المدونةمقالات متنوعة

أنا لا طائفي

كثيرًا ما نسمع- في الأحاديث و خاصة ذا كانت تدور حول العلاقة بين الطوائف و المذاهب المسيحية المختلفة- البعض يقول بكل ثقة و كأنه يعلن الأفضلية “أنا لا طائفي”. ويظن بذلك انه غير متعصب لطائفة معينة أو لمذهب حتى لو كان ينتمي إليه بالفعل. أو بعض الخدام الذين قبل أن تسألهم عن هويتهم يبادرون بالقول نحن لا طائفيون، و كأن انتماؤهم لطائفة عيب يجب التبرؤ منه أو سجن يحاولون الهروب منه. مما دفعني أن أفكر في هذا القول متسائلا هل الانتماء الطائفي عيب أو سجن؟ هل كون للفرد نظام عقائدي يميزه أو أسلوب عبادة مختلف مشكلة تحتاج لحل؟ هل هناك أشخاص فعلا لا طائفيون؟ ما هو المغزى الحقيقي وراء مثل هذه الأقوال؟

 في البداية أريد أن أؤكد أن الإيمان المسيحي الناضج لا يري مشكلة في التعدد الطائفي، بل علي العكس تماما استطيع إن أقول أن الإيمان المسيحي يشجع التعددية و التنوع. ففي التنوع إثراء وتكامل، كما في التعددية استيعاب للكل مهما اختلفوا في طريقة التفكير. والكتاب المقدس ملئ بالنماذج والأمثلة التي تؤكد ذلك، علي سبيل المثال الكنيسة التي تشبه بجسد المسيح (1كو 12: 12-27) جسد واحد و أعضاء كثيرة، فليس من المعقول أن ينفي احد الأعضاء انتماءه للجسد لمجرد اختلاف موقعه أو شكله أو عمله في الجسد. كما أن العيب ليس في الطائفة و اقصد نظام العبادة (إنجيلي، اورثوذكسي، كاثوليكي) العيب يكمن في النظرة للأخر و للذات، فهناك من يبالغون في نظرتهم لذواتهم و يجعلون من أنفسهم ملاك الحق المطلق – الذي لا يملكه احد- دون غيرهم. أو يرون في نفوسهم فقط أنهم أصحاب الفكر السليم أو العقيدة الصحيحة دون سواهم. و من ناحية أخري ينظرون للأخر نظرة دونية قد تصل إلي حد التكفير والازدراء بمعتقداته و أرائه فقط بسبب الاختلاف. فالعيب إذا ليس في الانتماء لطائفة معينة ولكن المشكلة فيمن يمارسون ويطبقون مبادئ هذه الطائفة.

والسؤال هل هناك حقا جماعة يمكن أن تكون لا طائفية؟ والإجابة المباشرة بالطبع هي النفي. فلا يوجد من نستطيع أن نصفه انه لا طائفي والسبب ببساطة هو أن لا يوجد شخص لا تحكمه أفكار و مبادئ و نظام معين مهما كانت ناضجة أو سطحية. فالمدقق النظر يري الإنسان لا يستطيع أن يعيش حياة ناجحة ومستقرة بمفرده وأن يتخذ من أفكاره الشخصية فقط معيارا لهذه الحياة. فنرى في التاريخ البشري الناس يتجهون للجماعة وليس للفردية ويشكلون طوائف وأحزاب وجماعات تحكمها مبادئ ومصالح مشتركة، فنري النقابات والتكتلات والروابط…الخ. وعلماء علم الاجتماع يؤكدون هذه الحقيقة، وعلي رأسهم إميل دوركايم رائد علم الاجتماع 1858-1917، وجان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي واوغست كونت، وعبد الرحمن بن خلدون وملاحظاته في “طبائع العمران البشري”، وماكس فيبر رائد علم الاجتماع في المانيا 1920 و غيرهم من علماء الاجتماع الذين أكدوا علي ضرورة تماسك المجتمع و أهمية العلاقات الاجتماعية السوية. فهؤلاء الذين يدعون أنهم بلا طائفة أو بالحري لا ينتمون لطائفه هم أنفسهم طائفة لأنفسهم وعلي مر الأيام تري لهذه الجماعة مجموعة من المبادئ والأفكار الخاصة بهم تحكمهم وتنظم علاقاتهم معا. بل بالعكس قد تراهم يقدسون أفكارهم الخاصة ويقللون ويحقرون في بعض الأحيان من أفكار الآخرين ويصفونهم بالتعصب أو الجمود أو الطقسية ويرون في أنفهم المقياس للحرية الفكرية والانفلات من النزعة الطائفية. ويتحولون إلي طائفة تحت اسم “لا طائفة”!

 لا أريد أن يُفهم قولي هذا علي انه يشجع الانقسام و التعصب و لكن أريد أن أقول أن الحل ليس في إنكار الطوائف بل في العمل الجاد لتفعيل قبول بعضنا البعض و النظرة الايجابية للتعددية الفكرية و أن كل عضو يكمل الأخر و كل طائفة تثري العمل و تنجحه، فالمسيح لم يهاجم الطوائف و الجماعات لكونها طوائف أمثال: الهيرودسيين، الصدوقيين، الغيورين، الآسينين، الكتبة و الفريسيين، لكنه كان يهاجم الفكر الخاطئ و العقيم الذي يٌنصب نفسه حاكما وسيدا للآخرين أو مالكا للحق المطلق دون سواه. فالمسيح لم يهاجم الطائفة في ذاتها بل هاجم الأفكار. وهنا أقول الدعوة الصحيحة لا يجب أن تكون “أنا لا طائفي” بل “أنا لست امتلك الحق المطلق وحدي” أو “أنا لست متعصب اعمي لا يرى إلا نفسه”. القول السليم يجب أن يكون أنا طائفي (إنجيلي أو اورثوذكسي أو كاثوليكي) ولكني اقبل وأحب الأخر المختلف عني وأتفاعل معه.

 كما نري الرسول بولس يقول نفس الشيء للكنيسة في كورنثوس عندما سمع أن الخلافات التي بين المؤمنين والانقسامات، نراه انه لم ينكر الطائفية أو انتماء البعض لبولس أو لأبلوس أو لصفا أو للمسيح لكنه أيضا هاجم الخصومات والانقسامات و التعصب الأعمى لفكر دون الأخر بل طلب من المؤمنين أن يكون لهم فكر واحد برغم انتماءاتهم الطائفية المختلفة و مصادر أفكارهم المتنوعة فالبعض كان مصدر أفكاره الرسول بولس نفسه و البعض الأخر الرسول بطرس أو أبلوس الكارز وهو رجل يهودي أسكندري الجنس فصيح مقتدر في الكتب، خبير في طريق الرب و كان حارا بالروح يتكلم و يعلم بتدقيق ما يختص بالرب (أع 18: 24-25).فيكتب الرسولب ولس في هذا الغرض للكنيسة في كورنثوس معلمًا ويقول لهم: “وَلَكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلاً وَاحِداً وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِد. لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ. فَأَنَا أَعْنِي هَذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: «أَنَا لِبُولُسَ وَأَنَا لأَبُلُّوسَ وَأَنَا لِصَفَا وَأَنَا لِلْمَسِيحِ». هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟……. فَمَنْ هُوَ بُولُسُ وَمَنْ هُوَ أَبُلُّوسُ؟ بَلْ خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ: َأنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى لَكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي. إِذاً لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئاً وَلاَ السَّاقِي بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي. وَالْغَارِسُ وَالسَّاقِي هُمَا وَاحِدٌ وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ سَيَأْخُذُ أُجْرَتَهُ بِحَسَبِ تَعَبِهِ. فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللهِ وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ بِنَاءُ الله”ِ (1كو 1: 10-13، 3: 5-9).

  فالواضح إن الرسول بولس في هذا النص لم ينحاز لأحد حتى إلي نفسه أو ينكر لأحد أهمية أن ينتمي لطائفة ما لكنه حذر من الانشغال بهذه الأهداف الجزئية علي الهدف العام الذي هو المسيح، فالرسول بولس ذّكر المؤمنين بضرورة النضج (كونوا كاملين في فكر واحد). بالإضافة انه أرسى مبادئ هامة علي رأسها أن المسيح لم ينقسم برغم التعددية، و أن الواجب عليهم هو أن يكونوا كاملين (ناضجين) في الفكر و ذلك بقبولهم بعضهم البعض و إدراكهم أن كل واحد منهم يحتاج إلي الأخر، كما حذرهم من الخصومات والانقسامات. كما فرق الرسول بولس بين النسبي (بولس، صفا، أبلوس) الذين هم “خدام” أدوات نافعة في يد الله الذي سيعطي كل واحد منهم أجرته، وبين المطلق الذي هو الله (فالله هو الذي ينمي) الثابت الذي لا يتغير.

 والمشكلة في نظري تكمن عندما نستبدل الثابت “الله” بالمتغير “الإنسان أو الطائفة أو الفكرة”. عندما نضع أنفسنا مكان الله ونصدر الأحكام النهائية علي الآخرين غافلين أننا لا نملك هذا السلطان، فالله القدير وحده الذي “ليس عنده تغيير و لا ظل دوران” (يع 1: 17) له وحده الحكم. فالتصريحات التي تهطل علينا بين الحين و الأخر من قادة الطوائف التي تكفر الأخر و تنصب أصحابها مُلاك الحقيقة هي بسبب عجز أصحاب هذه التصريحات علي رؤية الحقيقة كاملة و رؤية موقعهم الحقيقي بالنسبة للحق المطلق “الله” علي سبيل المثال عندما صرح الأنبا بيشوى أسقف دمياط وكفر الشيخ والبراري وسكرتير المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية بمصر انه لن يدخل احد إلي ملكوت السموات من الكاثوليك و البروتستانت “الإنجيليين” كان السبب الوحيد انه يري في نفسه فقط صاحب الحق المطلق، أو عندما اصدر بابا الفاتيكان بندكت السادس العشر الوثيقة التي وصف فيها الكنائس الأرثوذكسية بأنها معيبة لأنها لا تتبع كرسي روما “الكرسي البطرسي” و إن البروتستانت جماعات مسيحية و ليست كنائس لأنها لا تمارس الأسرار! بالطبع هذه الاتهامات التي رد عليها الكثيرون في وسائل الإعلام المختلفة في شتي بقاع المسكونة، تعبر عن وجهة نظر أحادية ضيقة الأفق وهي أنهم وحدهم أصحاب الحق بينما الأخر لا.

 وهنا يلجأ البعض للهروب من هذا المأزق الضيق بإنكار الطوائف أو المناداة بضرورة دمجهم معا في طائفة واحدة، وظهرت فئة أخري تطلق علي نفسها أنها لا طائفية، فإذا سألته عن انتمائه الطائفي يقول لك: “أنا مسيحي أو أنا لا طائفي”. ولهؤلاء اكرر أن الحل ليس في الهروب بل في تصحيح الفكر وقبول الأخر المختلف عني. كما أن الطائفة ليست كما ذكرت عيبا ولكن الفهم لطبيعة الانتماء وحدوده لهذه الطائفة هي المشكلة. كما أن الذين يدعون أنهم لا طائفيون عادة لا يكون لهم طعم أو رائحة أو لون كتلك التي ليس لها ارض أو وطن أو عنوان، أو مثل هؤلاء الخدام الذين ينكرون طوائفهم أو مذاهبهم لكي يتمكنوا من دخول عدد كبير من الكنائس، وتبقي المشكلة عندما يُكتشف أمرهم وتكون النتائج عكسية. كما انه لا يستطيع أحد مهما امتلك من براعة في التمثيل أن ينكر مبادئه فلغته دائما تظهره، ومفرداته تُظهر طبيعة إيمانه وعقائده التي دائما سيظل منحاز إليها، علي سبيل المثال هذا الخادم الذي ذهب للكرازة في احدي الكنائس الأرثوذكسية علي انه لا طائفي و اذ هو يتحدث عن المسيح المخلص “بالإيمان” و بالطبع الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن بهذا لكن ليس هذا فقط فأين الأسرار مثل المعمودية و التناول؟ و في الواقع أنا أري انه تحايل فالناس لن تخلص بالأساليب الخادعة الماكرة و لكن ستخلص بإتباع الحق كما هو في شخص الرب يسوع المسيح.

  اختم القول بأننا لسنا في حاجة لأشخاص لا طائفيون بالقول أكثر من احتياجنا لتفعيل المعنى الحقيقي للانتماء الحر الناضج وإدراك للهوية الذي لا يتزعزع بنجاح الأخر و لا يفشل بتقدمهم و لكنه يستفيد من خبرات الآخرين و يتعلم منها و يطورها. إننا في حاجة لتعلم كيف نستفيد من نعمة التنوع وبركة الاختلاف فالبستان لن يكن بستانا لأنه يحوي نوعا واحدا من الزهور حتى لو احتوى علي ملايين الزهور من نفس النوع. كما ان كنيسة أعضاء كثيرة متنوعة في الأدوار وطريقة التفكير وموقعها لكنها ستظل كنيسة واحدة جامعة رسولية (جماعة المؤمنين، الكنيسة غير المنظورة)

زر الذهاب إلى الأعلى