مقالات متنوعة

قعدة عرب

يتميز مجتمعنا الشرقي عامة والمصري خاصة بظاهرة قلما نجدها في المجتمعات الغربية وهي سيادة النظام القبلي في إدارة أمور الحياة، وتتخذ هذه الظاهرة عدة أشكال في أصعدة متنوعة. فعلى الصعيد الأمني مثلاً ربما يحاول ضباط الشرطة خاصة الجدد منهم فرض سيادة القانون على مجتمع ما وحل مشكلاته الأمنية ولكنهم يجدون أمامهم عوائق هذا النظام القبلي فيلجأون إلى كبار القوم أو شيوخ القبيلة لكي يساعدوهم في حل المشكلات. وقد ينجح – وغالباً ما ينجح – كبار القوم في حل المشكلات وتحقيق الأمن من خلال “قعدة عرب” يحضر فيها أطراف المشكلة ومن خلال الشد والجذب ينتظر الجميع في النهاية حكم كبير القوم الذي يجئ عادة كحل وسط لإرضاء جميع الأطراف ونزع فتيل الأزمة.

ولكن تبقى هذه الأحكام مرتبطة بشخص زعيم القبيلة ومبتعدة عن أي نص قانوني أو دستوري اللهم إلا قانون العرف وما تحكم به الجماعة في “قعدة العرب”.

ولا تقتصر هذه الظاهرة على المجتمعات القبلية في صعيد مصر، بل تنسحب أيضاً لتشمل العديد من المؤسسات التي من المفترض أن تدار بحسب النظم الإدارية والنصوص القانونية الحديثة ولكن ليقل القانون ما يقول ولتقدم الأساليب الإدارية ما تقدم، ففي النهاية لن تحل الأمور إلا من خلال “قعدة عرب”.

ولأن كنيستنا الإنجيلية في مصر هي نتاج هذا المجتمع فهي تتأثر به غالباً وتؤثر فيه أحياناً، فإنها ليست بمنأى عن هذه الظاهرة. فعلى مدار تاريخ كنيستنا كان الدستور هو النص الذي يحكم وينظم العمل. لقد اتبعت كنيستنا الأساليب الإدارية الحديثة في إدارة الكثير من أعمالها عبر السنين.

ولكن هذا يحدث عادة في الجلسات العلنية أو في القضايا الكبيرة. أما وراء الكواليس فإن الأمور تدار – وربما أكون مخطئاً في هذا الطرح – بالطريقة القبلية التي نتكلم عنها وكثير من القرارات والمشكلات يتم تناولها في “قعدة عرب”، ففي كل مجمع من مجامع السنودس هناك بعض الأشخاص الذين اكتسبوا خبرة السنين وحنكتهم الأيام فصارت لهم المرجعية على الباقين. واكتسبوا بمرور الزمن صفة يمكن أن تتساوى مع صفة كبير القوم أو شيخ القبيلة. فكثير من القرارات المتعلقة بسير الخدمة في المجامع وتسديد حاجات الخدام وحل المشكلات يتم اتخاذها من خلال هؤلاء الأشخاص في “قعدة عرب” وسواء اتفقت هذه القرارات مع الدستور أو لم تتفق، فالكل ينصت ويخضع لما يقرره شيخ القبيلة.

ورغم أن هذا النظام القبلي الذي تأثرت به كنيستنا قد ساهم في بعض الأحيان في حل مشكلة كنيسة ما أو ساعد خادماً ما على تسديد احتياج معين ولكن تبقى آليات هذا النظام خاضعة لما يراه شيخ القبيلة ويعتمد القرار على ما يملكه من نفوذ أو علاقات متنوعة أو ما تحت يديه من أموال. وقد لا يكون القرار موضوعياً بل يتأثر بمدى قرب أو بعد صاحب المصلحة عن شيخ القبيلة. فالأقربون هم أولى بالمعروف أما البعيدون فقد لا يحكم عليهم موضوعياً بل بحسب الاستحسان. وقد يقود هذا إلى إنصاف طرف على حساب طرف آخر أو إعطاء شخص امتياز ما في موقف معين وحرمان شخص آخر قد يكون في نفس الموقف لمجرد أن علاقته بشيخ القبيلة ليست على ما يرام.

حكي لي أحد الآباء الأفاضل أنه إبان تخرجه من كلية اللاهوت كان يطمح بتشجيع من أساتذته أن يستكمل دراسته العليا فذهب مع زميل له إلى أحد القادة الذين يشار لهم بالبنان لكي يطلب منه أن يتم تعيينه في القاهرة حتى يمكن أن يلتحق بإحدى الكليات التي قد تفتح المجال أمامه لدراسة متخصصة في الخارج بعد ذلك، ولكن هذا القائد انتهره وأعطاه درساً في الخدمة وإنكار الذات وضرورة الذهاب إلى صعيد مصر للخدمة في القرية وألا يطلب مثل هذا الطلب المرفه. وبعد أن انتهى هذا القائد من تعنيفه للشاب التفت إلى صاحبه الذي جاء معه وإذ به يطمئن هذا الصاحب بأن التوصية التي كان يريدها للدراسة في أوروبا على وشك الانتهاء وأنه سيجرى بعض الاتصالات لكي يسهل لهذا الصديق مأمورية الدراسة.

هنا نجد أن اختلاف الحكم على أمور وقضايا متشابهة ينتج بسبب غياب المنهج العلمي في إدارة أعمالنا والارتكان إلى رأي شيخ القبيلة أو من يعاونوه في اتخاذ القرارات. ربما يكون شيخ القبيلة حسن النية ويريد أن يساعد على قدر إمكانه ولكن من يضمن أن تأتي الأحكام عادلة وموضوعية. ولكن إذا أردنا أن نحقق إنجازاً يساعد كنيستنا على النمو والتكاثر والتماسك فإن الأمر يحتاج إلى السير بحسب رؤى واضحة وخطط مدروسة وأفعال محسوبة من خلال جلسات منظمة على رؤوس الأشهاد وليس في “قعدة عرب”. لقد سبقنا العالم في استخدام الأساليب العلمية والتحرك من خلال أهداف واضحة تنطلق من رؤية ثاقبة تقوم “بالفعل” لا “رد الفعل”، وليس عيباً أن تتعلم الكنيسة من العالم المحيط بها هذه الوسائل. إني أتمنى أن يسد السنودس المنافذ التي تجرنا إلى الحكم القبلي وأن يوجد الآليات التي تساعد على تطبيق مبادئ الإدارة الحديثة من أجل خدمة أفضل للمسيح وترتيب حقيقي للأولويات. أتمنى أن يفعل السنودس ذلك ولكن أرجو أن لا يكون هذا في “قعدة عرب”.

د. القس ثروت وهيب

* تخرج في كلية اللاهوت الإنجيلية في عام 2001م.
*أستاذ علم الإرساليات في كلية اللاهوت الإنجيلية.
*حصل على درجة الدكتوراه من لندن.
* عمل في هيئة الخدمة الروحية وتدريب القادة لمدة 12 عامًا.
ترأس مجلس العمل الرعوي والكرازي في سنودس النيل الإنجيلي من 2012 إلى 2020م.
زر الذهاب إلى الأعلى