والوحيد عن لاهوتهم. فإما أن يكون الصليب الغاية المسيحيّة لكل اللاهوت أو أن يكون البداية للاهوت المسيحي على وجه التحديد. فعندما يتحدث اللاهوتيون عن الله على الصليب ـ المسيح ـ سيصبح هذا حتميًا جدلًا ثالوثيًا عن قصة الله التي تختلف تمامًا عن كل المذاهب التوحيدية أو التعددية أو الحلولية.
إن عقيدة المسيح المصلوب وعقيدة الثالوث لهما عقديتين مركزيتين في الإيمان المسيحي، فكلا العقيدتين متصلتين اتصالًا وثيقًًا ببعضهما. فعقيدة الثالوث ليست عقيدة مُجرَّدة في العهد الجديد، لكنها شهادة متواصلة ومستمرة عن الصليب الذي أمدَّ وأكدّ أسس الإيمان المسيحي في الثالوث. حتى أنّ أكثر التعبيرات اختصارًا عن عقيدة الثالوث هي عمل الله على الصليب الذي به سمح الله للابن أن يبذل ويضحي بنفسه من خلال الروح القدس.
إن الصليب يمدنا بكثير من المعلومات المفيدة. لأنْ نفحص عبارات ومقولات بولس الرسول عن الإخلاء، حتى أننا يمكننا أن نتفهم ونعي معنى إخلاء المسيح يسوع Jesus abandonmentعلى الصليب في هذا السياق. فبينما نجد في الكلمة اليونانية للإخلاء والترك (paradidomi)دِلالة سلبية عن آلام المسيح، هذه الدِلالة السلبية عن الإخلاء تنتفي في تقدِّيم الرسول بولس صورة إخلاء الله نفسه من أجل البشر الآثمين.
يُقدِّم الرسول بولس معنى جديدًا لمصطلح “الإخلاء paredoken” عندما عرض وقدَّم كيفية ترك يسوع من الله إلى الله، وليس هذا في السياق التاريخي لحياته، لكن في السياق الاسخاتولوجي للإيمان. فالله الذي لم يُشفق على ابنه الوحيد، بل بذله من أجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا معه كل شيء!؟ (رو 32:8). في الترك والتخلي التاريخي للمسيح المصلوب من الآب، أدرك بولس الترك الاسخاتولوجي، أو بذل الابن من الآب لأجل أُناس خطاة وآثمة، أولئك الذين قد تركوا الله وتُرِكوا منه. ففي التأكيد على أن الله قد بذل ابنه الوحيد، أدرك بولس معنى ترك الابن من الآب، أدرك كم قاسى يسوع آلام الموت وهو متروك من أبيه. في حين يؤكد على مدى تألم الآب ومشاركته آلام وموت ابنه، فالإله الذي يحب، هو نفسه الإله الذي يعاني. الابن بُذل، والآب تألم من تركه لابنه. هذا ما أُصطلح عليه “ألم الله الآب “The pain of God، tلو فهمنا قصة موت يسوع المتروك من الله كحدث حدثَ بين الله الآب والله الابن، يلزم علينا أن نتكلم بمصطلحات الثالوث Trinityونترك المفهوم الكوني universal conceptعن الله جانبًا.
نقرأ في غلاطية 2: 20، الكلمة “بذل paredoken” التي تُظهر المسيح فاعلٍ في عملية الإخلاء والبذل، يقول: “… ابن الله، الذي أحبني، وبذل نفسه لأجلي.” فطبقًا لهذه الآية، فإن الآب ليس فقط من بذل ابنه، لكن الابن أيضًا بذل نفسه. وهذا يؤكد أن إرادة يسوع وإرادة الآب كانتا نفس الإرادة في موضوع ترك الآب للابن على الصليب.
لقد فسَّر بولس كون المسيح تُرِكَ من الآب بسبب الحب، وهو نفس التفسير الموجود في إنجيل يوحنا (يو 16:3). وكذلك يعتبر كاتب رسالة يوحنا الأولى حدث الحب على الصليب إنه الوجود الجوهري لله ذاته، “الله محبة” (1يو 16:4).
في الصليب نرى مدى تطابق ووحدة جوهر الآب والابن، والتوافق فيما بينهما في المعنى الحميم للإخلاء والبذل، وفي ذات الوقت نرى مدى انفصال الآب والابن حيث ترك الآب الابن يواجه الآلم والموت على الصليب وحيدًا.
إن أي محاولة لتفسير حدث صلب المسيح خارج هذا الإطار فإننا سنقع حتمًا في تناقض ظاهري، فإذا كان مفهومنا عن وحدانية الله جامدًا، فإننا سنصل إلى جواب حتمي بأن الذي مات على الصليب هو الإنسان يسوع فقط، وبهذا نفرِغ الصليب من ألوهيته.
في تفسيري لموت المسيح على الصليب، أرى أن موت المسيح لم يكن حدثًا بين الله والإنسان، لكنه في المقام الأول حدث داخل الثالوث بين يسوع وأبيه. حدث ينشأ من الروح القدس.
يرى مولتمان ضرورة أن نتفهم ونتحدث عن فكر الثالوث في سياق الحديث عن موت المسيح، وصليب المسيح، وأن نعيد تأسيس عقيدة الثالوث وتقديمها في هذا النور، إن هذه العقيدة لم تَعُدْ سرًا إلهيًا، يبجل بالاحترام الصامت، بل يمكن الاقتراب إليه، إن مولتمان يرى أن الصليب يُعلِن كيان الله، وكيان الله يُعلن في صليب المسيح، وفي الصليب نرى المبدأ المادي لعقيدة الثالوث، حيث نرى وحدة الآب والابن والروح القدس، فلو تكلمنا كمسيحيين عن الله، فيجب أن نُخَبِّر بقصة يسوع كقصة الله ونُعلِّنها كحدثٍ تاريخي حدث بين الله الآب والابن والروح القدس وفيها كْشُفت ماهية الله، وليس وهذا يعني أن كيان الله هو كيان تاريخي وأن الله يوجد في التاريخ. قصة الله إذن هي قصة تاريخ الإنسان.
[1] Jurgen Moltmann, “The Crucified God”, God and the Trinity today, in new questions on God, ed. Johannaes B. Metz ( New York: herder & Herder, 1972), pp. 31-35.