الطريق إلى الصليب

أولًا : ثَبَّت وجهه نحو الصليب (لوقا 9: 51)
- جاء المسيح إلى العالم ليتمم خطة الله لفداء الإنسان. مات المسيح على الصليب وقام لينفِّذ تدبير الله لخلاص الإنسان منذ تأسيس العالم.
- لم يصلب المسيح رغمًا عنه، بل ذهب إلى الصليب طوعًا. وكل ما عمله وعلَّمه، كان لتحقيق هدفه وهو فداء الإنسان. حاولت الجموع أن تخطفه وتجعله ملكًا على اليهود، فرفض وانصرف عنهم. (يوحنا 6: 15).
- لم يكن المسيح شهيدًا، غَدَرَ به اليهود، وحاكموه أمام كهنة حقودين ووالٍ ضعيف خائف، وصلبوه فمات شهيدًا مثل غيره من الشهداء. كذلك لم يمت المسيح لأجل قضية، بل مات لأجل الإنسان، لقد ثبت المسيح وجهه نحو أورشليم والصليب.. عازمًا على تنفيذ فداء الله للبشرية.
ثانيًا : ملكوت الله.. ملكوت السماوات
لم يأتِ المسيح ليؤسس مملكة على الأرض، شأن ممالك العالم المختلفة.. تحدث بذلك دائمًا لمن حوله وهو يتكلم معهم. وأثناء محاكمته أمام بيلاطس الوالي قال له المسيح : “ممَلكَتيِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الَعَالمَ” (يوحنا 18: 36).
- أعلن المسيح أن مجيئه إلى الأرض تحقيقًا لملكوت الله (متى 4: 17، 10: 7). تكلم وعلَّم عن ذلك الملكوت مع تلاميذه (أعمال الرسل 1: 3).
- أكد المسيح أن ملكوت الله هو حكم وسلطان الله، الذي يجريه عاملًا الفداء، ومنقذًا البشرية من سلطان الظلمة، وقد كانت حياة المسيح تجسيدًا وإعلانًا لتحقيق هذا الملكوت الذي كرز به المعمدان وتنبأ عنه الأنبياء ( مرقس 1: 15).
- ملكوت الله، حياة يبدأها المؤمن من هذا العالم ويكملها في العالم الآخر عابرًا بها جسر الموت حيث يحيا في حضرة الله إلى الأبد(متى21: 31).
- ملكوت الله يختص بالزمان الحاضر أيضًا. هذا الملكوت، تعيشه جماعة المؤمنون هنا على الأرض، ويتمتعون به تحت سلطان الله ، وهم يخدمون بعضهم بعضًا في ودٍ ومحبة.
- في الصلاة الربانية، أظهر المسيح العلاقة والتناظر بين ملكوت الله في السماء وملكوت الله على الأرض : “لِيَأتِِ مَلَكُوًتكَ. لِتَكُن مَشِيَئُتكَ كَمَا فيِ السَمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ” (متى 6: 10).
ثالثًا: ملكوت الله في الحاضر والمستقبل (متى 13، 25)
1- رسم المسيح صورة ملكوت الله في الحاضر في حياة المؤمن على الأرض بأمثال منها:-
أ. حبة الخردل (متى 13: 31-32)، حبة صغيرة تغرس في الأرض، فتنبت، وتكبر، وتصبح شجرة كبيرة منتشرة الظلال، كثيفة الفروع والأوراق، يستظل بها الإنسان، وتُؤوى بها الطيور.
ب. الخميرة (متى 13: 33) خميرة صغيرة هادئة ساكنة، ما أن توضع في العجين حتى تخمره. هذا ما يريده المسيح من المؤمن، ودوره في انتشار ملكوت الله على الأرض.
2- ورسم المسيح صورة ملكوت الله في المستقبل، وحياة المؤمن الأبدية السماوية بأمثلة منها:
أ. الحِنطة والزوان (متى 13: 24-30)، نما الزوان جنبًا إلى جنب مع الحنطة في الحقل، ولم يقلعه الزارع، بل تركهما حتى الحصاد. وعند الحصاد، جمع الزوان وأحرقه، أما الحنطة فحفظها في مخزنه.
ب. العذارى (متى 25: 1-13) سهرن جميعًا، خمس حكيمات وخمس جاهلات، وانتظرن العريس حتى منتصف الليل للقائه. ولما جاء دخلت الحكيمات المستعدات ومصابيحهن الممتلئة بالزيت مضيئة، وتخلفت الجاهلات غير المستعدات لأن مصابيحهن كانت تنطفئ، وأغلق الباب أمامهن.
ت. الوزنات (متى 25: 14-30)، سَلَّمَ السيد لعبيده وزنات مختلفة. عمل البعض، وجاهد وتاجر وربح، وحصل على رضى ومكافأة السيد حين عاد من سفره. ولم يعمل البعض الآخر، وتكاسل وتخاذل، ونالوا غضب السيد وعقابه.
ث. أمام العرش (متى 25: 31-46)، يصور المسيح في هذا النص لقـاء الحساب بين الله والأبرار والأشرار، وثواب ما عمله الأبرار مع الفقراء والمعوزين، وعقاب الأشرار على ما لم يعملوه.
رابعًا : المسيح يُخبر عن أحداث الصليب
- كان المسيح يعرف تمامًا كل ما سيواجهه من أحداث الصلب والآلام والموت، يكتب يوحنا البشير: “فَخَرَجَ يَسَوُعَ وَهُوَ عَالمٌ بِكُلَ مَا يَأَتيِ عَلَيِه” (يوحنا 18: 4). حتى خيانة يهوذا الإسخريوطي كان يعرفها: “لأَنَهُ عَرِفَ مُسَلِّمه” (يوحنا 13: 11). وكان يعرف ذلك كله من الله الآب “كما علَّمني أبى” (يوحنا 8: 28) ومن الكتب والنبوات “لاَبْد أَنْ يَتِمَّ جمَيِعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنيِ” (لوقا 24: 44).
- وصرح المسيح بما كان يعرف لتلاميذه. وكان يشير إلى المكتوب عنه في النبوات ليفهموا وليؤمنوا “قَدْ كَلَّمَتُكُم بهَذَا حَتى إِذْا جَاءَتْ الْسَاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنى أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ” (يوحنا 16: 4). “وَقُلْتُ لَكُمْ الآَنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ” (يوحنا 14: 29).
- وتحدَّث المسيح، وصرح بما يعرف لتلاميذه برموز وأمثال (مرقس 12: 1-12) في مثل صاحب الكرّم والكرَّامين يجمع المسيح بدقة في هذا المثل بين الماضي والحاضر. الإنسان صاحب الكلام رمز الله. غرس الكرم، واعتنى به جيدًا، وسلَّمه كاملًا للكرامين. هؤلاء الكرامون يرمزون إلى القادة والرؤساء المسئولين، وكان رؤساء الكهنة وقادة الشعب والفريسيين حوله، يسمعون المثل، ويدركون أنهم هم المقصودون به. وأرسل صاحب الكرم عبيده واحدًا وراء الآخر ليأخذ من ثمر الكرم. هؤلاء العبيد هم الأنبياء الذين توالوا في القديم. إلا أن الكرامين ضربوهم، وجلدوهم، ورجموهم، وقتلوهم، وأعادوهم فارغين.
وأخيرًا أرسل صاحب الكرم ابنه الوحيد الحبيب، (يسوع المسيح..) عرفوا أنه الابن الوحيد، وارث الكرم، فأخرجوه خارجًا وقتلوه. صورة رمزية وقتية قدمها المسيح.
4- وتحدث المسيح وصرح لتلاميذه بما يعرف بوضوح وبكلام مباشر : –
أ. قال علانية وبوضوح إنه سوف يتألم، ويقتل، في اليوم الثالث يقوم. (متى 16: 21، مرقس 8: 31، لوقا 9: 22).
ب. مرة أخرى يعلن المسيح، أنه سوف يُسَلَّم إلى أيدي الناس، فيقتلونه وأنه سيقوم في اليوم الثالث ومع أنه طلب من تلاميذه أن يضعوا ذلك الكلام في آذانهم، إلا أنهم لم يفهموا ما قصده المسيح، وخافوا، وحزنوا جدًا لما عرفوا ما سوف يتم مع السيد. (متى 17: 22،23، مرقس 9: 31،32، لوقا 9: 44،45).
ت. وعند صعود المسيح إلى أورشليم، وتلاميذه يتبعونه متحيرين، حدَّثهم على انفراد، وكشف لهم عن جميع الأحداث التي ستتم معه بالتفصيل. وأيضًا لم يفهموا، فقد كان الموضوع صعبًا عسيرًا على آذانهـم. (متى 20: 17-19، مرقس10: 32-34، لوقا 18: 31-34).
خامسًا : علامات على الطريق
هناك أحداث على الطريق، تركت أثرها في عقول وقلوب التلاميذ، ومع أنهم وقت حدوثها لم يفهموها تمامًا، إلا أنهم تداركوا وفهموا كل شئ بعد الصليب.
- التجلي (متى 17: 1-8، مرقس 9: 2-8، لوقا 9: 28-36). اصطحب المسيح تلاميذه، بطرس ويعقوب ويوحنا، وصعدوا إلى الجبل. على انفراد، وجلس المسيح يختلي بنفسه ليصلي. وفجأة تغيرت هيئته، وأصبحت ملابسه بيضاء منيرة، وظهر معه النبيان موسى وإيليا، وكانوا أيضًا في بهاء ومجد، ملتحفين بثياب بيض لامعة. وتحدثا معه عن خروجه إلى أورشليم لإتمام خطة الله له. وهز المنظر بطرس، فطلب أن يبقوا جميعًا على الجبل، ويصنعوا ثلاث مظال، للمسيح واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة. وظللتهم سحابة، وصار صوت من السماء يقول : “هَذَا هُوَ ابْنيِ اَلحَبِيبَ. لَهُ اسمْعَوُا”. وبعد انصراف النبيين، ونزول المسيح مع تلاميذه من على الجبل، أوصاهم أن يحتفظوا لأنفسهم بما شاهدوه، إلى أن يقوم من الموت… ولم يفهموا ما معنى أن يقوم من الموت.
- قارورة الطيب (متى 26: 6-13، مرقس 14: 3-9، يوحنا 12: 1-8). في بيت عنيا، وفى ضيافة لعازر ومرثا ومريم على العشاء.. قامت مريم، وجاءت بقارورة طيب ناردين ثمين، وكسرت القارورة، وسكبت ما بها على قدمَيّ المسيح، وأخذت تمسح قدميه بشعرها. ملأ الطيب المكان برائحته، ووسط إعجاب البعض، تعالت بعض أصوات الاحتجاج على هذا الإسراف، وثمن الطيب غالٍ. واعترض يهوذا الإسخريوطي قائلًا : إنه كان من الممكن بيع ذلك الطيب، وتوزيع ثمنه على الفقراء. لم يقل ذلك رحمة بالفقراء، بل طمعًا في المال… رفع المسيح رأسه وقال : “اَترُكُوهَا إِنهَا لِيَومُ تَكْفِينيِ قَدْ حَفَظَتْهُ” مرة أخرى يسمع التلاميذ إعلان المسيح عن الصليب ولا يفهمون.
- دخول المسيح إلى أورشليم على سعف النخل ( متى 21: 1-11، مرقس 11: 1-10، لوقا 19: 29-40، يوحنا 12: 12-19).على مشارف أورشليم أرسل المسيح تلميذين إلى قرية قريبة من الطريق؛ ليأتيا إليه بجحش صغير، وأتيا بالجحش ووضعا عليه ثيابهما، وركب المسيح، ودخل إلى مدينة أورشليم. ورآه الناس داخلًا، وتزاحموا حوله، وفرشوا ثيابهم على الطريق تحت أرجل الجحش، وقطعوا أغصان الشجر، وسعف النخل، وألقوها على الأرض أيضًا، وكانوا يصرخون قائلين : “مُبَاَرَكُ المَلِكُ الآَتيِ بِاْسمِ الْرَّبَّ. سَلاَمٌ فيِ الْسَمَاءِ وَمجَدٌ فيِ الأَعَاليِ”. واعترض الفريسيون، وطلبوا من المسيح أن يُسكت التلاميذ، فقال لهم : “إِنْ سَكَتَ هَؤُلاءِ فَالحِجَارةُ تَصْرُخُ”. ودخل المسيح المدينة في طريقه إلى الصليب.
- غسل أرجل التلاميذ (يوحنا 13: 1-20). وأراد المسيح أن يوصي تلاميذه وصية هامة يتركها لهم، عن التواضع وخدمة بعضهم البعض. كان يعرف ما سوف يواجهونه بعد موته من معاناة واضطهاد وصراعات. أرادهم أن يكونوا مترابطين بالمحبة وإنكار الذات. كانوا على مائدة العشاء، وكما يقول البشير يوحنا أن المسيح وقد عرف أن ساعته قد جاءت، قام عن العشاء. واتَّزر بمنشفة، وصب ماء، وبدأ يغسل أرجل التلاميذ، ويمسحها بالمنشفة، بشكل عملي، وضع المسيح أمام التلاميذ نموذج حياة التواضع.
- العشاء الأخير (متى 26: 26-29، مرقس 14: 22-25، لوقا 22: 14-23). أعد بطرس ويوحنا الفصح، وجلس المسيح مع تلاميذه؛ لتناول آخر عشاء له معهم قبل الصليب. وكسر الخبز وقدمه لهم، جسده المبذول عنهم، والكأس دمه المسفوك لأجلهم. وأعلن المسيح أن أحدهم سوف يخونه.. وفى ارتباكهم وسؤالهم مَن يكون؟،قال لهم : الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني. وكانت يد يهوذا في الصحفة. وأوصاهم أن يحبوا بعضهم بعضًا… ومنذ بداية المسيحية، والمسيحيون يمارسون هذا العشاء الرباني في كنائسهم وحتى اليوم؛ ذكرى صليب المسيح وقيامته.
سادسًا: تلخيص
سار المسيح الطريق كله إلى الصليب. كان وجهه طول الطريق في مواجهة الجلجثة. جاء ليتمم خطة الفداء، ببذله نفسه عن كل البشر، منذ آدم حتى اليوم الأخير. وعلى الطريق أعلن عن ملكوت الله وشرح معناه. وعلى الطريق أعلن عن موته وقيامته. أعلن ذلك بالرمز والمثل وبالكلام الصريح المباشر. لم يفهم تلاميذه حينئذ ما قال، لكنهم فهموا كل شئ بعد قيامته من الموت. وترك المسيح علامات على الطريق. وهو على جبل التجلي بين موسى وإيليا، وهو يَقبَل طيب مريم على قدميه لتكفينه، وهو يدخل أورشليم راكبًا جحشًا، وهو ينحني يغسل أرجل تلاميذه، ثم وهو يتناول العشاء الأخير معهم… وهكذا يقودنا الطريق… طريق المسيح… إلى الصليب.
سابعًا: دعاء
وأنا أرقبك تسير في طريقك نحو الصليب، يخفق قلبي ألمًا، وأنا أرى كل خطوة تخطوها تقربك من الألـم والموت.. كم قاسيت لأجلي يا رب.. كم تحملت.. كم بذلت.. شكرًا لأجل هذا الحب العجيب، الذي جعلك تصنع ذلك كله لي ولكل البشر؛ لترفع عنا حكم بالموت.. بكل التقدير والشكر والخضوع، أسلمك قلبي وحياتي، تعبيرًا عن قبولي لك ربًا وسيدًا ومخلصًا. في اسم المسيح اقبلني. اجعلني ابنًا لك. والرب معك آمين..