لما جاء ملئ الزمان

أن ميلاد يسوع المسيح له كل المجد وتجسده في عالمنا حدث من الأحداث التي لا ولن تتكرر ثانية. وهنا قد يتساءل البعض عن دقة التوقيت الإلهي المختار لهذا الحدث الذي غير العالم كله وقسم التاريخ البشري إلي قسمين، قبل وبعد الميلاد. هذا التوقيت هو ما أطلق عليه الرسول بولس في رسالته إلى غلاطية “ملء الزمان”. فميلاد يسوع المسيح لم يكن صدفة، لا من حيث الزمان أو المكان أو حتى طبيعة البشر وأحوالهم. فعند الله سبحانه “لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السماء وقت” (جامعة 3: 1). تجسد المسيح كلمة الله الأزلي كان محددا بإعداد إلهي واضح في كثير من الأحداث التي تزامنت مع ولادة السيد المسيح والتي يتحدث عنها كتَّاب الإنجيل “الخبر السارة” ومنها التوقيت الذي ولد فيه شخص المسيح.
نرى دقة اختيار التوقيت الإلهي لميلاد المسيح و إتمام نبوات العهد القديم بكل تفاصيلها واضحة في الأحداث -علي سبيل المثال لا الحصر- التي دونها الإنجيل في قصة الميلاد، بداية من البشارة إلي السيدة العذراء مريم ليتم ما قيل بالنبي اشعياء في القرن الثامن قبل الميلاد “وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ»” (أش 7: 14).وقبلها البشارة إليصابات وزكريا الكاهن بولادة يوحنا المعمدان الذي اعد الطريق أمام السيد المسيح كما تنبأ عنه اشعياء النبي أيضا في قوله: “صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلاً لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ وَيَصِيرُ الْمُعَوَّجُ مُسْتَقِيماً وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلاً. فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعاً لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ” (اشعياء 40: 3-5).أو الاكتتاب الذي أمر به أغسطس قيصر والذي جعل الجميع يعود إلي مدينته ليكتتب فيها. مما دفع يوسف النجار خطيب القديسة العذراء مريم – في ذلك الوقت- أن يعود إلى يبت لحم لكونه من بيت داود وعشيرته (لوقا 2: 1-6). كما تنبأ ميخا النبي في القرن الثامن قبل الميلاد والقائلة: “أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ” (ميخا 5: 2). وهناك العشرات من النبوات التي تحققت في ميلاد المسيح التي لن يسعها مقال أو حتى عشرات المقالات. ولكن في هذا المقال ستناول بالشرح فقط ما ذكره الرسول بولس في الرسالة إلي غلاطية عن التوقيت الإلهي لميلاد المسيح انه “ملء الزمان”.فيقول في الإصحاح الرابع من الرسالة لأهل غلاطية بشأن ميلاد المسح انه تدبير الهي و خطة أزلية لخلاص البشرية وإتمام الفداء، فيقول الرسول بولس: “وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ. ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: «يَا أَبَا الآبُ» (غلاطية 4: 4-6).
فما هو المقصود “بملء الزمان”؟
يقول J. D. Douglasفي شرحه كلمة “ملء الزمان” the fullness of timeإنها تشير إلي عدة أمور منها:
الوقت المعين من الأب، حيث أصبح واضحا للجميع عجزهم و تقصيرهم علي الإيفاء بمطالب ناموس موسي أو الالتزام الفعلي بوصاياه حتى من قبل القائمين علي تعليمه وتحفيظه مثل: (الكهنة و الكتبة و الفريسيين، اللاويين) فجاء الشخص الوحيد الذي تمم كل وصاياه و هو المسيح.
الوقت الذي أشارت إليه كل النبوات السابقة وتحقق في ميلاد المسيح.
ذروة مسيرة التاريخ البشري المعد والخاضع لسلطان الله فكثير من النواحي، سياسيا و اقتصاديا ودينينا…الخ. مثلا سماح الله للشر أن ينتشر في الأرض بشكل واضح قبل ميلاد المسيح وسيطرة الشرير علي كثير من البشر حتي يدرك الجميع الحاجة إلي المخلص والفادي الذي قهر كل ممالك الظلمة والشر وانتصر عليهم كما أعطي لنا نفس الإمكانية للنصرة.
المعني اللغوي للكلمة “ملء” pleroma
تأتي الكلمة اليونانية المستخدمة “plh,rwma tou/ cro,nou” ملء الزمان من الفعل (plh;row)plarow بمعني (يملأ، يكمل، يتم، يستكمل شيء ما). وهي تستخدم للتعبير عن أحداث كثيرة منها:
إتمام واكتمال مرحلة الإعداد التي تسبق حدث هام
مثل: فترة الحمل التي تسبق الولادة يطلق عليها (بليروما) إلي اكتمال النمو اللازم للجنين وحان وقت الولادة، فلا مجال للتأخير بعد اكتمال أو ملء للوقت
فترة الإعداد والتجهيز التي تسبق مجيء ملك معين معروف ميعاده مجيئه أو زيارته مسبقا.
مثل: تجهيز الطرق أو الشوارع أو الأماكن التي سيزورها هذا الملك أو الرئيس عند مجيئه واكتمال هذه التجهيزات يطلق عليها في اليونانية “plhroma.” بليروما. ونفس الكلمة مستخدمة في مرقس 1: 15 “قد كمل الزمان (أي تم الإعداد والتجهيز) واقترب ملكوت الله” (مر 1: 15). وهذا الإعداد يشمل إصلاح الطرق والمنخفضات في الطرق و المعوجات أو الشعاب كله يصير بصورة لائقة مناسبة لمجيء هذا الملك العظيم فيتمكن الناس من رؤيته ويفرح الجميع بزيارته وهذا ما يقوله يوحنا المعمدان ” كل واد يمتلئ وكل جبل وأكمة ينخفض وتصير المعوجات مستقيمة والشعاب طرقا سهلة ويبصر كل بشر خلاص الله” لو 3: 5).
الوصول إلى النضج أو الانتقال من الطفولة إلي النضوج.
هذا المعنى واضح في كلمات الرسول بولس في الأعداد الأولى من الإصحاح الرابع في رسالة غلاطية. فيقول مادام الوارث قاصرا “غير ناضجا” لا يفرق شيئا عن العبد مع كونه صاحب الجميع، بل هو تحت أوصياء ووكلاء إلي الوقت المؤجل (النضج) من أبيه” (غلا 4: 1و2). وكأن بولس الرسول يقصد اكتمال نضج الزمان ليستوعب زيارة وتجسد رب المجد يسوع في عالمنا المحدود هذا. فلو جاء المسيح في وقت طفولة العالم فهل كان سيستوعب الحدث؟
مظاهر وعلامات “ملء الزمان” وقت ميلاد المسيح.
1- سياسيًا، حيث كان الحكم الروماني علي درجة كبيرة من التطور و النضج السياسي في إحلال الأمن و السلام وقمع أي محاولة للانقلاب أو أحداث شغب أو ثورات في المقاطعات الرومانية الخاضعة لحكم قيصر. حيث ضمنت قوة الدولة الرومانية وحزمها الشديد تقليص أي محاولة لإفساد النظام العام وامن وسلام المقاطعات الرومانية (هذا هو ما حاول شيوخ اليهود والفريسيون استخدامه وقت صلب المسيح) والجميع يعلم أن أورشليم وكل اليهودية كانت خاضعة لحكم روما وقت ميلاد المسيح.
كما تميز الحكم الرماني بالمرونة السياسية من حيث قبول التعددية الفكرية والسماح للدول الخاضعة تحت حكمها بممارسة عقائدها الدينية بحرية كاملة ودون تدخل منها في الشئون الدينية بل أعطت الحكم الذاتي للقائمين على شئون الدين حسب نظام أي ديانة وبالطيع هذا ينطبق علي اليهودية كما علي غيرها في ذلك الوقت. ولكن هذا لا ينفي قسوة العقوبات لمن يخالف نظام الحكم ويقاوم الإمبراطورية الرومانية والذي كان يصل إلي القتل والإعدام مثل: (عقوبة الصليب). لكن بوجه عام كان المناخ السياسي الروماني المتسامح المتحرر له دورا كبيرا في انتشار المسيحية بسرعة شديدة في ذلك الوقت.
2- ثقافيًا و فكريًا، كانت الثقافة الهيلينية “اليونانية” هي السائدة في كل ربوع البلاد الخاضعة للحكم الروماني ومنها اليهودية كما كانت اللغة اليونانية أيضا، وكلنا يعلم أن اللغة عامل أساسي في التعامل بين الشعوب بل تبادل الخبرات والأخبار يكون أسهل بين أصحاب اللغة الواحدة. وانتشار اللغة اليونانية “التي كٌتِب بها العهد الجديد” في ربوع البلاد الرمانية في ساعد علي توحد الفكر نسيبا وسهولة التواصل بين الناس. نعرف من التاريخ والموسوعات أن المعاملات الرسمية والأحكام الهامة كانت تكتب باليونانية حيث أنها اللغة الرسمية في التعاملات. ألعل هذا يفسر لماذا تم وضع لوحة مكتوبة بأكثر من لغة منها اليونانية: “هذا هو ملك اليهود” حيث انه الاتهام الموجه للمسيح. ويعكس انتشار اللغة اليونانية مقدار التسامح الروماني الثقافي والفكري، مما ساعد ذلك على سهولة التواصل وانتشار الفكر المسيحي “الكرازة”. كما سهل من وصول العهد الجديد والإنجيل مكتوبا باللغة اليونانية، هذا بالإضافة لاستخدام الصور والتشبيهات المعروف للقارئ من الثقافة اليونانية لتوصيل الحقائق الإيمانية المسيحية مثل (صورة الفداء، الجندي، الرياضي، أو الفارس وغيرها من الصور والمفردات المستمدة من الثقافة اليونانية).
3- في المواصلات والطرق، ربطت روما كل مستعمراتها بشبكة طرق ومواصلات آمنة ومعقولة بالمقارنة بالطرق والوسائل السابقة مثل السفن والخيول والدواب، حتي صار القول: “كل الطرق تؤدي إلي روما”. نظرا لمحاولة الدولة الرمانية بربط معظم مستعمراتها بالعاصمة الرمانية. وهذا انعكس في سرعة تتميم الإرسالية العظمى للتلاميذ في السفر والتنقل بسهولة وسرعة بين المقاطعات للكرازة بالمقارنة لما كان من قبل.
4- دينيا وروحيًا، ساهم التاريخ الديني الطويل والقاسي عند اليهود من السبي الأشوري أو البابلي إلى الاستعمار الروماني في خلق حالة من التعطش إلي مجيء المسيا المخلص وأن كانوا ينتظرونه من الناحية السياسية “منقذا ومخلصا سياسيا”. كما ساهم وجود التعددية الحزبية والطائفية في وقت المسيح مثل: (الفريسيون، الصديقيون، الهيروديسيون، الكتبة، الاّسينون، والغيورون) إلي حالة من التوقع والتشوق إلي منهج فكري يزيل كل هذا الغموض والتصارع الفكري بين هذه الجماعات والذي كان متوقعا عندهم في مجيء المسيا الآتي. كذلك ضعف الحالة الروحية عند الشعب والقادة حيث كانوا يركزون علي المظاهر الخارجية والطقوس بينما تركوا جوهر الوصية والناموس جعلهم يتطلعون إلى المنقذ “المسيا”.
ليس فقط في الأمة اليهودية بل تعدد الآلهة وعدم قدرتها علي إشباع عطش الإنسان المتعبد إلي الراحة والأمان الداخلي خلق أيضا حالة من الترقب والتعطش إلي الإله الحقيقي. فالإله المجهول الذي استخدمها بولس الرسول في الكرازة في أثينا لقيادة الناس إلي عبادة الإله الواحد الحي (أع 17: 22-32).
5- اجتماعيًا، كانت الحالة الاجتماعية في الدولة الرومانية ليست جيدة من حيث إن الزراعة كانت هي الحرفة السائد في معظم المستعمرات الرومانية بالإضافة لحرف أخرى مثل الرعي والتجارة…الخ). وساعدت الزراعة علي خلق استقرار سياسي من ناحية وتفرقة اجتماعية من ناحية أخري حيث ظهر الإقطاعيون وأصحاب الطبقة العليا (والتي يظهر انتقاد الرب يسوع لهم في تعاليمه لظلمهم واستبدادهم) كما ساهم في وجود فئة المهمشين وقطاع الطرق والفقراء الذين يشتهون أن يملئوا بطونهم من الفتات الساقط من مائدة الأغنياء، من ناحية أخري ظهرت فئة الطبقة المتوسطة من رجال الدين والمفكرين والفلاسفة والكهنة والذين كانوا ناقمين علي الظلم ولكن لا يقدرون إصلاحه والبعض منهم كان يتملق الأغنياء وأصحاب الطبقة العليا طمعا في كسب المادي حتي لو كان علي حساب المبادئ أو الفقراء أو العبيد والإماء. فمما لا شك فيه أن هذا أيضا قاد الكثيرين من الفقراء والمظلومين والمهمشين إلي إتباع المسيح الذي وقف بجانبهم و أشبعهم روحيا وجسديا في كثير من الأحداث. كما علم عن ضرورة الاهتمام بالفقراء والمساكين أهمية وفعل الخير معهم.
أخيرًا، أستطيع أن أقول إن الله كان يهيئ مسرح الأحداث والتاريخ لاستقبال الابن الوحيد المخلص والفادي الذي صحح الأوضاع المغلوطة ونشر الحب والسلام الحقيقي القائم علي المساواة والإيمان والعدل. فالله بحكمته الغنية والفائقة المعرفة وعلمه السابق وطرقه البعيدة عن الاستقصاء كان يعمل في كل الأحداث لاستقبال الكلمة المتجسد في الوقت المعين والمحدد في مشورته الأزلية. فلما “جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني” (غلاطية 4: 4و5). فميلاد المسيح لم يكن صدفة بل ترتيبا الهيا دقيقا في كل شيء في الزمان والمكان. فلنثق دائما في ترتيب الأب المحب لنا. فهو الذي قال: “أنا الرب في وقته أسرع به” (اشعياء 60: 22).