فضل النصارى في سبقهم إلى معرفة اللغة العربية وانتشارها

كثيراً ما كنَّا نسمع في حداثة سننا بأنَّ اللغة العربية لغة القرآن، وأنَّها كلها إسلامية، وقد قرأنا في بعض كتب الأوربيين الذين لم يفقهوا الأمر، ورموا الكلام على عواهنه، على أنَّ اللغة العربية سبقت الإسلام، كما هو معروف، ونطق بها قبائل نصرانية.
لذا وجدتُ الباب مفتوحاً لإمكانية بحث أصيل ومتكامل حول بدايات اللغة العربية، معتقداً أن المكتبة العربية بحاجة ماسة إلى سدِّ هذه الثغرة فيها، وأنّ رفوفها ترحِّب بدراسة علمية تتناول فجر اللغة العربية.
وقادني البحث بعيداً، حتى أنَّني رجعت إلى بداية اللغة العربية في الجاهلية إلى القرن الثالث الميلادي، لأنني رجحت أنّ بعض الشعراء الأوائل عاشوا فيه؛ فصارت الفترة الزمنَّية موضوع بحثي تمتد إلى ثلاثة قرون كاملة، وهي القرون الواقعة ما بين القرن الثالث الميلادي والقرن السادس الميلادي قبل مجيء الإسلام.
فالحق أنني قد سَلَخْتُ من عمري سنوات طوالاً، لأجل إعداد هذا البحث، وعانَيْتُ في جمع مادته رحلة فريدة وعجيبة، حتى صدر الجزء الأول من كتابي (شعراء المسيحية في شبه الجزيرة العربية)، وسوف يليه قريباً الجزء الثاني إن شاء الله.
وأخيراً فهذا جُهدٌ متواضع، وبحثي هذا لا يمثَّل سوى لَبِنَةٍ من لبنات عمارة تاريخ اللغة العربية الشامخة، ومن المسلَّم به أنَّ باب الاجتهاد كان وما يزال مفتوحاً أمام الأجيال.
تاريخ اللغة العربية
ظهرت اللهجات العربية في الشرق الأدنى وفي شبه الجزيرة العربية، ودخلت التاريخ من باب الصحراء الواسع، ومع حضارة الناقة والجمل، ونَقَلَهَا أهلها من رمال الصحراء الجافة إلى واحاتها، ومنها إلى الحواضر النضرة التي كانت تقوم في جوف شبه الجزيرة العربية، لذا بقيت اللغة العربية حتى اليوم قريبة من السامية، و”السامية” هي أم اللهجات العربية، مسقط الأديان السماوية، ومهد الكتب المقدسة.
الساميون ومهدهم الأول:
يطلق العلماء اليوم على الشعوب الآرامية والفينيقية والعبرية والعربية واليمنية والبابلية (الآشورية)، لقب الساميين، وبتسمية لغات هذه الشعوب بـ “اللغات السامية”.
والتسمية لم تخترع اختراعاً، فهي مقتبسة من الكتاب المقدس الذي ورد فيه أنّ أبناء نوح هم: سام وحام ويافث، وأنّ القبائل والشعوب تكونت من سلالتهم (تكوين 10).
ويبدو أنّ اللغات السامية قبل تفرقها كانت ترجع إلى أصل واحد، إلا أنّ من العسير جداً تعيين ذاك الأصل، لأنّ المهد الأول للساميين ما يزال غامضاً مجهولاً، رغم أبحاث العلماء الكثيرة الواسعة الآفاق، ونكتفي بالإشارة إلى أن “أرنست رينان” الفرنسي، و”بروكلمان” الألماني يرجحان أنّ الموطن الأول للشعب السامي هو القسم الجنوبي الغربي من شبة الجزيرة العربية.
وفي دائرة الدراسات السامية حظيت لغتنا العربية بكثير من العناية، فكانت في نظر الباحثين، وفي طليعتهم العلامة “أولسهوزن”، أقدم اللغات السامية.
النصارى وكتبهم:
نحن لا نشك في أن نصارى عصر ما قبل الإسلام كانت كتبهم مدونة بين أيديهم يتلونها، وأنّ هذه الكتب لم تكن نسخاً قليلة العدد موقوفة على الرهبان والأحبار وحدهم، وإنما كانت كتباً كثيرة يتداولها النصارى.
وكان “ورقة بن نوفل” يكتب الكتاب العبراني، فيكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء أن يكتب، وكان التوارة والإنجيل مكتوبين بالعبرية أو السريانية، ومع ذلك فهذا لا ينفي أنّ هذين الكاتبين كانا يكتبان بالعربية، وأنّ بعض العرب كان يقرأهما بهذه اللغة، فنحن نعلم أنّ قبائل عربية كاملة كثيرة العدد كانت قد تنصرت4، فهل كان هؤلاء العرب لا يقرأون كتبهم الدينية؟ أو هل كانوا يقرأونهما باللغة العبرية أو بغيرها من اللغات؟ وهل من المعقول أن نفترض أنّ هؤلاء العرب كانوا حين يتنصرون يشترط فيهم أن يتعلموا العبرية أو الآرامية؟ الأقرب إلى العقول أن نفترض أنهم كانوا يقرأون كتبهم الدينية مترجمة إلى لغتهم العربية، وليس هذا الحق فرضاً أو استنتاجاً لا تدعمه النصوص، وإنما هو نتيجة أملتها علينا –مع سلامة المنطق- شواهد من الروايات تُثبت أنّ نصارى ما قبل الإسلام هم أصحاب اللغة العربية، فهي وثيقة أولى لا سبيل إلى التشكيك فيها.
ففي حديث “سويد بن الصامت” أنه قال للرسول: لعل الذي معك مثل الذي معي!! فقال: وما الذي معك؟ قال “سويد”: مجلة لقمان، فقال الرسول: أعرضها عليَّ، فعرضها عليه، فقال له: إن هذا لكلامٌ حسن والذي معي أفضل من هذا.
وخالد بن عُرفُطة حين كان جالساً مع عمر بن الخطاب، فأتى برجل من “عبد القيس” نسخ كتاب دانيال، فضربه عمر وقال له: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ولا تقريه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحداً من الناس لأنْهَكَنَّك عقوبة.
ثم قال عمر: انطلقت أنا فانتسخت كتاباً من كتب النصارى، ثم جئت به للرسول، فقال لي: ما هذا في يدك يا عمر؟ قلت: يا رسول الله كتاب انتسخته لنزداد علماً إلى علمنا، فغضب الرسول حتى احمرت وجنتاه.
يُفهم من هذه الأخبار والأحاديث أن هذه الكتب كانت مكتوبة بالعربية، وإلا فهل كان “سويد بن الصامت” يحمل معه مجلة لقمان، وهي مكتوبة بغير اللغة العربية؟ وهل قرأها على الرسول بتلك اللغة وفهمها الرسول؟ ثم هل كان هذا الرجل العربي من “عبد القيس” قد نسخ كتاب دانيال من لغة غير عربية؟ وهل نهاه عمر أن يقرأه وأن يقرئه أحداً من الناس بتلك اللغة غير العربية؟ وهل كان ذلك شأن عمر حينما نسخ كتاباً من كتب النصرانية فأغضب الرسول؟
النصارى أول من كتبوا العربية ما قبل الإسلام
كان النصارى يفننُّون في خطوطهم وكتاباتهم، ويحبرونها، ويذهبون فيها مذاهب من التجويد والإتقان، وكان هذا الخط المجوَّد المحبر المتقن يوصف بالترفيش والنمنمة والرقم والوشم والتنميق، وقد شبهها “أبو ذؤيب” بأن الكتابة العربية بلغت شأناً بعيداً في الزينة والجمال كعروس استكملت زينتها وبهاءها، وأبياتها كتبها “الأخنس بن شهاب التغلبي” المتوفي في 556م9، و”حاتم الطائي” المتوفي 605م، و”سلامة بن جندل” المتوفي 608م، كل هؤلاء وغيرهم يصفون كتابة النصارى باللغة العربية في القرون الأولى التي سبقت الإسلام.
وقد استبان لنا بالدليل المادي الملموس المتمثل في النقوش الحجرية المكتشفة، أنّ نصارى ما قبل الإسلام قد كتبوا الحروف العربية منذ مطلع القرن الرابع الميلادي، وكتبوا بهذا الخط العربي ثلاثة قرون قبل الإسلام على أقل تقدير.
كما أنّ معرفة نصارى العرب في الجاهلية بالكتابة معرفة فيها شيء من الانتشار يُبعد عنهم ما وُصموا به من الجهل بها، والدليل قيام “الكُتَّاب” آنذاك، وتوافر عدد المعلمين الذين كانوا يعلمون الكتاب.
النصارى وتعليمهم لقومهم الكتابة
أول خدمة أدَّاها نصارى العرب في الجاهلية، تعليم قومهم الكتابة، وهي قضية يشهد عليها تاريخ الكتابة العربية وأصولها.
وجود المعلمين النصارى عصر ما قبل الإسلام أمر ثابت منصوص عليه في وضوح لا يقبل الشك، فقد عقدت بعض المصادر العربية فصلاً خاصاً أثبتت فيه جريدة بأسماء المعلمين النصارى في الجاهلية.
وأما تعلم العربية في مدارس خاصة، فقد ذكر “ابن سعد” و”الطبري” أنّ “جفينة” وكان نصرانياً من أهل الحيرة، زوج مرضعة “سعد بن أبي وقاص”، أقدمه ليعلم بالمدينة الكتابة.
وذكر “الطبري”، أنه حين نزل “خالد بن الوليد” (الأنبار) رآهم يكتبون العربية ويتعلمونها، وقال “ياقوت”: “إن خالد بن الوليد لمَّا خرج إلى عين تمر وجدوا في كنيسة صبياناً يتعلمون الكتابة في قرية من قرى عين التمر، يقال لها النُقَيرة، وكان فيهم “حمران” مولى “عثمان بن عفان”.
وذكروا كذلك أنّ “عَدِيّ بن زيد العبادي” المتوفي 587م، حين نما، طرحه أبوه في الكُتَّاب، حتى حذق العربية.
فقد كان إذن قبل الإسلام معلمون نصارى يعلمون القراءة والكتابة، وقامت في تلك البيئات المتحضرة مثل: مكة والمدينة والطائف والحيرة والأنبار وغيرها، مدارس يتعلم فيها الصبيان الكتابة والقراءة.
وعلى ضوء ما قدمنا نستطيع أن نفهم فداء الأسرى النصارى في (بدر) حين أذن الرسول لمن كان كاتباً من الأسرى أن يفدي نفسه بتعليم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة.
إذ لا ريب أن هذا الإذن لم يكن منصبَّاً على حالة فردية، وإنما يدل على أن هؤلاء الكاتبين من الأسرى النصارى كانوا جماعات.
لفظ من عدة ألفاظ كثيرة، وصف بها نصارى ما قبل الإسلام، كمالات الله.
أثبتنا فضل النصارى في سبقهم إلى الكتابة العربية، وليست غايتنا هنا أن نتتبع كل مفردات لغتنا العربية الشريفة، فنروي ما جاء منها على ألسنة النصارى في العصر الجاهلي، فإن ذلك مستحيل، فالمجال لا يسمح، ومع هذا اقرارنا بذلك يمكننا أن نروي لفظاً يدل على: “الله تعالى”.
إن الوثنية كانت عمَّت قبل المسيح كل جهات شبه الجزيرة العربية، فإن وجدنا فيها ديانة تصف كمالات الله تعالى، فلابد من القول أن العرب الذين فاهوا بها كانوا نصارى لأنهم كانوا منبثَّين في كل أنحاء شبه الجزيرة العربية.
فاللفظ (الله تعالى)، لا مراء بأنّ اسمه عزَّ وجلَّ كالإله الحق، سبحانه وتعالى قد سبق عهد الإسلام، وشاع في كل أنحاء العرب.
أما اشتقاق هذا الاسم، فلم يتَّفق عليه كتبة العرب، وقد زعموا غالباً أنَّه عربي وأنه مركبَّ من لفظة (إله) مسبوقة بـ (ال التعريف)، كأنَّه (الإله)، اختصروه بالله.
أمَّا علماء اللغات الساميَّة فيجمعون على أنّ هذا الاسم مشتق من أصل آرامي (إيل)، مفخم بزيادة (الهاء)، فجاء في الكلدانيَّة والسريانيَّة على صورة (آلَهَا)، فقالوا بالعربية الله بـ (لام) أصليَّة مفخمَّة، وقد جاء الاسم الكريم في الكتابات النبطَّية والصفويَّة، فـ (النبطية) ذكرته منسوباً إليه: كـ “زيد الله وعبدالله” وورد في الكتابات الصفوية منفرداً.
ولمَّا كانت النصرانية دخلت إلى بلاد شبه الجزيرة العربية خصوصاً من جهة الشام، وتمكَّنت بين أحياء (النبط) أطلقوا اسم الله في لهجتهم على (الإله الحق)، كما شاع بين طوائف السريان، ونقلوه في أسفار العهدين القديم والجديد منذ أوائل القرن الثاني للمسيح.
وخلاصة القول أنَّ (اسم الله) دخل شبه الجزيرة العربية بنفوذ النصرانية، وعليه قد تكرر هذا الاسم الكريم في شعر ما قبل الإسلام الذي كان معظمه لشعراء نصارى من قبائل نصرانية كربيعة وبكر وإياد وغيرهم، وأكتفي بإيراد أقوال بعضهم في الاسم الكريم على صورتيه (الله)، أو (إله).
قال “زيد بن عمر” النصراني، المتوفي 619م:
إلى الله أُهدي مدحتي وثنائيــا وقولاً رصينا لا يني الدهرَ باقيا
إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقَه إلـهٌ ولا ربٌ يكـــون مـدانيا
رضيتُ بك اللهم ربَّاً فلــن أُرىَ ادين إلهــاً غيـرك الله ثانيـا
وقال “الأعشى” الشاعر النصراني المتوفي 629م:
وذا النُّصُب المَنْصوبِ لا تسْكنَّنهُ ولا تعبدِ الأوثـان والله فاعبـدا
وقال “أوس بن حَجَر” النصراني المتوفي 620م، يقرب من اسم الإله اسم الرب:
أطعنا ربَّنـــا وعصــاه قومٌ فذقنـا طَعْم طـاعتنا وذاقــوا
هذا دليل على أن النصرانية هي التي بعثت اللغة العربية إلى حيَّز الوجود، وقد نحار من طبيعة اللغة العربية التي نحرر بها اليوم، نحن معشر عرب القرن الحادي والعشرين، المؤلفات الأدبية والعلمية والسياسية والمقالات والصحف والفتاوي والرسائل والعرائض الرسمية وأدب الدواووين والدوائر الحكومية وأمور شؤوننا الحياتية.
وقد نحار أيضاً، حين نحاول إيجاد تسمية تنطبق تمام الانطباق على هذا النوع من اللغة العربية، ومنهم من يسميه اللغة العربية المكتوبة الشائعة، ومنهم من يُطلق عليه لقب “لغة الجرائد”.
لقد غزت البلاد العربية أفكار وآراء ونظريات مغرضة، خلاصتها أنّ اللغة العربية الفصحى جامدة، وأنها في طريقها نحو الزوال، فسعى البعض من المستعمرين إلى إحلال اللغات الأجنبية محلها، وأدَّعوا أنّ اللغات الأجنبية حيَّة، إذ تحمل مضامين الحضارة والتقدم، بينما اللغة العربية الفصحى هي لغة متأخرة، أصيبت بالهَرِم والعقم، لذا نادوا بنبذها من البيت العربي والمدرسة والشارع والمعمل.
فجاء حافظ ابراهيم بقصيدته: “اللغة العربية تنعي حظَّها بين أهلها”:
رَجَحْتُ لنفسي فاتَّهمت حصاتي وناَدْيتُ قَوْمي فاحْتَسَبْتُ حياتي
رَمَوْني بعُقْمٍ في الشباب ولَيْتَني عَقِمْتُ فلم أجْزَعْ لِقَولِ عُـداتي
أنا البَحْرُ في أحشائِه الدُّرُ كامِنٌ فهل ساءلوا الغَّواصَ عن صَدَفاتِي
فلا تَكِلوني للزمـــانِ فإنّني أخافُ عليكمْ أنْ تَحِينَ وَفَـاتي
أرى كلَّ يومٍ بالجراَئِدِ مَزْلقــاً مِنَ القبر يُدْنيني بغير أنــاةِ
أَيَهْجُرُني قومي –عفا اللهُ عَنْهُمُ- إلى لغةٍ لم تَتَّصِلْ بِـــرُواةِ
والفصحى، وهي أداة تواصل الشعوب العربية، قاوَمَتْ هذا الغزو الذي أراد أن يطالها، وهي في عقر دارها، وقاومت بنجاح الغزو الخارجي، ولم تتأثر بالجوار ولم ترضخ للتفسخ الداخلي، فتصدت للغات الأجنبية، وحدَّتْ من انتشارها، وأظهرت للملأ أنَّها لا تزال خالدة، واللغة وسيلة، وإذ ضاع العمر في تحصيل الوسائل، فمتى نظفر بالغايات والمقاصد؟، ولن تحقق اللغة العربية الأهداف إلا إذا استمرت في الاستعمال، مواكبة قضايا العصر وشئون الساعة، مسايرة ركب الحضارة، معبرة عن الكشوف والاختراعات والعلوم والتقنيات، ولا يتم ذلك إلا بتبني الوسائل الحديثة والمتطورة والتي تيسر انتشار الفصحى دون أن تُمس جوهرها؛ فهي لغة جديرة بكل اهتمام، والبقاء للأفضل، والاستمرار للأقوى.