الصليب بين الرمز والحقيقة

كثيرون ممن يحاولون الدفاع عن الإيمان المسيحي و حقيقة صلب المسيح – والتي لا تحتاج لإثبات فهي كالشمس الساطعة وسط النهار لا تحتاج لمن يثبت وجودها- يرجعون للتفتيش بين سطور العهد القديم عن طريق إعادة قراءة بعض النصوص في ضوء حقيقة صلب المسيح من خلال التأمل فيها بطريقة رمزية،
أو مجازية فلعلهم يجدون رمزًا واضحًا لصليب المسيح وعقيدة الفداء. وبالمثل مع النصوص النبوية التي تحققت بالفعل في صليب المسيح، على سبيل المثال إشعياء 53 وكثير من المزامير، بغض النظر عن القرينة والخلفية الحضارية للنص أو ما هي رسالة النص للمستمع الأول؟
من أشهر هذه النصوص على سبيل المثال لا الحصر:
- “وَصَنَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ لِآدَمَ وَامْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا” (تكوين 3: 21).
ذهب الكثيرون في تأملاتهم في هذا الآية أن كساء الله لآدم وحواء كان من خلال ذبح ذبيحة! لكي يستر عوراتهما ويخفي عريهما وفي هذه الذبيحة رمز واضح لعقيدة الفداء. فيتساءلون كيف صنع الله أقمصة من جلد؟ وإلى أي شيء يشير هذا الكساء؟ بالطبع إلى رداء البر وكساء الخلاص المشار إليهما في “فَرَحًا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ” (أشعياء 60: 10)، نعم لنا في المسيح التبرير والفداء بدمه مغفرة الخطايا كما يقول الرسول بولس: “مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ لإِظْهَارِ بِرِّهِ مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ” (رومية 3: 24). وهو الذي ألبسنا رداء الخلاص بعد عري الخطية. الخجل، الخزي، والخوف من التواجد في محضر الله بتلك الصورة المخزية. بل أصبح “لنا الثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع” (عبرانيين 10: 19). وكما كان الحل سماويًا هكذا كانت خطة الصليب سماوية بمشيئة الله وتدبيره السابق. كما أعلن الرسول بطرس في عظته يوم الخمسين “هذا (يسوع) أخذتموه مسلما بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه” (أعمال 2: 23). وهناك عشرات الدلالات في هذه الآية.
- تكوين 6-8 قصة إهلاك البشر بالطوفان نتيجة الشر المتزايد، ونجاة نوح وأسرته فقط بالفلك.
نرى في هذه الفصول من سفر التكوين، أن شر الإنسان قد كثر في الأرض وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم” (تكوين 6: 5). وكان الحكم الإلهي القديم الجديد “أجرة الخطية موت”. فكان الموت بالطوفان هو النهاية العادلة والفعلية لأفعال الشر. وهنا ظهرت نعمة الله ومحبته ” أما نوح فوجد نعمة في عيني الرب”(تكوين 6: 8). اعلم الله نوحًا بما هو فاعل وأمره أن يصنع لنفسه فلكا ولكل حي من كل ذي جسد اثنين لاستبقاء حياة. يرى البعض في القصة رمزًا واضحًا للفداء والخلاص بالنعمة وكذلك الدينونة العادلة أيضًا. ففي الصليب النجاة والخلاص من أجرة الخطية الموت “فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ” (1كورنثوس 1: 18). كما كان في الفلك هكذا في الصليب الإنقاذ والنجاة كما فيه أيضا تتحقق دينونة العالم القادمة برفضه يسوع المسيح وإياه مصلوبًا. وكما خلص قليلون (ثمانية أنفس) هكذا في الصليب كثيرون يُدعون وقليلون يُنتخبون (يقبلون عمل المسيح بالإيمان). وكما كان الفلك من خشب هكذا الصليب من خشب، هو الوسيلة الوحيدة للنجاة، تدبير إلهي لا دخل لإنسان فيه، بل هي مشيئة الله.
وكما احتمل الفلك كل جامات غضب الله عليه لكي ينقذ من فيه، هكذا احتمل المسيح الخزي، والعار بموت الصليب، السحق، الجلد، الإهانة، وكل صور التعذيب لكي يعد لنا الخلاص وينقذ من يؤمن به بل فتكون له الحياة الأبدية.
- خروف الفصح “فأرى الدم وأعبر عنكم” (خروج 12: 13ب).
قصة خروج بني إسرائيل من ارض مصر في الأصحاح الثاني عشر من سفر الخروج يري فيها المتأمل رمزًا واضحًا للفداء والصليب. طلب الرب من موسى أن يوصي الشعب بأنه في ليلة الخروج “يأخذ كل واحد شاة بحسب بيوت الآباء شاة للبيت، وان كان البيت صغيرا عن ان يكون كفواَ لشاة يأخذ هو وجاره القريب من بيته بحسب عدد النفوس” (خروج 12: 3-5). كما طلب الرب من موسى ان يضع الشعب علامة الدم على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلون فيها (خروج 12: 7). فعندما يعبر الملاك المهلك ولا يرى علامة الدم فانه يدخل البيت ويقتل الأبكار ولكنه لا يدخل ويقتل إذا رأى علامة الدم. وبالطبع كانت النجاة في الإيمان بالطريقة التي رسمها ووضعها الله. الإيمان بكلمة الرب وطاعة وصاياه أولى الدروس المستفادة من القصة. وكما كان خروف الفصح بلا ذنب، أو عيب، بل صحيحًا ويجب التأكد من صحته بوضعه تحت الفحص أربعة أيام قبل الذبح، هكذا يسوع بلا خطية. شهد عنه بيلاطس البنطي قائلًا: “أني برئ من دم هذا البار” (متى 17: 24ج)، أني لم أجد فيه علة للموت” (لوقا 3: 22). وقال عنه الرسول بطرس “الذي لم يفعل خطية و لا وجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل. الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر” ( 1بطرس 2: 22-24). والكتاب المقدس يشهد ان المسيح بلا عيب حمل الله الذي رفع خطية العالم. واضح ان دم الذبيحة إشارة الي دم يسوع المسيح الذبيح الأعظم، والطريق الوحيد للنجاة من الموت هو الاحتماء في هذا الدم (الإيمان به). وهناك العديد من الدلالات في قصة خروف الفصح تتطابق مع أحداث الصلب. كما هناك العديد من الأحداث الكتابية في العهد القديم التي راح المتأمل في تطبيقها على قصة الصلب في العهد الجديد. منها على سبيل المثال:
قصة الحية النحاسية سفر العدد 21، ذبيحة المحرقة سفر اللاويين، يوم الكفارة العظيم (لاويين 16… الخ. وأصحاب هذه المدرسة التأملية -والتي لا ينبغي ان نعتبرها تفسيرية حيث لا تتوافر فيها قواعد علم التفسير و مراعاة القرينة الكتابية للنص- يبحثون في معظم النصوص على ما يشبع هوايتهم (غير الضارة) عن الرموز للحقيقة.
لماذا يفضل البعض اللجوء للرمز؟
وهنا أتساءل لماذا البحث في الظلال لإثبات الحقائق الواضحة؟ لماذا لا نأخذ الحقيقة كما هي معلنة بكل وضوح أمام أعيننا وبطريقة مباشرة تجعل رسالة النص سهلة ومنطقية ومقبولة لدى المستمع؟ لماذا يميل البعض للرمز ويتركون الحقيقة؟ بل دعني عزيزي القارئ أذهب إلى ما هو ابعد. حينما يتجه الإنسان للحياة في الظل في الوقت الذي يجب ان يكون فيه في النور بل نورًا للآخرين حتى تتبدد كل الظلال وتنكشف الحقائق.
فهل أصبحت ثقافة الرمز غالبة وطاغية على حياتنا حتى حولنا كثير من جوانب الحياة إلى رموز وإشارات واكتفينا فقط بفن صناعة الرمز والتي بدورها لا تخضع للقانون والمراقبة أو المعايير المتعارف عليها -كما فعلت أنا في بعض من هذه النصوص المذكورة أعلاه – بل أصبحت الغلبة لمن يجيد هذه الثقافة؟ أصبحنا نحكم على الناس ونصنفهم وفقا لهذه الثقافة التي تحتاج إلى مراجعة. فالمتدين مثلا: هو من يجيد إظهار ذلك سواء في الملبس أو الكلام بترديد الآيات والقصص والأناشيد الدينية المناسبة وغير المناسبة. هذا ما دفع الناس للتسابق إلى حمل الرموز الدينية على صدورهم ووجوههم بل والدفاع عنها بأي شكل حتى لو كان منافيا لما يحمل، كشخص متعصب، أعمى، عنيف، ويحمل على صدره أو يده إشارة الصليب الذي هو تجسيد لمعاني (الحب، العطاء، التضحية، مد يد العون والمساعدة للمحتاج، السلام…الخ). أو هؤلاء الذين ينادون بالشفافية والمساءلة وهم أول من يمارس التعمية والهروب من المكاشفة والمساءلة وراء الشعارات والرموز.
فالرمز يكون عندما نختفي هروبًا من المسئولية وحمل الرسالة ونكتفي فقط بالإشارة إليها من بعيد بكلمات خالية من الصدق أو التطبيق أولًا من أصحابها. الرمز يكون حينما تنسى الكنيسة دعوتها الأساسية لخلاص الإنسان ومصيره الأبدي وتبحث فقط عن بدائل فارغة من المضمون تحت مسميات وشعارات متعددة تعوق الرسالة أكثر مما تخدمها. بل تجعل العقل يغيب عن الواقع بحثا عن الرمز وما له من جاذبية خاصة وأنه لا يوجد قانون يحكم الرمز أو صحته. فكم من كنائس تركت التركيز على العمل الروحي وذهبت وراء برامج مستوردة ولم تجن منها الكنيسة شيئا مفيدًا حتى الآن من وجهة نظري. الرمز يكون عندما يتصارع القادة على المناصب الأولى بحجج فارغة خالية من الصدق وعاجزة عن التطبيق مخبئة وراءها الهدف والدافع الحقيقي. الرمز في التنافس على السلطة دون أجندة عمل واضحة معلنة تبدأ بتحديد الأولويات الحقيقية ووضع خطة تطبيق كمية أو كيفية زمنية تخضع للتقييم، دون الاكتفاء فقط بالشعارات والرموز التي كثيرا ما تسقط في اختبار محك الحياة العملية الواقعية.
فهل تحولت حياتنا إلى رموز؟ وهل نتوقف لمراجعة هذه الثقافة التي تخللت جوانب حياتنا وطغت عليها؟ أرجو ان تكون البداية من الكنيسة عمود الحق وقاعدته.