
أَرجو أَن يكون واضحًا أَنَّ هذه الدِّراسة الموجزة جدًّا لا تقدّم لمحات من تاريخ الكنيسة الإِنجيليّة بمِصر، فهناك كِتاباتٌ كثيرةٌ في هذا الشَّأن. فهدفنا هو أَن نتعرّف على الهويّة اللّاهوتيّة لكنيستنا، لنرَ كيف تكوّن الفكر اللّاهوتيّ في الكنيسة منذ البداية.
من المعروف أَنَّ القرن التَّاسع عشر كان قرنُ الإِرساليّات الإِنجيليّة، وكان لاسكتلندا دورًا كبيرًا لاسيّما في انتشار الفكر المشيخيّ منها إلى بلادٍ كثيرةٍ[1]. وكان كثيرون يتوجّهون إِلى الولايات المتّحدة الأَمريكيّة بسبب ما قابلوا من اضطهاداتٍ وضغوطٍ. كانت اسكتلندا مهدَ المشيخيَّة، إِلَّا أَنَّه لم تكُن بها كنيسةٌ واحدةٌ موحّدة[2]. لذلك كانت كُلُّ جماعةٍ تُهاجر لأَمريكا تستقرّ في منطقةٍ مُعيّنة وتتّخذ لنفسها اسمًا خاصًّا، فكانت هناك كنيسة مرّت في ظروفٍ وأَحوال مختلفة إِلى أَنْ أَصبح اسمها «الكنيسة المشيخيَّة في الولايات المتّحدة الأَمريكيّة»، كما كانت هناك «الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا» والَّتي وُجِدَت نتيجةَ اتّحاد كنيستين سنة 1858 ومِنْ ثَمَّ، اتخذتا لاتحادهما هذا الاسم.
بدأت الكنيسة الأُولى عملها المرسليّ سنة 1823 لتبشير اليهود، إِلَّا أَنَّ قرارات الدّولة العُثمانيّة منعتهم، كسائر الأَجانب، من الإِقامة في أُورشليم (القدس) فتوجّهوا للإِقامة في بيروت. وهكذا بدأت الخدمة في سوريا[3]، الَّتي كانت من ضمنها لبنان، وبمرور الوقت ظَهَرَت «المطبعة الأَمريكانيّة» ببيروت، والَّتي أَنتج من خلالها عددٌ من المرسلين المشيخيّين بلبنان كِتاباتٍ كثيرةً مُباركةً للإِتيان بالنُّفوس لنور الإِنجيل، وبنيان المؤمنين، مِمَّا سنُشير إِليهِ بعد قليلٍ.
أَمَّا الكنيسة الثَّانية، والَّتي بدأت إِرساليّتها بمِصر بعد زيارة أَحد قادتها للبلاد، بعد أَنْ سَمِعُوا عن فُرص الخدمة بها من بعض المرسلين في سوريا، الَّذين حضروا لمِصر للاستشفاء. فجاء مُرْسَلُون من «الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا» وبدأوا الخدمة بها سنة 1854. إِلَّا أَنَّه من المهمِّ جدًّا أَن نتعرَّف على ما تميّزت بهِ هذه الكنيسة منذ نشأتها في اسكتلندا ونقلتهُ إِلى أَمريكا، وبالتَّالي، نقلهُ مرسلوها إِلى مِصر. تميّزت هذه الكنيسة بصفاتٍ خاصَّةٍ نُشير إِليها بعد قليلٍ. كان مُؤسِّسو هذه الكنيسة جماعةً معروفةً في اسكتلندا باسم «المتعاهِّدون» covenanters، وهم جماعةٌ تعاهدوا بأَنْ يتمسّكوا بالمبادئ المشيخيَّة دون تحوّلٍ عنها[4]. وبقوا يذكرون موقفهم ودفاعهم عن مبادئهم حتَّى بعد أَن توجّهوا إِلى أَمريكا، فاحتفلوا بذلك سنة 1743 في بنسلفانيا، وهُمْ يحملون السّيوف[5] تذكارًا للدّور الشُّجاع الَّذي قاموا بهِ!
البدايات
إِذ بدأَ العمل في سوريا، أَهتمّ المرسلون، شأنهم شأن غيرهم مَمَّن بَدَأوا العمل المشيخيّ في بلادٍ كثيرةٍ من العالَم بترجمة إِقرار الإِيمان الوستمنستري وأُصول الإِيمان المطوّل وأُصول الإيمان الْمُختصر، وكذلك نِظام العِبادة والنِّظام الإِداريّ للكنيسة المشيخيَّة. وبذلك تحدّدت هويّة الكنيسة الإِنجيليّة في سوريا.
كان للإِرساليَّة الأَمريكيَّة المشيخيَّة في سوريا شرف ترجمة الكتاب المقدّس للُغة العربيَّة من اللُّغات الأَصليَّة لأَوَّل مرّةٍ، فالتَّرجمات السَّابقة كانت ترجمات عن ترجمة الفولجاتا اللّاتينيّة. وقد احتفلت دار الكتاب المقدّس منذ أَيَّامٍ بمرور مائة وخمسين عامًا على ظهور هذه التَّرجمة. كما أَعدَّ بعضُ المرسلين مراجع لاهوتيّة وتفسيريَّة أكّدت الفكر المشيخيّ وهويّة الكنيسة، فتمّ نشر كتاب «نِظام التَّعليم في علم اللّاهوت القويم» لمؤلِّفهِ القسّ جيمس دنس، وإِنْ كانوا قد فضّلوا طباعة اسمه أَنس، لِأَنَّ الهجوم على التَّوجُّه الإِنجيليّ المشيخيّ كان عنيفًا، فَخافوا من أَنْ يستغلّ مقاوميهم اسم «دنس» لتشويه صورتهم! كما أَنَّهم أَنتجوا كتاب «القواعد السَّنِيَّة في شرح الأَسْفَار الإِلهيَّة»، وكتاب «السُّنَن القويم في تفسيرِ العهد القديم» و»الكنز الجليل في تفسير الإِنجيل» وغير ذلك الكثير، مِمَّا عَمِلَ على تحديد الهويَّة اللَّاهوتيَّة للكنيسة الإِنجيليَّة في سوريا. وكان لهؤلاء تأثيرًا كبيرًا جدًّا لدرجة أَنْ نجد أَنَّ بعض شوارع بيروت تَحْمِلُ الكثير من أَسماء هؤلاء المرسلين المشيخيّين الأَوائل الَّذين خدموا بسوريا.
أَمَّا في مِصر، فسارت الأُمور في اتِّجاهٍ مُختلفٍ تمامًا. فمِمَّا يُؤسف لهُ لَمْ تتمّ ترجمة إِقرار الإِيمان الوستمنستري ولا أُصول الإيمان المطوّل، ولم تتمّ ترجمة أُصول الإِيمان الْمُختصر إِلَّا بعد فترةٍ طويلةٍ من الزَّمن، عندما أَصبح ذلك أَساس دِراسة وتدريس اللَّاهوت النِّظاميّ بمدرسة اللّاهوت في أَواخر العشرينيَّات وفي الثَّلاثينيّات من القرن العشرين[6].
جديرُ بالذِّكر أَنّ الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا كان لها مرجعيّة إِضافيَّة خاصّة مميّزة لها ولهويّتها، وذلك تحت اسم «كتاب الشَّهادة»، والَّذِي كان من ضمن الكِتابات الَّتي يجب أَنْ يلتزم بها كُلُّ مَنْ تتمّ رسامتهُ للقسوسيّة أَو للمشيخيَّة، بل حتَّى خرّيجي اللَّاهوت عند تصريحهم للخدمة. ويتضمّن «كتاب الشَّهادة» ثمانية عشر بندًا، الخمسة المميّزة فيها لهذه الكنيسة هي: مُقاومة العُبوديّة (العمل على تحرير العبيد)، رفض القبول لعضويّة الكنيسة لِمَنْ هُمْ أَعضاء في جماعاتٍ سرِّيَّة (مثل «الماسونيّة»)، عدم قبول مَنْ يتقدّم للمائدة سوى مَنْ يلتزمون بالمبادئ المشيخيَّة المميّزة عن غيرها (مائدة مُغلقة)، الالتزام بمبدأ العهود Covenanting (التَّمسُّك الدَّقيق بالتَّعاليم المشيخيَّة)، وأَنْ لا يكون التّسبيح سوى بالمزامير المنظومة[7]. وجديرٌ بالذِّكر أَنَّ هذه الكنيسة في أَمريكا، والَّتي كان سنُودسنا بمِصر أَحد سُنُودساتها، لها تاريخٌ ناصعٌ في تحرير العبيد والعناية بهم بعد أَنْ تحرّروا[8]، وكذلك في العمل المرسليّ، وفي إِنشاء كُليّات مرموقة في مواقعٍ مُختلفةٍ بأَمريكا وبالقاهرة وبباكستان، وغير ذلك من أَنشطةٍ مِمَّا لا يتَّسع المجال للحديث عنها[9].
موقفٌ غريبٌ
جاء مُمَثِّلُو الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا لمِصر مُتمسّكين بالمبادئ الوستمنستريَّة شأنهم شأن كافّة الكنائس المشيخيَّة، إِلَّا أَنَّهم، كما سبقت الإِشارة، لم يقوموا، كَمَنْ عملوا في سوريا، على ترجمةِ إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ وأُصول الإِيمان المطوّل وأُصول الإِيمان الْمُختصر!
بل إِنَّ «كتاب الشَّهادة» الَّذي تميّزت بهِ هذه الكنيسة لم تَقُمْ بترجمتهِ، ليكون في يد الشَّعب، ليتعرَّف أعضاء الكنيسة على هويَّة هذه الكنيسة وما يُميّزها عن غيرها. إِلَّا أَنَّهم تطبيقًا لمبادئ كتاب الشَّهادة تمسّكوا بأَلَّا يقبلوا في عضويَّة الكنيسة أَيًّا مِمَّنْ كانوا «يَمْتَلِكُونَ» عبيدًا، بل إِنَّ البعض قاموا بتعليم العبيد الَّذين حرَّروهم. وكان القسّ طوبيا عبد المسيح الَّذي خَدَمَ لسنواتٍ طويلةٍ بمِصر مثالًا ناصعًا لذلك. كل ذلك بينما كانت الحرب بين الشَّمال والجنوب في أَمريكا على أَشدِّها، وموضوع العبيد عنصرًا هامًّا من أَسبابها.
وعلى الجانب الآخر، فَإِنَّه برغم عدم تواجد كُلّ هذه في يد الشَّعب بمصر، طَبَع سنودس الكنيسة سنة 1902 كتابًا بعنوان «سياسة الكنيسة الإِنجيليَّة»، وصدرت منهُ طبعةٌ ثانيةٌ رسميَّة أَنيقة أَعتمدها السّنودس في مارس 1913[10]، اشتملت على حقائقٍ هامَّةٍ عن الكنيسة وعن العِبادة وعن النِّظام الإِداريّ، مِمَّا نجد الكثير منهُ في دستور الكنيسة الحالي. إِلَّا أَنَّ ما يهمُّ أَنْ نُشير إِليهِ مُشدّدين أَنَّه عند تَقَدُّم خرّيجي اللّاهوت للتَّرخيص للخدمة، وعند رِسامة القسوس ورسامة الشّيوخ، كانت تُوجّه إِليهم بعض الأَسئلةِ، منها السُّؤال التَّالي: «هل تُؤْمِنُ وَتَعْتَرِفُ بِأَنَّ تعاليم الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة الموجودة في كُتُبِ إِقرار الإِيمان وأُصول الإِيمان المطوّل والْمُختصر وكِتَاب الشَّهادة مُؤسَّسةٌ على كلمةِ الله ومُطابقةٌ لها؟ وهل تتعهّد بأَنَّك تُحافظ على التَّمسُّكِ بها والمحاماة عنها ضدّ كُلِّ التَّعاليم المضادة؟»[11]. هذا، رغم أَنَّهُ لم يَكُنْ أَيٌّ من هذه الكُتُبِ مُترجمًا للعربيَّة بمِصر!!
موقفٌ أَغرب
أَعترِفُ بأَنَّه يَصْعُبُ عليّ جدًّا أَنْ أَتصوّر أَنَّ شخصيَّاتٍ مرموقةً تمّت رسامتها في أَوائل القرن العشرين قُدِّمت لها أَسئلة من بينها السُّؤال أَعلاهُ، وكُلّ هذه الكُتُب ليست بين أَيديهم، وأَجابوا بنعم! لا أَستطيع أَنْ أَستوعب أَنَّ شخصيَّاتٍ لها وزنها الكبير أَمثال طيبو الذِّكر القسّ غبريال ميخائيل الضَّبع، الَّذي شَارَكَ في ترجمة كتاب «سياسة الكنيسة» المطبوع سنة 1913 ويشتمل على هذا السُّؤال!؛ والدّكتور القسّ غبريال رزق الله؛ والدّكتور القسّ إِبراهيم سعيد؛ والدّكتور القسّ توفيق جيّد؛ والدّكتور القسّ لبيب مشرقي؛ وغيرهم، وُجِّهَ لهم هذا السُّؤال، وقالوا: «نعم»؟! هل بَلَغَتْ الثِّقة في المرسلين إِلى هذا الحدِّ؟ أَم أَنَّه قِيل لهم إِنَّ أُصول الإِيمان الْمُختصر، والَّذِي رُبَّما كان قد بدأَ تداولهُ مترجمًا يحوي كُلّ هذه؟ أَم ماذا يا تُرى؟! وأَرجو أَنْ لا نَتَعَجَّل في إِصدار الأَحكام، فقد كرّر موقفٌ مُماثلٌ أَجيالٌ كثيرةٌ بعد ذلك، ومنها نحن (وأَنا بالذَّات)، وذلك في ظُروفٍ مُختلفةٍ، وبصورةٍ أَو بأُخرى كما سنشير إِلى ذلك.
كنائس مشيخيَّة أُخرى وأَجواءٌ مُضطربة
بينما كان كُلُّ هذا يجري بمِصر، وفي أَجواء الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة بأَمريكا، احتدمت في كنائس مشيخيَّة أُخرى كثيرة في أَمريكا وإِنجلترا وحتَّى في أُستراليا مُناقشات حامية بشأن إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ، وبصفةٍ خاصَّةٍ حول الباب الثَّالث الخاصّ «بالقضاء الإِلهيّ الأَزليّ» بعنوان Of God’s Eternal Decree، وعبارة في الباب العاشر وعنوانهُ «الدَّعوة الفعّالة» والفقرة الثَّالثة الَّتي تتحدّث عن «أَطفال مُختارين». فثار السُّؤال هل هناك أَطفالٌ مُختارون وأَطفالٌ مرفوضون؟ نَتَجَ عن ذلك مُناقشات ساخنة جدًّا، قدّمت فيها كُلُّ كنيسةٍ بعضَ الأَفكارِ وبعض الاقتراحات، لا يتّسع المجال للخوض فيها كلّها، لاسيَّما وأَنَّها تَخْرُجُ بنا عن نطاق دراستنا. كان ذلك في السَّنوات الأُولى من القرن العشرين.
وكان من أَهمِّ نتائج تلك المناقشات الحامية أَنْ قرّرت كنيسة مشيخيَّة كبيرة سنة 1903، إِدخال ستّ تعديلات على إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ، وإِضافة بابين هامّين لهذا الإِقرار المكوّن من 33 بابًا، لِيُصْبِحَا رقم 34 بعنوان الرُّوح القدس ورقم 35 بعنوان إِنجيل محبَّة الله والعمل المرسلىّ[12].
الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا في القرن العشرين
لم تشارك هذه الكنيسة الَّتي كان سُنودسنا أَحدَ سنودساتها فى أَجواء الرَّغبة في «مُراجعة» ومُناقشة بعض ما جاء في إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ في بداية القرن العشرين. إِلَّا أَنَّه عند أَوَّل اجتماع للمحفل العامّ لهذه الكنيسة بعد الحرب العالميَّة الأُولى سنة 1919 تقرّر بالإِجماع إِعداد «تعبير إِيمانيّ». Statement of Faith يكون تحديثًا للتَّعبير عن الإِيمان والفكر المشيخيّ يتمشّى مع مسئوليّة «إِعادة البناء». فتشكّلت سنة 1923 لجنة لهذا الغرض، وكانت برئاسة أُستاذ علم اللّاهوت المنظّم للكنيسة الَّتي كانت كليّتها اللَّاهوتيَّة معروفةً باسم «بتسيرج زينيا»، وهو الدّكتور القسّ چون مكنوهر، الَّذي كان له الدّور الكبير في إِعداد الصِّياغة المطلوبة، فجاءت مكوّنةً من أَربعٍ وأَربعين مادةٍ بعنوان «تعبير إِيماني» Confessional Statement، وبعد عرضها على المجامع تَمَّ إِقرار جميع المواد فيما عدا المادة 28 الخاصَّة بالتَّسبيح لحساسيّتها الخاصَّة، لاسيَّما بعد اعتبار أَنَّ الوثيقة المعروضة تَحِلُّ مَحَلَّ كتاب الشَّهادة، بما يتضمن من صفاتٍ مُميّزةٍ لهذه الكنيسة، ومنها قَصْرُ التَّسبيح على المزامير المنظومة، إِذ كانت قد بدأت رغبةُ في استخدام ترنيمات روحيّة بجوار المزامير المنظومة. تمّ اعتماد الوثيقة كاملةً سنة 1925 بعد أَنْ أستقرّ الرَّأْي على إِضافة 150 ترنيمة للمزامير المنظومة أَيًّا كان عددها، وتمّ إِخطار سنودس النِّيل الإِنجيليّ بذلك، باعتبارهِ أَحدَ سُنودسات هذه الكنيسة، وأَعتمد السّنودس في اجتماعهِ بالمنيا سنة 1932 وثيقة «التَّعبير الإِيمانيّ» Confessional Statement وتمّ ترجمتهُ للُغَةِ العربيَّة مع إِجراء التَّعديلات اللَّازمة. إِلَّا إِنَّهُ من الضَّروري أَنْ نذكر أَنَّهُ كانت هناك مُقدّمة Preamble لهذه العمل تشتمل على عدّةِ نقاط. تُؤكِّد التزام الكنيسة بإِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ وأُصول الإِيمان المطوّل والمختصر، ثُمَّ إِشارة إِلى أَنَّ من حقِّ الكنيسة وواجبها أَنْ تُعبِّر مُجددًا عن إِيمانها في ضوء ما تصل إِليهِ من معرفة الحقِّ بتوجيهاتِ الرُّوح القدس من خلال الكلمة المقدّسة، أَمَّا فيما تختلف فيهِ عن إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ، فإِنَّ ما يَرِدُ في «التَّعبير الإِيمانيّ» يُقدّم عقيدتنا اليوم، وما لا نجدهُ في هذا «التَّعبير» نعود فيهِ لإِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ.
أَمَّا المادة 28 فبعد تأكيدِ استخدام المزامير المنظومة وليس سواها، أَشار البند 28 المطبوع في دستور الكنيسة الحالي إِلى قرار المحفل العامّ للكنيسة سنة 1925 بإِضافة 150 ترنيمة إِلى أَيِّ عددٍ من المزامير المنظومة، فتمّ في مِصر الجمع بين 306 من المزامير المنظومة، ومائة وخمسين ترنيمة أُخِذَت كُلّها من كتاب التَّرنيم البيروتيّ، إِذ لم تشترط الإِرساليَّة الَّتي بدأت العمل ببيروت الالتزام بالمزامير المنظومة. فأَصبح هذا هو كِتَابُ الكنيسة بمِصر من الأَربعينيّات إِلى آخر القرن العشرين. فجمعت المادة 28 في دستور الكنيسة بين التَّعبير الإِيمانيّ وقرارٍ للمحفل العامّ سنة 1925 بِما يجب أَنْ لا يتضمّنهُ إِقرار إِيمان!
فمن الغريب حقًّا أَنْ يَتِمَّ الإِشارة إِلى قرار المحفل العامّ لسنة 1925 والإِشارة إِليهِ كقرارٍ في المادة 28 من دستور الكنيسة الحالي، رغم أَنَّ هناك قرارً للمحفل العامّ سنة 1945 أَشار إِلى استخدام «ترانيم إِنجيليَّة» مُعبّرة عن خبرةِ وامتيازات وواجبات الحياة المسيحيَّة بالإِضافة للمزامير المنظومة في صياغةٍ سلسةٍ[13]، دون أَيِّ إِشارةٍ لقرار للمحفل العامّ، وكأَنَّ إِضافة التَّرانيم أَمرٌّ طبيعيٌّ. وكم كُنْتُ أَودُّ أَنَّ مَنْ قاموا بترجمة ال44 مادة وقاموا بطبعها سنة 1985 يرجعون لنسخةِ «التَّعبير الإِيمانيّ» Confessional Statement الَّتي طُبِعَتْ بعد سنة 1945!.
ما بين 1925 وسنة 1958 بمِصر
استمرّت نفس الأَسئلة تُقَدَّم قَبْل رسامة القسوس والشّيوخ بما فيها الإِشارة إِلى إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ وأُصول الإِيمان المطوّل والْمُختصر، ودون أَيَّةِ إِشارةٍ لما هو غير ذلك. لذلك فمن المهمِّ جدًّا أَنْ نُذَكِّرَ أَنَّ كُلّ القسوس والشيوخ الَّذين تمّت رسامتهم ما بين سنة 1925 إِلى سنة 1958 عند سؤالهم عن التزامهم «بِإِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ» و «أُصول الإِيمان المطوّل» أَجابوا «بنعم» رغم أَنَّ هذين الكتابين لَمْ يكونا مترجمين بمِصر، وغير مُتداولين ولو بالإِنجليزيَّة! هل كان ذلك ثِقَةً منهم في الكنيسة «الأُمّ» الَّتي أرتبط سُنودسنا بها؟! أَم هل كانت عندهم معلومات سطحيَّة عن هذه وصلت لمستوى اليقين؟! أَم، كما قال لي البعض، ظنُّوا أَنَّ «التَّعبير الإِيمانيّ» Confessional Statementالمكوّن من الأَربعِ والأَربعين مادة، والَّذي كان مطبوعًا ومتداولًا هو إِقرارُ الإِيمان الوستمنسترىّ!!.
سنة 1958
كانت سنةُ 1958 سنةً هامّةً جدًّا في تاريخ كنيستنا الإِنجيليَّة بمِصر، فالكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا، والَّتي بدأت الخدمة بمِصر، وكان سُنودسنا أَحدَ سنودساتها بدأت مُشاورات سنة 1952 للاتِّحاد مع كنيستين في أَمريكا هما الكنيسة المشيخيَّة في الولايات المتّحدة الأمريكية PC USA والكنيسة المشيخيَّة في الولايات المتّحدة PC US[14] (الكنيسة المشيخيَّة الجنوبيَّة). انسحبت الكنيسة الأَخيرة من مشروع الاتِّحاد، فتحقّق الاتِّحاد مع الكنيسة الأُولى سنة 1958، واندمجت الكنيستان: المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا والكنيسة المشيخيَّة في الولايات المتّحدة الأَمريكيّة باسم الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في الولايات المتّحدة الأَمريكيَّة.
وما يهمُّ أَن نُشيرَ إِليهِ هو أَنَّ كِلَا من الكنيستين قرّر التَّنازل عن أَيّ كِتاباتٍ إِضافية بعيدًا عن إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ. وبذلك تخلّت الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا تمامًا عن «التَّعبير الإِيمانيّ» المكوّن من الأَربعِ وأَربعين مادة الَّذي تمّ ترجمتهُ وطباعتهُ بمِصر، وبذلك تخلّت الكنيسة الّتَي أَصدرت هذا الكتاب عنهُ تمامًا، ولم يتمسّك بهِ أَحدٌ سوى كنيستنا! ومن سنة 1958 أَصبحت كنيستنا مستقلّةً تمامًا عن أَيِّ ارتباطٍ بكنيسةٍ ما في أَمريكا أَو في غيرها، وإِنْ كانت بعضُ الممتلكات لم تحوّل تمامًا لنا لأَسبابٍ مُختلفةٍ.
إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ في الستينيّات وما بعدها
كان البعض يسيئون لسُمعة الكنيسة الإِنجيليَّة أَيَّام الرَّئيس عبد النَّاصر، بقولهم إِنَّها كنيسة عميلة لأَمريكا! ولذلك -كُنْت حاضرًا الاجتماع الَّذي كانت فيهِ مُناقشة هذا الأَمر- رَأَى البعضُ ضرورة الاستغناء عن اسم «وستمنستر» في الحديث عن إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ، لنفي ما قد يُوحي بعَلاقةٍ بين الكنيسة الإِنجيليَّة والأَمريكان! وفي نفس الوقت شيئًا فشيئًا رأَى البعضُ اتِّخاذ الكتاب المحتوي على 44 مادة بعد حذفِ المقدّمة الَّتي تربط بينهُ وبين إِقرار الإِيمان الوستمنسترىّ، واعتباره إِقرار الإِيمان للكنيسة الإِنجيليَّة بمِصر! وتمّ قَبُول هذا الرَّأْي وطَبع ال 44 مادة في دستور الكنيسة باعتبارها إِقرار إِيمان الكنيسة الإِنجيليَّة بمِصر وتمّت الطِّباعة فعلًا سنة 1985.
صحوةٌ لاهوتيّة
كان لخطابِ حفل كُليَّة اللَّاهوت الإِنجيليَّة في نهاية عام 1982 بعنوان «نحو علمِ لاهوتٍ إِنجيليّ مِصريّ مُعاصر»[15] أَصداءً بعيدةَ المدى. وفي أَوائل التِّسعينيّات طالبت بعض المجامع من السّنودس إِعداد إِقرار إِيمان جديد للكنيسة، يكون إِنجيليًّا مِصرِيًّا مُعاصرًا، لِأَنَّ الإِقرار المطبوع في دستور الكنيسة (44 مادة) تمّت كتابتهُ في أَمريكا وتمّ اعتمادهُ سنة 1925، ولذلك فهو لا يتعامل مع واقعنا لا تاريخيًّا ولا جُغرافيًّا ولا فكريًّا ولاهوتيًّا، فلا يتعامل ولا يتفاعل مع الفكر الإِسلاميّ الَّذي يرفض عقيدة الثَّالوث وعقيدة التَّجسُّد وغير ذلك، كما أَنَّه لا يتفاعل ولا يتعامل مع الفكر القبطيّ الأرثوذكسيّ بعقيدتهِ بشأن الطَّبيعة الواحدة للرَّبِّ يسوع بعد التَّجسُّدِ، ومرجعيَّة التَّقليد جنبًا إِلى جنبٍ مع الكتاب المقدّس، وهو في نفس الوقت لا يتعامل ولا يتفاعل مع المذاهب الإِنجيليَّة المختلفة بمبادئها وتعاليمها، والَّتي تختلف عن التَّعليم المشيخيّ مثل فكرِ كنائس الإِخوة ونهضة القداسة والمعمدانيَّة والخمسينيةّ… إِلخ، كما لا يتعامل ولا يتفاعل مع فكر جماعاتٍ مماثلة كالسّبتيّين وشهود يهوه والعلم المسيحيّ والمورمين، بالإِضافة لذلك، فإِنَّ هذا الإِقرار بعيدٌ عن المفردات والمصطلحات المعاصرة كالمواطنةِ ومسئوليّاتها وواجباتها والبيئة ومسئوليّة العناية بها وما إلى ذلك.
استجاب السّنودس لطلبات المجامع وأتَّخذ قرارهُ التَّاريخيّ سنة 1996، وكلَّف مجلس العمل الرَّعويّ والكرازيّ بإِعداد إِقرار إِيمان إِنجيليّ مِصريّ مُعاصر يُعبّر من جديدٍ عن عقيدتها وتعليمها. فقام المجلسُ بِعَقْدِ لقاءات لقادة أَربعة مجامع في الأَقصر، والأَربعة مجامع الأُخرى في الإِسكندريَّة، وأَسْتَطلع كُلَّ مَا ترغب الكنيسة في أَنْ تجدهُ في الإِقرار الجديد، وتمّت لقاءات كثيرة واستطلاع آراء في الدَّاخل والخارج، وأستقرّ الرَّأْي على أَن يضع إِقرار الإيمان الجديد في الاعتبار، وأَنْ يتفاعل مع الحقائق الآتية:
(1) الفكر الَّسائد في البلاد العربيَّة.
(2) فكر الكنائس التَّقليديَّة.
(3) فكر المذاهب الإِنجيليَّة.
(4) المذاهب الَّتي ابتعدت عن الحقِّ الكتابيّ، مثل السَّبتيّين وشهود يهوه والعلم المسيحيّ والمورمين وغيرها.
(5) الأَفكار والتَّيارات الفكريَّة المعاصرة الَّتي ظهرت على السَّاحة في الآونة الأَخيرة، سواء كانت لاهوتيَّةً أَو غيرها، مثل الحديث عن الزَّواج والطَّلاق اليوم، ومثل الحديث عن المواطنة، امتيازاتها ومسئوليّاتها، ومسئوليّة الحفاظ على البيئة، وغير ذلك.
وتمّ توزيع المواد على دُفعاتٍ على كُلِّ أَعضاء السّنودس لإبداء الآراء، إِلى أَنْ تمَّ اعتمادهُ وإِعدادهُ بصفةٍ نهائيَّةٍ في نُوفمبر 2006. وبذلك فقد أستغرق إِعداد هذا «الإِقرار» إِلى أَنْ تمّ إِقرارهُ عشر سنوات. ومِمَّا يُذْكَرُ أَنَّ كنيسة كبيرةً في أَمريكا إِذ عَلِمَتْ عنهُ، تمّ إِعداد ترجمة الخطوط العريضة مع تفصيلاتٍ بسيطةٍ واسْتُخْدِمَت في مؤتمرٍ كبيرٍ بها.
بعد كُلِّ هذا، وقبلهُ، يجب أَنْ نتذكّر دائمًا أَنَّ الفكر المشيخيّ يؤكّد أَنَّه من واجب الكنيسة وامتيازها أَنْ تُعِيدَ النَّظر باستمرارٍ في إِقراراتِ إِيمانها في وسط الظُّروف الجديدة والمتجدّدة، والتَّغيُّرات الفكريَّة والاجتماعيَّة والثَّقافية، وغيرها، للتَّعبير عنها من الكُتُبِ المقدّسة بتوجيهِ الرُّوح القدس. وفي ضوء هذه الحقيقة، وفي ضوء مُلاحظات بعض الأَحبَّاء ومُلاحظاتي الشَّخصيَّة قدّمتُ لكُلِّ أَعضاء اللّجنة الخاصّة بإِقرار الإِيمان اقتراحًا بِثلاثِة تعديلات.
أَخيرًا، ينبغي أَن يكون هدفنا دائمًا التَّقدُّم للأَمام. وأَنَّني أَوَّلُ مَنْ يُرحّب بأَن يكون لنا إِقرار إِيمان إِنجيليّ مِصريّ مُعاصر يجد فيه كُلُّ عضو إِنجيليٍّ إِجابةً لتساؤلاتهِ.
بَقِي أَنْ نُشير إِلى أَنَّ الهويَّة اللَّاهوتيَّة للكنيسة تتطلّب بالإِضافة لتحديد إِقرار الإِيمان، أَن يكون تعليم الكنيسة عن العِبادة وكُلِّ ما يرتبط بها واضحًا ومُحددّا. إِلَّا أَنَّنا متَّى عُدنا لدستور كنيستنا نُفاجأُ بأَنَّ الباب الخاصّ بالعِبادة مترجمٌ عمَّا كان لدى الكنيسة المشيخيَّة المتّحدة في شمال أَمريكا قَبْل سنة 1925، رُبَّما بتصرَّفٍ طفيفٍ، ولَيْسَ أَدلّ على ذلك من أَنَّ المادة 73 من هذا الجزء تؤكّد تمامًا الالتزام في التَّسبيح بالمزامير المنظومة ولا سواها، مِمَّا نبّر عليهِ كتاب الشَّهادة لهذه الكنيسة الَّذي تَمَّ إِلغاؤهُ في المحفل العامّ لهذه الكنيسة سنة 1925!
ومن الغريب، أَنَّنا انشغلنا بموضوع إِقرار الإيمان، وأَنْ يكون إِقرار الإِيمان مُعاصرًا، ولم نلتفت مُطلقًا للجزء الخاصّ بالعِبادة والحاجة الماسة لكتابتهِ من جديدٍ!!.
المراجع
[1] G . D Henderson , The Church of Scotland , Church of Scotland Youth Committee , Edinburgh, 1939 , PI9If.
[2] Ibid I78.
[3] عيسى دياب، مدخلٌ إِلى تاريخ الكنائس الإِنجيليّة ولاهوتها. لبنان: مدرسة الّلاهوت المعمدانيَّة العربيَّة، 2009. ص109.
[4] Lefferts A Lostscher. A Brief History of the Presbyterians , Third Edition , Philadelphia: Westminster Press , 1978 P . 148.
[5] Ibid I49
[6] وطسن وإِبراهيم سعيد. شرح أُصول الإِيمان، القاهرة: دار الثّقافة, 1988.
[7] Loetscher, Ibid . P I5I
[8] كان ذلك في وقتٍ كانت فيهِ تجارةُ العبيدِ رائجةً جدًّا. وكان العبيد رجالًا ونساءً وشبابًا يُعْرَضُون للبيعِ حتَّى في بعضِ صالات بعض الكنائس! واهتمّت هذه الكنيسة في سنةِ 1863 برعاية العبيد المحرّرين الَّذين كانوا بلا مأوى و بلا أَي مواردٍ.
[9] Ibid . I52.
[10] كتاب سياسة الكنيسة الإِنجيليَّة في مصر والسّودان، طٌبع بأَمرِ سنودس النِّيل عند الْتِئَامهِ في مارس 1903، بمطبعة المحيط سنة 1913.
[11] الكتاب أَعلاهُ. ص 81، 91، 110.
[12] Loetscher , Ibid. p 131.
[13] ConfessionalStatementP3 , 22.
[14] Loetscher, Ibid. p104.
[15] بعد إِلقاءِ الخطاب مباشرةً، قال الدّكتور القسّ فايز فارس بصفتهِ رئيس مجلس إِدارة كليّة اللّاهوت: إِنَّ هذا الخطاب يجب أَنْ يُطْبَعَ ليوزّع على نطاقٍ واسعٍ، وإِنْ لم تَكُنْ لدى الكُليَّة ميزانيّة لهذا الغرض، يقوم هو شخصيًّا بدفع ما يلزم لتتمّ الطِّباعة. وقرّر مجلس الكُليّة الطِّباعة، وتطوّع أَحدهم للقيام بالمهمةّ إِلَّا أَنَّ هذا لم يتحقّقْ!