ميلاديات

التجسد وخطة الله الأزلية

من الضَّروري أَلَّا ننظر إِلى ميلاد يسوع المسيح كحدثٍ مُنفردٍ عن تاريخ الخلاص، بل هو تتميمٌ للعهد الَّذي قطعهُ الله أَزليًّا مع الخليقة. وعليه، يجب أَن نتساءل: ما هو العهد الَّذي يربط الله بالإِنسان؟ وما هو الهدف من إِتمام هذا العهد؟ وهل كان الله مُضطرًّا للتَّجسُّد نتيجة خطيَّة الإِنسان؟ أَسئلةٌ هامَّةٌ يُمكننا التَّفكير فيها من خلال ثلاثة مفاتيح أَساسيَّة:

العهد الأَزليّ

مُنذ الأَزل قرّر الله بمطلقِ حُرِّيَّتهِ أَن يدخل في علاقةٍ عهديَّةٍ مع الخليفة في المسيح يسوع (كو1: 16). وبموجب هذا العهد يُصبح الإنسان شريكًا حقيقيًّا لله، ويكون الله ضامنًا للعهد ومتممهُ. وعندما نتحدّث عن العهد فإِنَّنا نتكلّم عن اتفاقيَّة بين طرفين، فمصطلح «العهد» يأْتي من الكلمة العبريّة «berith»، ومن الكلمة اليونانيّة «diatheke»، كِلَا التَّعبيران يشيرا إِلى اتفاقيَّةٍ رسميَّةٍ أَو معاهدةٍ بين فريقين تُنشأ علاقة، يصحب ذلك دائمًا التزامات ومسئوليّات. ومن هنا يركّز لاهوت العهد وبشكلٍ أَساسيٍّ على العلاقة الإِلهيَّة الإِنسانيَّة الَّتي تأسّست في المسيح يسوع، فالله بكامل إِرادتهِ اختار أَن يدخل مع الإِنسان في شراكةٍ لا تنتهي، فَقَطَعَ العهد مع ابنهِ أَزليًّا، ليضمن استمراريّة العهد بل وتتميمهُ.

ويؤكد كالفن، على أَنَّه كان هناك عهدٌ واحدٌ بين الله والإِنسانيّة، هو عهدُ النِّعمة، الَّذي بدأهُ الله منذ الأَزل في المسيح يسوع. أَمَّا عن النَّماذج الَّتي تأْتي في العهد القديم كما مع (نوح، إِبراهيم، موسى، داود)، فهي صورٌ مختلفةٌ للعهد الأَوحد والممتدّ منذ الأَزل، فلا توجد هناك عهودٌ مُختلفةٌ، بل بالأَحرى كانت طرقًا مُختلفةً للتَّعبير عن هذا العهد.

الخليقة الحسنة

يتحدّث سِفْرُ التَّكوين في الإِصحاحات الأُولى عن الله الخالق، الَّذي أَبدع في تصميم هذا الكون الرّائع. وعندما انتهى الله من عملية الخلق هذه «رَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ، فَإذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا.» (تكوين1: 31). فالخليقة حسنةٌ لكنّها ليست كاملة. ولأَنَّ الإِنسانَ هو جزءٌ من خليقة الله الحسنة غير الكاملة، قرّر الإِنسانُ أَنْ يعيش بمعزلٍ عن الله، فسَقَطَ في الخطيَّة، فَجَلَبَ لنفسهِ الكثير من المعاناة والألم، وتأكّد لهُ أَنَّهُ لن يقدرَ على الاستمراريَّة بعيدًا عن الله. لذلك أَصبح الإِنسان في احتياجٍ شديدٍ للمُصالحة، وإعادة العَلاقة مع الله مَرَّةً أُخرى، وإِصلاح العهد. لكنَّه في نفس الوقت لا يستطيع بمحدوديّتهِ وخطاياهِ، فَأَخَذَ الله مسؤوليَّة تجديد العهد مَرَّةً أُخرى في المسيح يسوع، الَّذي تَجسَّد ليأخذ على نفسهِ ما استحقّهُ الإِنسان من عقابٍ، حتَّى يُتمّمَ العهد ويُعيد العَلاقة مع الله، فصار المسيحُ العهدَ في كمالهِ، والَّذي بهِ يربطنا بالله. هذه العلاقة العهديَّة، هي الضَّمان المؤكّد لنا في مسيرة الحياة، فبرغم كُلّ ضعفٍ فينا، لا يُمكن لشيءٍ أَن يفصلنا عن محبَّةِ الله الكاملة لنا في المسيح يسوع.

الرُّؤية الواضحة

يُعلّمنا الكتاب المقدّس أَنَّ التَّجسُّد لم يَكُنْ طارئًا على ذهنِ الله بسبب خطيَّة الإِنسان، لكنَّه منذ البداية هو الإِله الَّذي سيتجسّد. فالتَّجسُّد كان في فكر الله منذ الأَزل، لكنَّه تحقّق زمنيًّا في المسيح يسوع (1بُطْ1: 19، 20؛ كو1: 26، 27). وعليه، لم يصنعْ الله أَمرًا ما بطريقةٍ عشوائيَّةٍ (الخلق، التَّجسُّد، الفداء)، ولم يكُنْ الله مُضطرّاً للتَّجسُّد ليعالج خطأَ وخطيئة الإِنسان، لكنَّه وجّه التَّاريخ وهيّئهُ لاستقبال مولود بيت لحم، وذلك من خلال تاريخٍ طويلٍ في العهد القديم، هو تاريخ الخلاص «وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ.» (غَل4: 4). لذلك يتّضح لنا وبكُلِّ تأكيدٍ أَنَّ الله صاحب رُؤيةٍ واضحةٍ للتَّاريخ، فعندما يُخطئ الإِنسان هناك نِعمة الله، الَّتي تشملهُ، فتحرّرهُ من قيود الخطيَّة وسُلطانها، وتكسِر شوكة الموت وجبروتهِ، من خلال حياة وموت وقيامة المسيح يسوع. هذه الرُّؤية الواضحة تَطمئن قلوبنا حتَّى وإِنْ ساءت الظُّروف من حولنا، فهناك سَيِّد الأَرض كلّها ماسك بزمام الأُمور، ويوجّه التَّاريخ بحكمةٍ شديدةٍ وبقُدرةٍ عجيبةٍ نحو مجد الله وخير الكنيسة.

أَخيرًا، عندما نتأمّل في ما صنعهُ الله لنا منذ الأَزل في المسيح يسوع، تهتف الأَلسنة، وتبتهج القلوب، وتنحني الجباه، حمدًا وشكرًا على نِعمةِ الله الغنيَّة والْمُشبعة، لأَنَّه ترأف علينا كثيرًا، واهبًا إِيَّانا حياةً جديدةً، وخلاصًا ثمينًا.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى